أنواع القلوب
يمكن تصنيف القلوب -حسب حالاتها المعنوية- في ثلاث فئات
أ. القلوب المحافظة على نبلها لتحقيق الغاية من خلقها
ب. القلوب المختومة والميتة
ت. القلوب المريضة الغافلة
أ. القلوب المحافظة على نبلها لتحقيق الغاية من خلقها
وهي القلوب التي أيقظها الذكر من غفلاتها، وحررها النور من ظلماتها، وأنقذتها الروحانية من ضلال النفسانية، وأهلُ هذه القلوب هم الذين عملوا بمقتضى الآيات الكريمات التالية
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) (الأحزاب، 41)
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) (المزمل، 8)
(رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور، 37)
لقد تخطّى هؤلاء بنضج قلوبهم مرحلةَ تجلِّي أسماء الجلال إلى مرحلة تجلِّي أسماء الجمال، فتخطوا الرهبةَ إلى الرغبة، وبلغوا الكمال باتباعهم أخلاقَ ربِّ الكمال، وباقتفائهم آثار رسول الكمال صلى الله عليه وسلم، وبتعبدهم بوصايا القرآن الكريم
فتجردت قلوبهم من الميول النفسانية، وأُشبعت بفيوضات العشق وتجليات الوجد بعد أن أُشربت بحب الله تعالى وحب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فحققوا معنى التوحيد، وتنزهت قلوبهم عما سوى الله تعالى
وقد منح القرآن الكريم لهذه القلوب صفات ومسميات متعددة هي
القلب السليم -القلب المنيب- القلب المطمئن
- فأما القلب السليم، فهو ذلك القلب الذي نجا من غوائل النفس وآفاتها، وتخلص من أهواء النفس وشهواتها، فحافظ على طهره ونقائه واتساقه مع الفطرة بمعونة من الله تعالى
وهذا الصفاء لا يتم التوصل إليه أو الحفاظ عليه إلا من خلال الأصول التربوية الصوفية، من تزكية النفس وتطهير القلب وما يندرج تحت هذين الأصلين من مجاهدات، وبذلك ينال العبد ألطاف ربه وفيوضاته، بعد أن يجلوَ قلبه من صدأ الذنوب، ويتخفف من أوزار المعاصي، ويخلِّصه من القسوة التي رانت عليه، ويهيئه لتلقي الأنوار الإلهية، والتقلب في نعيم الروحانية بانتصاره على شهوات نفسه ونزواتها
وكأنها قبسات عظيمات من أنوار الشمس تجمعت في بقعة واحدة، فتركزت أشعتها وحرارتها وقوتها في عدسة محدبة لتقلب النور نارًا تأكل الذنوب وتضيء الدروب، فتهتدي بفضل الله تعالى القلوب، وتفوز بالقبول، وتأتي ربها بحال سليم كما يقول تعالى
(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ. إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء، 88 - 89)
وهو ما صاغه الشاعر روحي البغدادي في شعره
أيها التاجر والمغامر في نوال الأمر العظيم
ليس الذهب أو الفضة ما تروم
إنما يوم الحساب مرادك القلب السليم
- وأما القلب المنيب، فهو ذلك القلب الذي حلق في السماء بعيدًا عن جاذبية الأرض، وانطلق في الفضاء حرًا من قيود المادة، فنبذ علائق الدنيا، وذاب شوقًا في ملذات عالم الخلود، وشغله الوجد والعشق عن عالم الفناء
والقلب هنا في حالة اضطراب بالمشاعر السامية لمظاهر القدرة الإلهية، يقول الله تعالى في الآية الكريمة
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) (ق، 31-33)
- وأما القلب المطمئن فهو ذلك القلب الذي استراح بعد عناء السفر وبُعد الشُقة وعوائق الطريق، الذي لم يترك المسير بالنهار ولا السرى بالليل حتى يبلغ المقصد، لم يمنعه مانع، ولم يقطعه قاطع، فنوَّر قلبه بالذكر، وسلّم قياد نفسه للروحانية، وخلَّص عبادته من التقليد إلى رسوخ التحقيق، وبلغ الآفاق في كمالات الأخلاق، وتركز فيه الإيمان، فصار مركزًا للإحساس
هذا الحال الذي وصفه القرآن الكريم، فقال
(أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد، 28)
فوصول القلب إلى حال الأمان والاطمئنان يتطلب منه «الإيمان الحقيقي»، و«الرضا»
ولا يغيب عن الذهن أيضًا الحال الذي لم تصفه الآية، لكنها أشارت إلى ضده، فالقلوب المنقطعة عن الله تعالى، البعيدة عن ذكره، لا يمسها الرضا، ولا يقربُها الاطمئنان مهما راوغتها خيالاتُ الدنيا وتصاويرها، فتظل على الدوام أسيرة الاضطراب، مقطوعة الأسباب، منبوذة من الحضرة الإلهية
وعلاماتُ القلب السليم والمنيب والمطمئن كثيرةٌ منها: الرقة، والرحمة بالمخلوقات، والبكاء، والرضا، وخدمة الحق والخير، والهروب من الشر، والنصيحة، والسعي للإرشاد، والامتلاء بلذة العشق الإلهي
وذخيرة القلب في ذلك السمو المعنوي، ورأس ماله في العالم الروحاني، هو تحري الحلال وإطابة المطعم، ثم إخلاص الدعاء والاستغفار، ودوام التوبة، وإحاطة ذلك كله بسياج من العمل الصالح
فالقلب حتى يظل صامدًا في طريقه يحتاج إلى المدد الرباني، وهذا المدد إنما يُستجلب بالدعاء والاستغفار، فالاستغفار والتوبة تعمل عمل الزارع الحصيف الذي يتعاهد غرسه بالرعاية من كل الآفات أولاً بأول، حتى تخرج حين حصادها ناضجة الثمر، كذلك القلوب إن لم تتعاهدها بالتنظيف والتخليص من الآفات والأكدار بالدعاء والاستغفار، يضعف حسها وتقسو مشاعرها، وتُحجب عنها الحقيقة شيئًا فشيئًا بصممها وعماها المعنوي
لذا كان الاستغفار هو بداية أوراد التصوف للتطهر من الأكدار، وثمة قاعدة مشهورة في «مجلة الأحكام العدلية»، تقول
(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)
كما أن قاعدة أخرى يضعها أولياء الله عن تحري الحلال في المطعم والمشرب، تقول
(منْ أكل الحلال أنار الله فؤاده، وجعل ينابيع الحكمة تفيض من قلبه، وتظهر على لسانه)
وللحفاظ على هذه المنزلة والدرجة لا ضمانة للعبد سوى العمل الصالح
تلك القلوب الحية المفعمة بنور الله تعالى، الغارقة في لذة نعيم محبته، هي قلوب الأنبياء والمرسلين، وقلوب الأولياء والمرشدين، فهم الذين طلقوا الدنيا ثلاثًا؛ بل إنهم لم يجعلوا أقصى رجائهم ومنتهى أملهم الجنة ونعيمها، ولم يجعلوا أشد خوفهم وأعظم إشفاقهم من النار وعذابها، إنما مقصدهم و غايتهم الحقيقية إنما هو الرضا والحب الإلهي
وقد حمّلَ الله هؤلاء الربانيين الأمانةَ العظمى والمسؤولية الكبرى، وهي دعوة الناس إلى «دار السلام»، وهداية الخلق إلى الحق، فهم الذين يرفعون عن العباد حُجُب الغفلة، ويزيلون الغشاوة عن عيون القلوب، ويُحيون هذه القلوب بحُسن الخُلُق، ويهدونها بالحث على إخلاص العبادة، والارتقاء بالسلوك الإنساني إلى كمال المعرفة والوصول إلى الله تعالى
إن المقام الذي يُطلب من السالك الارتقاء إليه بتربية القلب هو مقام الإحسان، وبهذا ينال صفة القلب الحي
ب. القلوب المختومة والميتة
ذلك الصنف الثاني من القلوب هو المناقض تمامًا لكل ما ذكرناه في الصنف الأول، فهي قلوب ميتة قد سُدت في وجوهها أبواب الإيمان، واشتعلت بنيران المعاصي والأهواء
وإن المثل الأعلى لأصحاب هذه القلوب في إسفافهم وملذاتهم هي الأنعام والحيوانات، فلا هَمَّ لهم طوال حياتهم سوى لذة الطعام وصفاء الشراب
ويصف الحق تبارك وتعالى حالهم مقارنًا بأحوال أضدادهم، فيقول
(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) (محمد، 12)
(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (الفرقان، 44)
هؤلاء الذين جعلوا الدنيا أكبر همهم، ومبلغ علمهم، فعميت أبصارهم عن حقائق الكون والإنسان والحياة، وقصرت حواسهم عن مظاهر العظمة في الوجود؛ بل عميت أبصارهم عن أسرار الحياة في أنفسهم فهم لا يبصرونها؛ هؤلاء الذين ضلوا لن تكون لهم النار عذابًا فقط؛ بل هي مثوى لهم، ومستقر أبدي، وذلك هو الخسران المبين
