إحياء الليل- (تطهير القلب)
خلق اللهُ النهار معاشًا للناس يكابدون فيه الدنيا ومتاعبها، لكنه برحمته سبحانه خلق لهم الليل يسكنون إليه ويهجعون فيه، يغتسلون في بحر الليل من أوضار النهار، ويأوون إلى كنف السماء إذ تطير إليها أرواحهم في هدأة المساء
فالليل حضن يأوي إليه العابدون كما يأوي الرضيع إلى حضن أمه، يطمئن إليه ويستريح فيه، وينهل منه سر بقائه وحياته فيَطعم ويشرب، ومن دفئه ينطلق بما يستمده من مشاعر الطمأنينة والسكينة ليتعرف على العالم ويواجه الدنيا من حوله
وهكذا جعل اللهُ عزَّ وجل النهار معاشًا ينتشر العباد في الأرض يبتغون من فضل الله عزَّ وجل، وجعل الليل لباسًا وسترًا يختلي فيه العابدون بربهم ويحلقون بأرواحهم في عوالمه الرحمانية
فالليل ميقات الفيوضات، ومحراب أهل الوجد، وتكية العارفين، ومنهل الراغبين، ومطمع الداعين، وملاذ القائمين الخائفين، وسكن العابدين
ويقول الله تعالى في هؤلاء
(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
(السجدة، 16-17)
وقد فسَّر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية في الحديث القدسي
«أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» (البخاري، بدء الخلق، 8؛ التفسير، 32/1؛ التوحيد، 35؛ مسلم، الجنة، 2-5)
ويقول الله تعالى في آية أخرى
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلا) (الإنسان، 26)
ولا يمكننا هنا أن نجلِّي للقارئ قيمة الليل، ولا أن نرصد كنوزه أو نَصِف جواهره، فذلك ما لا يعلمه العباد ولا يدركه البشر، ولا يحيطه علم الآدميين، ففيه من الأسرار والأنوار والإمدادات ما لا يُحصى، ويكفينا هنا أن نذكِّر أولي الألباب أن الحق عزَّ وجل أشار إليه في القرآن الكريم في أكثر من موضع؛ بل أقسم به، والعظيم سبحانه لا يقسم إلا بعظيم، ورب الأسرار لا يقسم إلا بأحد مستودعات الأسرار
إن قسم الله تعالى بالليل في آيات (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) (الانشقاق، 17) (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) (الضحى، 2) (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) (التكوير، 17) هو تذكرة إلهية لنا كي ندرك ونلتفت بقلوبنا إلى الحقائق العظيمة المكنوزة فيه
وثمة إشارة نبوية كبرى تلقي الضوء على كنزٍ لا يفنى ومعين لا ينضب من عظمة الليل، إنها أعظم بشارة لقلوب العاشقين وأجزل عطاء للسائلين، وأصدق بشارة للخاطئين المذنبين القانطين
جاء في الحديث: «ينزل ربُّنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: مَنْ يدعوني فأستجيب له، مَنْ يسألني فأعطيه، مَنْ يستغفرني فأغفر له» (البخاري، التوحيد، 35؛ التهجد، 14؛ الدعوة، 13؛ مسلم، المسافرين، 168)
ويقول أولياء الله تعالى
«إن إحياء الليالي هو الملك والسلطنة الحقيقية المشار إليها بقوله تعالى: (اللّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) (آل عمران، 26)»
فيعطينا المولى سبحانه لمحات من تلك السلطة الاعتبارية، والسلطنة المعنوية، إنها بدائع الكون التي خلقها الله تعالى لك، بها تعتبر وتتعظ وتستمتع وتُشبع مشاعرك وتُحيي قلبك
ففي وقت السحر يبدأ الكون فصلًا جديدًا من حياته؛ حيث الصبح يتنفس، والطيور تغدو متوكلة على ربها لتلتمس رزقها، والكائنات تستيقظ من نومها وتتهيأ لتبدو في أبهى حلة وأجمل حال وأروع مآل، وبعد ذلك كله هل من غافل -مهما غفل- أن يفوِّت روعة هذه اللحظات؟ وكرم مانح تلك الهبات؟!
