الأخلاق دين المؤمن
ماذا تشكل الأخلاق بالنسبة إلى المؤمن؟ إن الإجابة الوحيدة على هذا السؤال هي أن أخلاق المؤمن هي المؤمن بعينه فلا يمكن الحديث عن أخلاق المؤمن بمعزل عنه. فالأخلاق هي السلوك الذي أمرنا به الله تعالى ورسوله ﷺ. في حين أن الأخلاق بالنسبة إلى المجتمعات غير المؤمنة هي الصفات التي يستحسنها المجتمع ليس إلا
أحمد طاش غاتيران: أود أن أسألك عن "أخلاق المؤمن". فهي موضوع أساسي وهام في حياة المسلمين وعلاقاتهم ببعضهم البعض. فلنقف عند هذا الموضوع ولنتحدث عنه. ماذا تشكل الأخلاق بالنسبة إلى المؤمن؟ ما أهمية الأخلاق؟ تعتبر الأحكام الفقهية المصدر الأساسي الذي يرجع إليه الناس في فهم ومعرفة مسائل الحياة التي تواجههم، فكيف تُعقد مقارنة بين الأخلاق والفقه؟ ما هو مفهوم أخلاق المؤمن؟
نور الدين يلدز: لا أملك جواباً لسؤالك: ماذا تشكل الأخلاق بالنسبة إلى المؤمن؟ إلا أني أقول إن أخلاق المؤمن هي المؤمن بعينه، لأن أخلاق المؤمن مصدرها الوحي. فالأخلاق هي السلوك الذي أمرنا الله تعالى ورسوله ﷺ بالتحلي به في حين أن الأخلاق بالنسبة إلى المجتمعات غير المؤمنة هي الصفات التي يستحسنها المجتمع ليس إلا. ما كان يراه المجتمع قبل مئة عام عيباً وعاراً أصبح يراه اليوم رقياً وحضارة، هذه هي أخلاق العصر الحالي. أما معايير الأخلاق بالنسبة إلى المسلم المؤمن فهي لا تختلف اليوم عما كانت عليه قبل مئتي عام. وأوضح مثال على ذلك هو أنه اليوم لا يُعتبر من العيب في شيء أن يشرع الطفل بالطعام قبل أبيه، أو أن يطلب من أمه أن تحضر له الماء، لكن قبل مئة عام كان ذلك عيباً كبيراً. لماذا؟ قبل أربعة عشر قرناً نهى رسول الله ﷺ عن أمر الأم بهذه الطريقة. وبعد خمسة آلاف سنة سيبقى أمر الأم بإحضار ماء أمراً ممنوعاً على المؤمن ولن يتغير هذا حتى وإن لم يبقَ ليوم القيامة سوى ساعة واحدة، لأن مصدر أخلاقنا هو الوحي ولن تتغير أخلاقنا حتى قيام الساعة. الأخلاق في الإسلام لا تتغير لأن الإسلام واحد لا يتغير. لا يرد وصف الأخلاق بأنها فرض واجب بل تعرف بماهيتها
أحمد طاش غاتيران: كيف يمكن معرفة الفرق بين هذا وذلك؟ رسولنا الكريم ﷺ نبي الأخلاق يصفه الله تعالى في كتابه العزيز بأنه على خلق عظيم ويقول رسول الله ﷺ "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق." إننا نتكلم عن الأخلاق التي هي جزء لا يتجزأ من شخصية الرسول ﷺ. ما الفرق بين الأحكام الفقهية كالفرض والواجب والسنة وبين الأخلاق؟
نور الدين يلدز: ما الذي نسميه بالأخلاق؟ إننا نسمي علاقة الإنسان بمن حوله أخلاقاً. مثلاً ليس النوم على الجانب الأيمن صفة من صفات الأخلاق ولا يعتبر شرب الماء باليد اليمنى على ثلاث دفعات خصلة من خصلات الأخلاق. فالأخلاق هي كيف أقدم لكَ الماء، أو كيف أجلس باحترام دون أن أمد قدمي أمامك. تظهر الأخلاق في المواقف التي يتأثر فيها الآخرون بتصرفاتي، ولهذا علاقة بالأحكام الفقهية بالتأكيد. بعضها فرض وبعضها واجب وبعضها سنة، بعضها حرام وبعضها مكروه. ليست الأخلاق سلوكاً كيفياً يتحلى بها المرء متى أراد ويهملها متى أراد