لأنهم تركوا بإرادتهم المرتبة الإنسانية، وهبطوا إلى ما هو أدنى من المرتبة الحيوانية، والأغرب من ذلك أنهم لم يكتفوا بضلالهم فحسب؛ بل كانوا مصدر ضلالة وفتنة لمنْ حولهم؛ ضلوا وأضلوا، وتمادوا في نكران عظمة الخلق حتى أنكروا عظمة الخالق، واستغرقوا في كفران النعمة حتى كفروا بالـمُنعم، وبارزوا الله بالمعاصي، وحاربوه -سبحانه- بالذنوب، وعادوه بالكفر، ولم تردعهم الأوامر ولا النواهي، ولم تزجرهم الآيات والمعجزات، فكانوا كما صورتهم آيات القرآن
(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (يس، 77)
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) (البقرة، 18)
(إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (النمل، 80-81)
والآيات الكريمة تؤكد وتثبت أن قلوب هؤلاء مقفلة ومختومة، ويوضِّح القرآن الكريم هذه الحقيقة
(خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة، 7)
إن هذه الحالة سرٌّ وحكمة إلهية تجعل البشرية كلها مضطربة بالخوف والخشية، ولأن كل إنسان لديه نصيب من صفة «هادي» و«مُضل»، فلا يمكن أن يعتقد أن قلبه سيُختم عليه، وأن أبواب الهداية ستُغلق تمامًا بالإرادة الإلهية، طالما أنه موجود في هذه الدنيا، وذلك لأنه ثمة أمثلة عن أشخاص لم تُغلق أبواب الهداية أمامهم، ومنهم: سيدنا عمر رضي الله عنه الذي خرج لغاية سيئة حين أراد قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، ووحشي حين قتل سيدنا حمزة رضي الله عنه، وهند زوجة أبي سفيان حين بقَرَت بطن سيدنا حمزة رضي الله عنه وأخرجت كبده، ولاكته بكل حقد
ومع أن القرآن الكريم قد ذكر أشخاصًا خُتم على قلوبهم، لكن لا يمكن تحديد من خُتِم على قلبه في الحياة الدنيا، ذلك أن العاقبة مجهولة، فسحرة فرعون مثلاً عاشوا في الضلالة، لكنهم نالوا الهداية في آخر أعمارهم، في حين طوى كلٌ من قارون وبلعم بن باعوراء كتاب حياتهم بالخسران، بعد أن عاشوا طوال عمرهم في الهداية
والنقطة المثيرة للانتباه هنا أن الأشخاص الذين خُتم على قلوبهم وذُكروا في القرآن الكريم كان بعضهم ممنْ ارتكب الذنوب العظيمة مثل «الظلم» و«الكفر» و«الفسق»، وقد ورد في القرآن الكريم (واللهُ لَا يَهْدي) في ستة وعشرين موضعًا للدلالة على منْ اتصف بهذه الصفات الثلاث، اثنتا عشرة آية من هذه الآيات ذَكرت الظالمين، وثمان منها الكافرين، وستٍّ منها الفاسقين، فباب الهداية إذًا مفتوحٌ لمنْ يتوب عن هذه الذنوب، ويتوجه إلى الله بقلب خالص
وإذا كانت هذه الذنوب الثلاثة هي السببَ الأساسي في الختم على القلوب، والمسارَ الرئيسي للضلالة والخسران والعذاب العظيم في الآخرة، وقبل ذلك الحرمان من الهداية في الدنيا، فيمكننا أن نتتبع أسباب ذلك الحرمان لنتّقيها، ونتباعد عنها كما يتباعد المشرق من المغرب، وهذه الذنوب الثلاثة هي
(الظلم، والكفر، والفسق)
ثم لا يبقى سوى تسليم الأمر كله لله تعالى، والاستسلام لمشيئته وقدرته وقضائه وقدره سبحانه
وسنصرف النظر عن التعمق أكثر في هذه النقطة لأن القضاء والقَدَر يبقى مجهولاً بناءً على الكثير من الحكم، ولأن التفتيش والبحث العميق في هذا الموضوع غير جائز
ومهما كانت الحكمة من وراء ذلك، فثمة حقيقة لا تقبل الإنكار، وهي أن منْ خُتم على قلبه، فقد أُغلقت أمامه الأبواب المؤدية للحق تعالى، وانقطعت علاقته مع الإنسانية الحقيقية والحياة المعنوية، ولا يستطيع أحد أن يُزيل هذا الختم من قلبه سوى صاحب القدرة المطلقة، وهو المولى الذي نسيه، وينبِّه الله سبحانه عباده من الوقوع في مثل هذه الغفلة في قوله