والخلاصة أن الله تعالى يدعونا إلى الاستيقاظ في الأسحار
(وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) (آل عمران، 17)، ومن يستجب لهذه الدعوة يلق من الله تعالى الثناء والبشارة معًا
ويقول أبو يزيد البسطامي: «لم يُفتح لي شيءٌ إلا بعد أن أيقظت ليلي حتى صار نهارًا» (البورصوي، روح البيان، جـ 1، 401)
ويقول الحسن البصري رحمه الله
«إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل»
ويقول إبراهيم بن أدهم
«لا تعصه بالنهار وهو يُقيمك بين يديه في الليل»
وكان الشيخ سيف الدين رحمه الله يكثر من الصلاة في الليل، ويختم القرآن في ركعتين، وحين يأتي الصباح يقول
«يا رب إني لا أشبع من عطائك، يا رب كم هو قصير هذا الليل!»
تلك بعض من بشارات الليل وأسراره، فقد كانت هذه الليالي زاد أبي يزيد البسطامي، فكانت الفتوحات التي ما زلنا ننهل من أسرارها
وكانت هذه الليالي موعد إبراهيم بن أدهم مع ربه وحبيبه وسيده الذي ينتظر طوال النهار لقاءه بشوق، فيكون ذلك عصمته من المعصية
وكانت هذه الليالي حديث الشيخ سيف الدين مع ربه وصلته مع مولاه ومتعته المعنوية التي لا تنتهي؛ حتى ليود أن يكون اليوم كله ليلاً، فهل بوسعه أن يضيع من الليل لحظة؟
لكن عطاء الليل ومنحه وفتوحاته تحتاج إلى إعداد واستعداد لها منذ بداية النهار، فالمعصية بالنهار حجاب بالليل، والذنوب بالنهار غشاء على البصر والبصيرة، فمن عصى الله تعالى بالنهار حُرم من إحياء الليل، وغاب نبض الحياة عن فؤاده كما يعلمنا الحسن البصري
ويعبِّر مولانا جلال الدين الرومي بهذه الأبيات في «الديوان الكبير» عن حالة العشق والوجد التي كان يعيشها في الليالي
يا ساقي املأ القدح بالعشق الإلهي
واعطِ السكران شرابًا لا خبزًا
قدِّم الكوثر واروِ به القلوب العطشى
فالسابح في البحر لا يريد سوى الماء
املأ القدح بالشراب ثم قدمه
يا رب أوقف الليل واجعله يطول
واربط نومي بالسلاسل كي لا يمر الوقت
فالنائمون لا يدركون قيمة الليل
ويقول المولى تعالى في قيام الليل والأسحار واصفًا عباده المحظوظين الذين نالوا فيوضاته ونعمه الإلهية إذ كانوا يحذرون من غضبه عزَّ وجل
(كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات، 17-18)
(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) (الفرقان، 64)
ويقول الله تعالى في آية كريمة أخرى:
(الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (الشعراء، 218-219)
ويقول القاضي البيضاوي في تفسير هذه الآية
«لما نسخ قيام فرض الليل طاف النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصًا على كثرة طاعاتهم، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع بها من دندنتهم بذكر الله وتلاوة القرآن» (أنوار التنزيل، جـ 4، 111)
وللأسحار قيمة لا تبلغها ولا تدنو منها أيٌ من الأوقات الأخرى؛ إذ يصعب القيام فيها، وتشق على النفس العبادة فيها، فلا يلجأ إليها إلا أهل التعظيم والتوقير والمحبة الخالصة لجلاله سبحانه لأن هذه المحبة هي الحافز الأساسي لإحياء الليل والاستغفار بالأسحار والهيام بالأذكار والخلوة مع المولى سبحانه، والدنو من مجلس غفرانه، والدخول في زمرة محبيه لنوال فيوضاته ومعرفته
