أخلاق المؤمن

أحمد طاش غاتيران

"أخلاق المؤمن" هي نتاج قلب مؤمن. إذا ما كانت المجتمعات المؤمنة تعاني من مشكلة في الأخلاق ـ وهي تعاني بالفعل ـ فعندها يجدر بنا أن نفكر بوجود مشكلة في قلب المؤمن

المؤمن هو المفعم بالإيمان والذي يمنح من حوله الإحساس بالثقة، أما المسلم فهو الذي يؤمن بالإسلام ويدرك العلاقة بين السلام والطمأنينة والشعور بالأمان

الأخلاق هي الإطار الذي يحدد العلاقات الإنسانية، وأخلاق المؤمن جوٌ من الثقة يبثه المؤمن في كل علاقاته مع الناس في مختلف مجالات حياته

وقد وضع الرسول الكريم ﷺ أسس أخلاق المؤمن في الإطار التالي

"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"

ويمكن فهم هذا الإطار على أنه "عدم إيذاء الآخرين". والجانب الآخر المتقدم لهذه الميزة هي "عدم التأذي من أي أحد"

عدم إيذاء الآخرين يعني التجنب التام للتصرف معهم بشكل سلبي، أما التأذي فهو ـ إضافة إلى كونه التعرض لقوة فعلية ـ انكسار القلب

فالمؤمن يكون منتبهاً للغاية ويراعي شعور غيره من الناس، لكي لا يسبب له ألماً أو يكسر قلبه

وعدم التأذي من تصرفات الآخرين هو عدم الشعور بالسلبية وإظهارها للطرف الآخر، حتى إزاء الأفعال الخاطئة التي يقوم بها. هو عبارة عن آلية يقوم بها القلب للتخلص من المشاعر السلبية التي تتجمع مع الوقت، وتؤدي إلى ردود أفعال سلبية

فأخلاق المؤمن- بناء على ذلك- تتطلب قواماً معيناً للقلب

يمكن وصف هذا القلب بـ "القلب المشبع" أو بحسب الوصف القرآني "القلب المطمئن"

إنه القلب الذي وصل إلى برَّ الاطمئنان، هو القلب المشبع بذكر الله. وهذا يعني إدراك المعية مع الله تعالى في كل لحظة

والقلب المشبع بذكر الله لا تدخله المشاعر الهدامة كالغضب والحقد والحسد، وبالتالي لا يندفع الشخص إلى القيام بتصرفات نابعة من هذه المشاعر

ليست المعية مع الله جل جلاله بالأمر الذي يستهان به، فالقلب الذي يكون مع الله تعالى هو قلب حي نابض لا يتصرف بما لا يرضي الله تعالى

والقلب المشبع هو في نفس الوقت قلب تَخلص من الآلام والعطش الروحي، قلب متوكل لا يطالب أحداً بأي مقابل فهو مشبع بـ "حسبي الله" وهو لهذا السبب قد بلغ السكينة والطمأنينة، قلب طاهر متوازن لا يخالجه الخوف أو القلق. وكل هذه الصفات تعد المبادئ الأساسية والقاعدة العريضة للأخلاق المتوازنة

إذا كانت المجتمعات المؤمنة تعاني من مشكلة في الأخلاق ـ وهي تعاني بالفعل ـ فعندها يجدر بنا أن نفكر بوجود مشكلة في قلب المؤمن

إن الإسلام نهى عن الاستهزاء بالآخرين حتى بأسلوب الهمز واللمز وعن السخرية والنميمة، فكل من تمتد يده حاملاً سلاحاً كان أم لم يكن، لِتطال حقوق مؤمن آخر أو أي إنسان آخر، فهذا يعني أنه غير منضبط بقواعد الأخلاق التي ينص عليها الإسلام لتشكل نسيج شخصية الإنسان

لقد باتت أخلاق الإسلام تصرفات مثالية فاضلة بعيدة عن الواقع في المجتمعات المسلمة، وفي هذا دلالة على مشكلة عميقة في علاقة المجتمعات المسلمة بالإسلام. ودين الإسلام يدعو إلى الرفق حتى بالحيوان وعدم تحميله أكثر من استطاعته ولا يُجيز تعنيفه أو ضربه، وينهى عن إطالة الحديث مع الآخرين أثناء امتطاء الدابة

وهكذا فإن قيام أتباع دين يصف إماطة الأذى عن الطريق بأنه "صدقة" بإشغال الطرقات يدل على وجود مشكلة خطيرة

لقد وصف الله تعالى الرسول ﷺ في القرآن الكريم قائلاً: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم 4]. وبيّن الرسول ﷺ المهمة التي جاء من أجلها في الحديث الشريف: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"

بالنظر إلى ما ورد في القرآن الكريم فإنه بوسعنا أن نرى أن رسول الله ﷺ هو "نبي الأخلاق"، وبالنظر إلى ما جاء في الحديث الشريف نرى أن دور الأخلاق هو "تعريف المهمة"

إذن يجب أن نرى كل المبادئ التي نص عليها الإسلام في شخص الرسول الكريم ﷺ، وأن نعتبره "قدوة أخلاقية" نتبعه ونحذو حذوه ونصطبغ بصبغته أي أن ننظر إلى أخلاقه