(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر، 19)
وتعني الآية أن منْ ينسى اللهَ تعالى يُنسيه اللهُ نفسه؛ فيصبح من الفاسقين الذين خسروا الدنيا والآخرة وتبلدت أحاسيسهم ومشاعرهم، وضلت قلوبهم عن إدراك حقائق هويتهم وكيانهم، فلا ترى النور ولا تعرف الهداية، ولا تكترث بالاطلاع على ذلك كله، فضلاً عن أن تتبعه أو حتى تدرك أهميته لها
وهمهم الوحيد وشغلهم الشاغل إعمار هذه الدنيا بالملذات، وتزيينها بالشهوات، ثم الغرق فيها سُكرًا وتيهًا، لا يعرفون موتًا ولا آخرة ولا حسابًا
إنها قلوب تعيش في ظلمات كهوفٍ لا يصلها النور، وفي عالم مظلم عفن عششت فيه الخفافيش وطيور الظلام، فهذه القلوب لا تستطيع الخروج إلى العالم الطبيعي الذي يناسب الفطرة الطبيعية، لأنها قلوب استعبدتها الميول الشيطانية، فبدلت فطرتها وشوهت طبيعتها، فترى الشقاوة سرورًا، وترى الظلمة نورًا
ويقول الشاعر محمد عاكف في هؤلاء
الإيمان في القلب جوهر ما أعظمه
والقلب الصدئ بلا إيمان وزر ما أثقله
وحتى لو أفاق ذلك الذي غرق في مستنقع النفسانية والجحود، ورأى عالم الحقيقة، حين يتزلزل خوفاً ساعة خروج الروح، وحين يضرب ملك الموت ضرباته الصاعقة، ستكون هذه الإفاقة متأخرة لا نفع فيها؛ لأن تكليف الإنسان ينتهي في اللحظة التي يقف أمامه ملك الموت، وبعد تلك اللحظة تضيع الفرصة التي كانت بين يديه إلى الأبد، وتكون تلك الأوبة والندامة عديمة النفع والفائدة، كما كان حال فرعون حين آمن وسجد متأخرًا لحظة خروج أنفاسه الأخيرة؛ وما عاقبة هؤلاء إلا لهيبُ جهنم التي تزداد اتقادًا، كلما أُلقي فيها فوج من أجسادهم
ت. القلوب المريضة والغافلة
هذه القلوب تقع في الحالة المتأرجحة أو المتوسطة بين الحالتين السابقتين، بين القلوب الحية والقلوب الميتة، تراهم مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وقد اختلط لديهم الحابل بالنابل، فلا يتسقون مع الفطرة ولا ينسجمون مع الطبيعة، لا يهدأ لهم بال ولا يقر لهم قرار، لا تستقر بهم السكينة ولا يلبثون طويلا في كنف الطمأنينة؛ شوَّش الغموض عالمهم الداخلي فجعلهم في تيه بين عالم الماديات وعالم المعنويات؛ تشعَّب بهم الالتباس فشتت فكرهم، وزلزل حالهم
هذه القلوب التي ابتليت بالغفلة فأصابتها العلل والأدواء، فهي تتخبط في أرجوحة التناقض، وتدور في دوامة الشك، وتتوه في شُعب التردد، أصابت العللُ عالمها المعنوي، وفتح الجهل أبواب أعماقها للشهوات، وأسقطت الطموحات أسوار دفاعها ضد الرغبات، فتخطت سياج الأخلاق، وتجاوزت حدود القيم، وانطلقت في دنيا الشهوات
ويصف الله تعالى هذه الزمرة في القرآن الكريم بقوله
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة، 10)
وأخطر أمراض هذه القلوب هي: الشك، والجهل، والشهوات والطموحات، وانعدام الأخلاق، والقسوة
الشك: مرض عضال يحجب المرءَ عن عالم المعنويات، ويحرمه من تذوق لذة الروحانيات، ويعمي بصره وبصيرته عن نور الحقائق، ويصيب قلبه بالموت المعنوي، محرومًا من الاستقرار والطمأنينة؛ وتتزلزل الأرض من تحت أقدامه قلقًا واضطرابًا
الجهل: هو أن يسير المرء في طريق الخسران، وسوء الخاتمة، وظلمة المصير، ولا يدري حتى أنه ثمة عالم من الحقائق والنور وسعادة المصير، فقد عميت الأبصار، وضلت الأفكار، وأظلمت المدارك، ولم يذق صاحبُها سوى مرارة التعاسة