فإن أدرك المؤمن قيمة الليل، وعرف قدر الأسحار، ونال من فضل العبادة فيهما، وذاق من روحانية الوصال، صار ليلُه ذاك أضوأ من نهاره، وصارت ظلمة ليله أسطع من شموس نهاره. لكنه إذا استسلم لغفواته، وأماتت قلبه غفلاتُه، وأَسَرته مناماتُه، فوَّت على نفسه التحرر من نير مشقة النهار ومرارة الدنيا، كالأرض التي تهدر قطرات الأمطار، فلا هي تنبت الكلأ ولا هي تحفظ الماء
وكان من نصائح أم سليمان عليه السلام أن قالت له: «يا بُني لا تُكثر النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيرًا يوم القيامة» (ابن ماجة، إقامة الصلاة، 174)
والنوم موت حقيقي، وقبره الليل، فإذا ما نوَّرتَ قبرك بالذكر، وآنست وحشته بالعبادة، وجعلت وداعك للدنيا لحظات المعية مع الله عزَّ وجل؛ حينها لا يكون النوم موتًا إنما عرس أخروي، واحتفال سماوي
وينقل لنا عبد الله بن عمرو بن العاص التنبيه الذي وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه
«يا عبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل» (البخاري، التهجد، 19؛ مسلم، الصيام، 185)
ويخاطب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام قائلاً لهم
«عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإنَّ قيام الليل قربةٌ إلى الله، ومنهاةٌ عن الإثم، وتكفيرٌ للسيئات، ومطردةٌ للداء عن الجسد» (الترمذي، الدعوات، 101)
ومن نافلة القول أن نذكر ما اكتشفه الطب الحديث من الأهمية البيولوجية لذلك العمل السيكولوجي، فقيام بعض الليل وعدم الاستسلام الكامل للنوم هو صنيع صحي له فوائد عظيمة للبدن؛ ناهيك عن فوائده الأعظم للروح والقلب
ويحدثنا الطب عن قيام الليل فيقول: إن مَنْ يستيقظ بعد نوم طويل تجده يعاني من آلام في الرأس، وهذا نتيجة تباطؤ عملية الشهيق والزفير أثناء النوم، وعدم تزويد الدماغ بالمقدار الكافي من الأكسجين، أما مَنْ يقسِّم نومه فإنه يستيقظ نشيطًا حتى لو كان نومه لمدة قصيرة، وذلك لأنه عاد إلى عملية الشهيق والزفير الطبيعية، وأخذ الكثير من الأكسجين حين قام من نومه
ومن ناحية أخرى نجد أن الذين يموتون وخاصة الكبار في السن تقع حالات وفاتهم في الصباح في أغلب الأوقات، لهذا يُطلق الأطباء اسم «ساعة الموت» على «وقت السحر»، والسبب هو تباطؤ عمل القلب في أعمق ساعات النوم، فمَنْ يستيقظ في هذه الساعة ويتوضأ بماء بارد، يُعيد وظائف جسده كلها إلى حالاتها الطبيعية
وإن كان هدفنا هنا إنما هو التذكير بالفوائد الأخروية والروحانية لقيام الليل، لكن أوامر الدين ونواهيه تحمل من الفوائد الدنيوية والأخروية ما يجذب أهل الدنيا وأهل الآخرة، وفيها ما يحمل الترغيب والترهيب، ومنافع البدن والروح، وغنائم المال والقلب، فكل العبادات لا تزال تكشف عن أسرارها، وتمد العلم باكتشافات ومعجزات تجعل من تفاصيل ودقائق السُنن النبوية حياة نموذجية للمؤمن العابد والإنسان العادي، وكلٌ يعمل على شاكلته، وينال من كنوز أوامر ربه ما يرضي بدنه أو يرضي روحه