لنستعرض مثالاً بسيطاً عن الأخلاق: هل يمكن لمسلم تفوح رائحة فمه الذهاب إلى الجامع؟ هل يستطيع مَن تفوح رائحة فمه أن يحضر اجتماعاً أو أن ينضم إلى مجلس. يقول الرسول الكريم "من أكل من هذه الشجرة ـ يعني الثوم ـ فلا يقربن مسجدنا." إنه يقول إن من تنبعث من فمه رائحة غير مستحبة، يتسبب في إزعاج غيره. هذه قاعدة أخلاقية. أي إن رسول الله ﷺ يقول لمن يذهب لأداء فريضة الصلاة: لقد أكلت ثوماً فلا تدخل الجامع إذن. على الرغم من أن الرسول ﷺ يعد الصلاة واجباً إلا أنه يرجح كفة الامتناع عن أداء الواجب تحاشياً لإزعاج الآخرين. إن عدم مراعاة الأخلاق يعني الظلم
كما أن توجيه كلام مسيء للمسلم والغيبة هي انعدام في الأخلاق. إننا اليوم نسمي الغيبة حواراً لطيفاً نتبادله في جلساتنا. لذا فإننا لا ندرجها في المواضيع الأخلاقية على الرغم من أن الأخلاق في شريعتنا تشمل كل جوانب الحياة وجميع أوجه العلاقات الإنسانية
يتناول "الأدب المفرد" للإمام البخاري الكثير من تفاصيل حياة المسلم التي تبدأ من حقوق الأم، مروراً بإلقاء السلام والجلوس والنهوض والتثاؤب إلى ما هنالك من تفاصيل الحياة اليومية. يوضح الكتاب الآداب الإسلامية الواردة في السنة النبوية والآيات القرآنية. لماذا يُقال "من لا يتمتع بالأخلاق لا دين له"؟ لأن قسماً كبيراً من الصفات الأخلاقية تعني تجنب الحرام، والقسم الآخر هو القيام بالفرض. مثلاً؛ أن يحترم الابن أمه وأبيه ويبجلهما وأن يرى نفسه أمامهما كما لو كان في السادسة من العمر حتى وإن بلغ الستين... هذه هي الأخلاق. وهذه هي الواجبات التي تلي واجبات طاعة الله تعالى في القرآن الكريم. لذا ليست الأخلاق الشرط السابع من شروط الإيمان بل هي مجموعها بالكامل
أحمد طاش غاتيران: أي أنها تشمل الإيمان وشروط الإسلام معاً؟
نور الدين يلدز: الإيمان مُتَضمَّن في الأخلاق، من لا يتحلى بالأخلاق لا يمكنه حتى التفكير في شروط الإيمان. مثلاً هل من الممكن صياغة جملة كهذه: إن الصلاة فرض على البقر؟ كلا بالطبع هذه الجملة غير مقبولة. لمَ لا يوجد في القرآن الكريم جملة كهذه؟ لأن الإسلام دين الإنسان. والأخلاق ليست أحد شروط الإيمان. فانعدام الأخلاق لا يتماشى مع الإسلام. الرسول ﷺ قدوة في الأخلاق، من كان يشكو من مشكلة في أخلاقه أو لا يتحلى بالخصال الحميدة كيف له أن يدَّعي انتماءه إلى أمة محمد ﷺ واتباع نهجه
مثلاً نحن نولي الأخلاق اهتماماً كبيراً في علاقاتنا الأسرية، وعندما يتطلب الأمر نتحول إلى علية القوم. ولكن يجب ألا تُؤخذ الأمور بظواهرها فحين عرَّف رسول الله ﷺ خيار أمة المؤمنين، قال: "خيركم خيركم لأهله." وهذا يعني أن الأخلاق وقبل أن تظهر في المجتمع يجب أن تظهر في الأسرة التي تُعتبر الخلية الأساسية في المجتمع
