إقرار المشركين بسيرته الأسوة
لقد نال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقةَ العرب في الجاهلية، حتى إن ألدَّ أعدائه أبا جهل قال له
«يا محمد إنا لا نكذِّبك، وإنك عندنا الصادق، ولكن نكذِّب ما جئت به»
وحتى أشدُّ خصومه عليه الصلاة والسلام لم يرفضوا ما جاء به إلا لأهوائهم ورغبات نفوسهم، مع أنهم كانوا يقبلون أن ما جاء به رسول الله هو الحق
يقول الله تعالى
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ}
*
لما انتصر قيصرُ الروم على فارس في المدة التي كانت بعد صلح الحديبية، مشى من حمص إلى إيلياء "القدس" على الزرابي تبسط له، فلما جاء قيصرَ كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حين قرأه
التمسوا لي من قومه من أسأله عنه
وقد كان أبو سفيان آنذاك بالشام في رجال من قريش قدموا تجَّارًا. قال أبو سفيان
فأتاني رسول قيصر فانطلقَ بي وبأصحابي حتى قدمنا إيلياء، فاُدخِلنا عليه فإذا هو جالس في مجلس ملكه عليه التاج، وإذا حوله عظماء الروم، فقال لترجمانه
سَلْهم أيهم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، قال أبو سفيان: أنا أقربهم إليه نسبًا، قال: ما قرابتك منه؟ قلت: هو ابن عمي، قال أبو سفيان: وليس في الركب يومئذ رجل من بني عبد مناف غيري، فقال قيصر: أَدْنُوه مني. ثم أمر بأصحابي، فجُعِلُوا خلف ظهري عند كتفي، ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذَبَ فكذِّبُوه. قال أبو سفيان
فوالله لولا الاستحياء يومئذ أن يَأثُر أصحابي عني الكذب لكَذَبْتُه حين سألني، ولكني استحيت أن يؤثروا عني الكذب فصَدَقته عنه
ثم قال لترجمانه: قل له كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه في الكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من مَلِك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: فيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن الآن منه في مدة ونحن نخاف ذلك
قال أبو سفيان ولم تُمكِنِّي كلمةٌ أُدخِلُ فيها شيئًا أنتقِصه به غيرها لا أخاف أن يؤثَر عني
قال: فهل قاتلتموه أو قاتلكم؟ قلت: نعم، قال: كيف كانت حربكم وحربه؟ قلت: كانت دولًا سِجالًا نُدالُ عليه المرة ويُدَالُ علينا الأخرى، قال: فبمَ يأمركم؟ قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئًا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة
قال: فقال لترجمانه حين قلت له ذلك: قل له إني سألتك عن نسبه فيكم، فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها
وسألتك: هل قال هذا القول أحد منكم قط قبله؟ فزعمت أن لا، فقلتُ: لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله قلت رجل يأتمُّ بقول قيل قبله
وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله سبحانه وتعالى
وسألتك هل كان من آبائه من مَلِكٍ فزعمت أن لا، فقلت لو كان من آبائه مَلِك قلت رجل يطلب مُلكَ آبائه
وسألتك أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم فزعمت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل
وسألتك هل يزيدون أم ينقصون فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم
وسألتك هل يرتد أحد سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه، فزعمت أن لا وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب لا يسخطه أحد
وسألتك هل يغدر فزعمت أن لا، وكذلك الرسل
وسألتك هل قاتلتموه وقاتلكم فزعمت أن قد فعل وأن حربكم وحربه يكون دُولًا يُدالُ عليكم المرة وتُدالون عليه الأخرى، وكذلك الرسل تُبتَلَى ويكون لها العاقبة
وسألتك بماذا يأمركم فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله سبحانه وتعالى وحده لا تشركوا به شيئًا وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم ويأمركم بالصدق والصلاة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، وهذه صفة نبي قد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أظن أنه منكم، فإن يكن ما قلت فيه حقًّا، فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين، والله لو أرجو أن أخلص إليه لتجشَّمتُ لُقِيَّهُ ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه
قال أبو سفيان ثم دعا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر به فقُرِئ فإذا فيه
«بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام،أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسِيِّين
{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} »
قال أبو سفيان: فلما قضى مقالته، علت أصوات الذين حوله من عظماء الروم، وكثر لغطهم، فلا أدري ماذا قالوا، وأُمِرَ بنا فأُخرِجْنا. قال أبو سفيان: فلما خرجت مع أصحابي وخلصت لهم قلت لهم: أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة ، هذا ملك بني الأصفر يخافه
قال أبو سفيان: فوالله ما زلت ذليلًا مستيقنًا أن أمره سيظهر حتى أدخل الله قلبي الإسلام وأنا كاره
فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغُلِّقَت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم، فتُبايعُوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان، قال: ردوهم عليَّ، وقال: إني قلت مقالتي آنفًا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه
لقد رأى إمبراطور بيزنطة هرقلُ نعمةَ الإسلام التي جاءت إلى يديه، وفَهِمَ حقيقة هذا الدين العظيم، غير أنه أضاع فرصة الهداية الكبرى في سبيل المنافع الدنيوية، فأضاع بذلك سعادته الأبدية
*
إننا نظن أن سلوك هرقل المنصف لمَّا علِمَ دين الإسلام لم يكن نابعٌا من فضيلته فحسب، وإنما أثر في هذا السلوك أيضا ما بقي في النصرانية من عقيدة التوحيد آنذاك، فلقد كانت تلك الآونة بدايةَ انحراف النصرانية التي كانت دينًا حقًّا في الأصل وعقيدةً قائمة على أساس الوحدانية، إذ انتهى الجدال حول الرموز الدينية الذي استمر ما يقرب من مئتي سنة، فامتلأت الكنائس بالرسومات والهياكل. واعتنق النصارى عقيدة التثليث المسماة «الأقانيم الثلاثة» البعيدة عن الوحدانية، ليَبرُز الإسلامُ مجدِّدًا "الدينَ الحق"، وذلك سنة الله في الكون.. وقد ظهر سلوك مُنصِف كسلوك هرقل من الملك النجاشي لما حاورَ الصحابةَ -وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه- الذين هاجروا إلى الحبشة هربًا من ظلم مشركي مكة، حتى إن النجاشي ضرب يده على الأرض، فأخذ منها عودًا، ثم قال لجعفر
«ما عَدَا عيسى ابن مريم ما قُلتَ هذا العود»
فقد كان الملك النجاشي على مذهب آريوس الذي حافظ على عقيدة التوحيد
ومن الممكن أن هرقل كان يعتقد بمثل هذا الاعتقاد، غير أنه ليس هناك دليل تاريخي على إيمانه. فنفهم من هذا مرة أخرى أن الله يهدي من يشاء ويضلُّ من يشاء
ويُظهِر لنا حديثُ هرقل أنه حتى الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آمنوا باستقامته ونضج شخصيته. إذ لما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى مكة كانت لديه بعض الأمانات للمشركين، فأوكل سيدَنا عليًّا رضي الله عنه بتسليمها لأصحابها. ولم يكن في مكة آنذاك رجلٌ تُستودَع عنده الأمانةُ مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروف بثقته وصدقه