الشهوات والطموحات: هو الرق والأسر الذي يظل صاحبه مقيدًا في قسوة قلبه، ومكبلاً بلجام رغباته، لا يسوقه سواها، ولا يرى إلاها، وهو كالشاربين شُرب الهيم، كلما شرب ازداد هوسًا بالشهوة، وسُكرًا بالرغبة، ولا يجد ريًا في شرابه، ولا خلاصًا من هيامه، ولا تحررًا من نير شهواته إلا في تراب قبره
انعدام الأخلاق: وهو من أخطر أمراض القلب؛ كخطورة السرطان على الجسد، ولكنه أيضًا غير مستحيل العلاج إن أدرك المرء خطورة علته، وبادره بالدواء الناجع، والله يشفي منْ يشاء، ويهدي منْ يشاء
القسوة: وليس في العلل أشدّخطورة منها، وليس في الأمراض ما لا يُرجى شفاؤه مثلها، فهي عين الضلالة، وأصل الحرمان، وأسفل سافلين في دركات الشقاء، إنها انقطاع القلوب عن فطرتها، وانفصال المشاعر عن أحاسيسها، وفقدان كل معاني الإدراك في عالم الروح والمادة، فلا تبصر نورًا، ولا تستشعر سرورًا، لا تسمع الأنَّات، ولا تعرف الرحمات، فتصير كالحجارة أو أشد قسوة
وإن الحجارة هي أرق من هذه القلوب وأكثر حميمية ولطافة، وقد بيَّن المولى سبحانه هذه الحقيقة في القرآن الكريم حين قال
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة، 74)
ونفهم من هذه الآية الكريمة أن قسوة القلب هي نتيجة طبيعية لنسيان الله تعالى، والحرمان من الأُنس بالحقائق الإلهية لمدة طويلة، ويقول الله تعالى في آية أخرى
(فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الزمر، 22)
والأعمال والعبادات إن لم تكن صادرة عن قلوب واعية معافاة من الآفات كانت أعمالًا غير مقبولة، وغير ذات قيمة، لا ينظر الله تعالى إليها، فقد سُلبت هذه القلوب أحاسيسها ومشاعرها، ونورها وحياتها، فانقطعت عن حقائق الكون، ولم تبصر معجزات وآيات الخالق سبحانه
يقول الله تعالى في الآية الكريمة
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج، 46)
وتشير الآية إلى أن الأعضاء البشرية في الجسد قد تتعطل عن عملها الطبيعي رغم استمرارها في الحركة الميكانيكية، فهي وإن لم تفقد وظيفتها السريرية ولم تفقد حياتها البدنية لكنها فقدت حياتها الروحية، ووظيفتها المعنوية
ثم تؤكد الآية حقيقةً شديدة الأهمية، وهي أن المسؤول عن العمل العضوي والبدني والروحي والمعنوي هو القلب، وليس العقل، أو المخ البشري؛ إنه القلب الذي في الصدر
وأمراض القلب مهما صغرت تظل خطورتها كامنة فيه، وكذلك فإنها مهما كبرت يمكن تداركها وعلاجها، فلا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار
وقد تتراكم الصغائر على القلب، وتتكاثر عليه حتى تهلكه، فلابد من الحذر الشديد، واللجوء إلى الله تعالى، والاعتماد عليه وحده، والتسليم لإرادته والاستسلام التام لما فرضه سبحانه من مقتضيات الإيمان وعوامل اليقين
ولعل أبرز إيضاح لخطورة حال القلب، وضرورة الحفاظ عليه، والحذر من آفاته، هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه
«ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (البخاري، الإيمان، 39)
وما هذه الدنيا إلا صحراء ممتدة وتيه كبير، يسير الإنسان فيها نحو هدفه، تُسفي عليه الريح من رمالها، ويصيبه من حرها وقرها، وتُعرِّضه للمهالك كل حين، ولن يجد ملاذًا من تلك الرياح إلا في نسمات المدد الإلهي، ولن تجد الواحة الخضراء في هذه الصحراء القاحلة إلا في كنف العون الرباني، ولن تجد الإرشاد إلى الغاية، والدليل إلى الهدف، والمعين في الطريق إلا في ظل طاعة الله، والتسليم له سبحانه
وما أبلغ الشاعر الفيلسوف المسلم محمد إقبال عندما صور هذا المشهد، فقال
رأيت الكافر حيران له الآفـاق تيـه
ورأيت المؤمن كونًا تاهت الآفاق فيه