أحمد طاش غاتيران: قلنا قبل قليل، لا يكون المسلم مسلماً إذا لم يتحلَّ بالأخلاق. إذا ما نظرنا إلى حياة المؤمنين في المجتمع الإسلامي نرى مسافة هائلة تفصل الإنسان عن الأخلاق. وإذا قمنا بتسليط الضوء على المؤمن وحاولنا تحديد إيجابياته وسلبياته نجد أنفسنا أمام السؤال التالي: أيهما أكثر: الايجابيات أم السلبيات؟ لكن كيف يحصل هذا؟ كيف يمكن أن ينأى المؤمن بأخلاقه عن أساسيات الإيمان؟
نور الدين يلدز: هناك نقطتان أساسيتان الأولى "لا يوجد مؤمن عديم الأخلاق."، والثانية "لا يوجد مؤمن لا يخطئ". قد لا يؤدي المؤمن الصلاة في وقتها، نفس الأمر ينطبق على الأخلاق. المؤمن قد يكون مقصراً في صلاته أو في إحدى خصال أخلاقه. ومن هنا يجدر بنا التفكير بأن المؤمن ليس معصوماً عن الخطأ فهو ليس ملاكاً، ولكن يمكن القول إن على المؤمن ألا يرتكب ذنوباً تفوق حسناته
أحمد طاش غاتيران: عند التمعن في الفرد وفي المجتمع الإسلامي نرى مثلاً شخصاً يواظب على صلاته في حين أنه يعاني من مشاكل واضحة في أخلاقه. هنا لا بد من التساؤل: كيف يكون المؤمن هكذا؟
نور الدين يلدز: إنها دعاية سيئة بحق المؤمن، حيث يتم تعريفه بطريقة سيئة. هل يمكن ألا يهتم المؤمن بالأخلاق؟ لا وجود لمثل هذا المؤمن. هل يمكن أن يكون المؤمن بدون أخطاء؟ هذا أيضاً أمر غير ممكن. أبسط مثال على ذلك هو أنه يمكن للمؤمن أن يتثاءب ويؤثر سلباً على نشاط أصدقائه، أو يمكن أن يتلفظ بكلمة غير مستحبة فنحن بشر. والإنسان ليس له أن يدَّعي الكمال. حسناً، ماذا علينا أن نفعل في هذه الحالة؟ يجب أن تكون أفعالنا الحميدة أكثر من أخطائنا. وهناك أمر آخر وهو أن علينا عدم التشدد في قراراتنا. مثلاً أي طفل قد يكون مشاكساً لكن هذا لا يعني أن نتخلى عنه أو نتبرأ منه فالطفل لا يشاكس باستمرار، يشاكس مرة في الأسبوع لا أكثر. وإن كان يشاكس كثيراً فهذا يعني وجود مشكلة أخرى لديه وبأن الأمر قد تعدى قضية المشاكسة في حدودها الطبيعية
أحمد طاش غاتيران: كما قلت في البداية، تُعتبَر الأخلاق في يومنا هذا المعاييرُ التي يقبل بها الجميع في المجتمع. هل دخلت هذه المعايير حياة المؤمن الذي وجد نفسه منجرفاً بشكل أو بآخر في تيار المجتمع بكل ما فيه من مفاهيم ومعايير مختلفة؟ هل من الممكن أن يكون عدم إلمام المؤمن بشكل كاف بمفهوم الأخلاق التي يجب أن يتحلى بها كمؤمن هو الذي يؤدي إلى تأثره بمفاهيم المجتمع؟
نور الدين يلدز: سأذكر مثالاً على ذلك وهو قول رسول الله ﷺ: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه." أي إن المرجع الأساسي في الحكم على الشخص هو دينه وأخلاقه. يمكننا هنا أن نتساءل ولكن أين الدين والأخلاق منا اليوم؟
إننا على عتبة الدنيوية والانشعال بالحياة الدنيا. لقد جرفَنَا العالَمُ بمعاييره الجديدة حتى كاد ينسينا أخلاقنا أو يكسبنا أخلاقاً جديدة. لقد أصبح اللباس وأناقة المظهر معياراً لدرجة الأخلاق. كذلك فإن استعمال كلمات دبلوماسية منمقة يُعد اليوم من حسن الأخلاق. عند إغلاق مكبر الصوت تسمع الكلمات النابية غير المهذبة وعند فتحه تتناهى إلى الأسماع كلمات معسولة منمقة. ونحن نقبل بهذا كله بل نعتبره ضرورة هامة في حياتنا. إننا نعيش متأثرين بالأفلام والمناهج المدرسية. عندما نرى إنساناً لطيفا يسترعي انتباهنا وكأنه شخصية أتت من التاريخ، غريبة لا تمت بصلة إلى ما حوله