إن كل الكتب التي ذكرت فيها أخلاق الرسول ﷺ تكلمت عن

"تواضع رسول الله ﷺ وكرمه وتقواه ورأفته ولطافة طبعه ورحمته وعطفه وعفوه ومراعاته حق الجار وحسن معاملته للفقراء والأسرى والخدم وطيب معاملته للمرأة والأيتام ورفقه بالحيوان وأدبه وحيائه"

مثلاً جاء في "أدب الرسول وحيائه" أنه كان "أشد حياءً من العذراء في خِدرها." بحسب تعبير الصحابة

إن النظر إلى كل ذلك بغرض التعرف على صفات وخصال شخصية تاريخية لا يعني تمثل "الأخلاق المحمدية"، فتمثل الأخلاق المحمدية يعني التطبع بطباع الشخصية المحمدية والتحلي بكل صفات رسول الله ﷺ

قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر] ) وهذا يعني التطبع بخصال رسول الله ﷺ سواء في الأسرة أو في العمل أو في الحياة الاجتماعية... أي في كل جوانب الحياة

فلنتفكر في الأخلاق التي ينص عليها القرآن الكريم؛ فهو يذم أن يمشي الإنسان بتكبر وكأنه سيخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولاً

فلنتفكر في القرآن الذي يدعو الإنسان إلى الحفاظ على نبرة صوتٍ إنسانية عند الحديث مع الآخرين وعدم رفع الصوت كصوت الحمير

فلنتفكر في التنبيه الذي ورد في القرآن الكريم للرسولين اللذَين أرسلا إلى شخص ظالم كفرعون وهو "القول اللين"

فلنتفكر في تصرف رسول الله ﷺ عندما صافح رجلاً التقاه في الطريق وتجنبه أن يكون أول من يسحب يده

فلنتفكر كيف كان الرسول الكريم ﷺ أكثر شخصية محبوبة من قبل المؤمنين في المجتمع الذي كان يعيش فيه

فلنتفكر في قول رسول الله ﷺ: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا." والذي أتبعه بقوله: "ولا تؤمنوا حتى تحابوا." تتجلى في هذا الحديث رغبة الرسول الكريم ﷺ بأن يكون المجتمع الإسلامي مجتمع محبة ووئام

فلنتفكر في قول الرسول ﷺ "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه يورثه" الذي يكاد يشير إلى أن الأشخاص المتجاورين يمتلكون حقوقاً كحقوق الأقرباء

إن المؤمنين يتتبعون خطوات رسول الله ﷺ الذي يقول "من غشنا فليس منا" مُعَرِّفاً المجتمع الإسلامي بأنه مجتمع الثقة المتبادلة اللامتناهية. وإن كنا نبتغي المضي على خطوات رسولنا الكريم ﷺ فعلينا أن ننظر إلى مجتمعنا ونتمعن في مقدار الثقة الموجودة في التعامل وفي كل جوانب الحياة، لنعرف إن كنا نقتدي به ونحذو حذوه فعلاً أم لا

إذا ما تأملنا المجتمع الذي نعيش فيه ابتداء من الأسرة التي هي أصغر وحدة في المجتمع، وإذا ما نظرنا بعين فاحصة إلى العلاقات بين الأزواج، بين الوالدين والأولاد، بين زوجة الابن وأهل الزوج، بين الأجداد والأحفاد، سنرى الفارق الشاسع بين المجتمع الذي نعيش فيه والمجتمع الذي أنشأه رسول الله ﷺ. كذلك فإن نظرةً إلى العلاقات بين جيران المبنى الواحد وبين المارين في الشارع والعلاقات في أماكن العمل وإلى علاقة أرباب العمل مع الموظفين والدولة مع الشعب ثم إلى علاقات الشعوب والأمم مع بعضها البعض، كل ذلك يجعلنا ندرك بُعدَنا الشاسع عن نهج رسول الله ﷺ

تظهر أحياناً مشكلة لدى من يرتادون المساجد، ويُلاحَظ فقر حقيقي إلى الأخلاق القويمة، وهذا ينبع من عدم فهمنا الصلة الحقيقية بين الصلاة والتحلي بالأخلاق، أو أن صلاتنا ليست كما يجب أن تكون، فعندما نقف في حضرة الله تعالى لا يملأ الإيمان قلوبنا ولا ينيرها كما يُفترض أن ينيرها، إن هذا دلالة على عجزنا عن اكتساب أخلاقنا من العبادات التي نؤديها... فأين هي أخلاق المؤمنين الذين يكادون يسحقون بعضهم البعض كي لا يتأخروا على موعد الإفطار؟ علينا أن نطرح هذا السؤال. ربما يمكن القول إن الأخلاق تشمل الإيمان والعبادة، ولكن قبل كل هذا الأخلاق هي سلوك سامي، الأخلاق سمو وارتقاء، الأخلاق تصفية السلوك وانتقاء أفضله. وقد قيل: إن مقياس الحضارات يُعرف من دقائق الأمور. الأخلاق هي انتباه المؤمن إلى عدم إزعاج أو إيذاء أحد حتى في أدق التفاصيل وأصغرها

كلمة أخيرة: لا يليق بأمة محمد رسول الله ﷺ أن تعاني من مشكلة في الأخلاق