والأعجب من ذلك أننا حين نرى شاباً خلوقاً مهذباً وبدل أن نقول: ما شاء الله على حسن خُلُقه، وندعو له أن يحميه الله ويبارك فيه، نقول: إنه "يشبه الفتاة" ولكأنما اللطافة لا تليق بالرجال. فالتمتع بالأخلاق ولطف التعامل أصبح قصراً على جنس دون سواه. وهذا أمر غير مقبول على الإطلاق. فالأخلاق هي الدين بعينه. لا داعي لتشبيه من كان على خلق كريم بالفتاة، بل يجب وصف كل من يتمتع بخلق حسن بأنه ذو أخلاق شبيه بأخلاق الرسول ﷺ
أحمد طاش غاتيران: إذا ما حاولنا تلخيص الأفكار في إطار واحد فهل يمكننا القول إن هناك مفهوم لأخلاق المؤمن يمكننا أن نضعه أمام الناس ونقول لهم "هذا هو شكل أخلاق المؤمن، تعلموها وطبقوها في حياتكم"؟
نور الدين يلدز: سأوضح الأمر، الأخلاق هي ألا نكذب على الآخرين، هذه أكبر وأهم قاعدة أخلاقية. عندما كان رسول الله ﷺ يُسأل: "هل يزني المسلم؟ هل يلعب القمار؟" كان يقول يمكن أن يفعل ثم يتوب. أما عندما كان يُسأل هل يكذب المسلم؟ فكان يرفض ذلك ويؤكد أنه "لا يفعل، لا يفعل". فالكذب ظلم مبين للطرف الآخر. الكذب هو أكبر دليل على انعدام الأخلاق. والآن سأجيب على سؤال "أين مفهوم أخلاق المؤمن؟". الصيام أحد العبادات الخمس ولا داعٍ لشرح فضائل الصوم. يقول الرسول الكريم ﷺ: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه." أي إذا كنت رجلاً كاذباً فصيامك ليس بصيام. وإذا تساءلنا أين هي الأخلاق من المؤمن فلن نجد إجابة سوى: توجد الأخلاق حيث يوجد الصيام. أين هو الصيام في حياة المؤمنين اليوم؟ إذا ما كان مجرد عادة مزخرفة، فالأخلاق أيضاً عادة مزخرفة. الصيام هو الذي يقيّم المسلم ويجيب على سؤال "هل هو مسلم حقاً أم لا؟" وكذلك الأخلاق
أحمد طاش غاتيران: تدخل العقيدة القلوب عندما يدخل القرآن القلوب، وعندما يدخل الرسول الكريم ﷺ إلى الحياة يتحلى الناس بالأخلاق الواجب على المؤمن التحلي بها
نور الدين يلدز: إن الاسلام دين أصحاب الخُلُق القويم، يمكن تشبيه ذلك عندما نضع اللبن الأبيض في كوب نظيف براق. لا يمكن أن يكون الإسلام دين الزاني أو لاعب القمار. وكما أننا لا نضع اللبن في كأس قذر كذلك لا يمكن للإسلام أن يكون ديناً لعديمي الأخلاق إنهم يرفضونه ويولون بعيداً هرباً منه
أحمد طاش غاتيران: هل هناك استعداد خُلُقي للتوجه نحو الأخلاق؟ هل هذه الفكرة صحيحة؟ هل نصل بارتداء رداء الإسلام إلى الأخلاق؟
نور الدين يلدز: يولد الإنسان بفطرة سليمة. لكن قد تقوم عوامل من المحيط بإفسادها، وهنا يأتي دور الإسلام بتصحيح الفطرة وإعادتها إلى أصلها. إن الإنسان يُخلق سليماً صحيحاً نظيفاً ثم يعكره الكفر ويشوه الشيطان فطرته. يشير الرسول ﷺ إلى هذا بقوله: "كل مولود يولد على الفطرة."
أبسط مثال على ذلك صدق الأطفال، فالأطفال لا يستطيعون الكذب، بل ونراهم يُصدقون والدهم حتى لو تكلم كذباً. فلا مكان للكذب في فطرة الطفل. ولكن فيما بعد يتفوقون على والدهم في اختلاق الأكاذيب
أحمد طاش غاتيران: يهتم الناس في العادة بتعلم كيفية الصلاة والصيام. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يجب أيضاً تعلم الأخلاق أم أن تعلم الصلاة والعبادات أمر كاف لاكتساب الأخلاق؟
نور الدين يلدز: قد لا تفيد الصلاة البعض في اكتساب الأخلاق وتعلمها كما يجب، ناهيك عن أن الشيطان يوسوس في أذن المصلين الكثير من الأكاذيب المنمقة المعسولة. وأنا أعتقد أن تدريس الأخلاق لا يكون كتدريس العلم وتلقين المعلومات لأنه عندما تتحول الأخلاق إلى كتاب ومعلومة، فمن السهل حينها أن تُؤلف نظريات معاكسة لها تطعن بصحتها
أحمد طاش غاتيران: فإذن كيف يمكن أن يكتسب الإنسان الأخلاق ويتعلمها؟
نور الدين يلدز: لكي نتعلم أخلاق الدين كل ما علينا فعله هو قراءة رياض الصالحين، قراءة الأحاديث الشريفة والتمعن في صفات وشخصية رسول الله ﷺ. أما الأخلاق المصنفة إلى معلومات وفصول فإنها أشبه ما تكون بالفلسفة. مثلاً إذا أردنا تعليم طفل أخلاق الرسول ﷺ وقدمناها له على شكل معلومات في كتاب، فإن هذا الكتاب سيحتوي على معلومات دخيلة من كتاب آخر ومن فكر آخر، لذا فمن الأفضل أن يتعرف الطفل على الرسول ﷺ من خلال الأحاديث مباشرة فيحفظ مئة حديث مثلاً.
أحمد طاش غاتيران: هل تعني أن نروي للطفل كيف كان يعيش الرسول ﷺ وكيف كانت شخصيته؟
نور الدين يلدز: يقول حديث نبوي شريف: "حق المسلم على المسلم ست. قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّته، وإذا مرض فَعُدْه، وإذا مات فاتبعه." . إذا ما حفظتُ هذا الحديث فهذا يعني أني سأعمل به وسأراعي الأسس الستة التي وردت فيه طالما أنني مؤمن. لذا فأنا أرى أن تحفيظ الأحاديث أمر ضروري للأطفال. مثلاً يتضمن كتاب رياض الصالحين أكثر من خمسمئة حديث والطفل الذي يتعلمها ينشأ نشأة مشابهة لنشأة أنس بن مالك.
أحمد طاش غاتيران: أود أن أسألك عن العلاقات في المجتمع كيف يجب أن تكون؟ مثلاً: حياة الأسرة، كيف يجب أن يتعامل الأزواج مع بعضهم البعض؟ ما هي معايير الأخلاق في علاقة الوالدين بالأولاد؟ ما هو السلوك الصحيح للأولاد مع الوالدين والأجداد والجدات والأقارب المتخاصمين. فلنبدأ بكيفية تعامل الزوجين في إطار الأخلاق، كيف يجب أن تكون؟
نور الدين يلدز: لنتذكر المعايير التي تكلمنا عنها آنفاً. لقد قلنا إن أخلاق المؤمن هي دينه. المؤمن يُعرف من مدى التزامه بدينه والملتزم بدينه ملتزم بأخلاقه دون شك. فالدين هو الأخلاق بعينها والأخلاق هي الدين بعينه، بمقدار ما أتمسك بديني أتمسك بأخلاقي. ما هي النتيجة الطبيعية لهذا؟ كم نقضي من أوقاتنا في المنزل، وفي العمل وفي الجامع، يجب توزيع الأخلاق بحسب هذه النسبة. إذا ما حسبنا النسبة المئوية لتواجدنا في كل من هذه الأماكن فيمكننا أن نعرف نسبة أخلاقنا. نحن بحسب ما تقتضيه متطلبات الحياة اليوم نقضي 55- 60 في المئة من أوقاتنا في المنزل و5 في المئة في المسجد وإذا ما سُئل أصدقائي عن أخلاقي عندها ستكون إجابتهم أنها لا تتعدى الخمسة في المئة ذلك أن هذا هو الوقت الذي أكون فيه في المسجد فحسب. فأنا في المسجد لا أنام ولا آكل كل ما أقوم به هو عبادة الله. ولكن حساب نسبة أخلاقي على أنها الوقت الذي أكون فيه في المسجد فقط أمر غير صحيح. وقد أشار عمر رضي الله عنه إلى ذلك
أحمد طاش غاتيران: كيف ذلك؟
نور الدين يلدز: أشار عمر رضي الله عنه إلى أنه علينا ألا نغتر بقيام شخص وقعوده في صلاته، بل علينا أن ننظر إلى تجارته. علينا ألا ننظر إلى الوقت الذي يقضيه في المسجد وحسب حتى نُقَّيم أخلاق إنسان. إذا ما كان يقضي خمسة في المئة أو ربما عشرين في المئة من وقته في المسجد وثلاثين في المئة في العمل فإنه يقضي خمسين في المئة من حياته في المنزل
أحمد طاش غاتيران: أي أن نصف أعمالنا التي تُكتب عند الله تعالى تُكتب ونحن في منازلنا
نور الدين يلدز: نعم بالضبط. نمضي قسماً كبيراً من حياتنا في المنزل. إن المكان الذي توجد فيه وسادتك والذي تنام فيه هو مكانك الأساسي. أما مكان العمل مثلاً فليس كذلك بالطبع. عندما تُمتحن أخلاق المؤمن تُمتحن وهو في منزله لأنه المكان الذي يقضي فيه نصف وقته على أقل تقدير. والنقاط التي يحصل عليها من ذلك كافية لتجعله يجتاز معدل النجاح. وفي حال الحصول على النقاط التامة في المنزل فإنه يكفي الحصول على اثنين أو ثلاثة في المئة من مكان آخر لتجاوز معدل النجاح. ولكن المؤمن الذي لا تكون أخلاقه كما يجب داخل منزله، لا يحصل على النقاط الكافية وسيكون من الصعب أن يحصل على نقاط من أي مكان آخر ليتجاوز معدل النجاح. فالمسجد هو المكان الذي نؤدي فيه واجباتنا تجاه الله عز وجل، أما الأخلاق فهي تتعلق بعلاقتنا مع الآخرين
أحمد طاش غاتيران: إذن ما الذي علينا القيام به في المنزل لكي لا نخسر نسبة الخمسين في المئة؟
نور الدين يلدز: إن الخلافات بين الأزواج هي أكبر مشكلات الأسرة. في زمن الرسول ﷺ كثُر الحديث عن المشاكل الأسرية في المسجد في المدينة المنورة وكانت النساء تأتين لتشتكين أزواجهن، فاشتكى عمر رضي الله عنه النساء إلى رسول الله ﷺ. عندها نهض الرسول ﷺ وقال: إن أقرب المؤمنين له يوم القيامة هو أفضلهم خُلقاً وبأن أفضلهم خلقاً هو من يعامل زوجته معاملة حسنة. أين يقول ذلك؟ إنه يقوله في المسجد عند صلاة الصبح. يثبت هذا الحديث أن المسجد لا يملأ مكان المنزل في حين أن المنزل يملأ مكان المسجد
أحمد طاش غاتيران: كيف تكون هذه المعاملة الحسنة؟
نور الدين يلدز: ترد في القرآن كلمة "المعروف" دلالة على طريقة التعامل داخل المنزل دون التطرق إلى ذكر أفعال معينة. والمعروف هو الأمر الجيد الحسن المناسب للمعايير. لماذا لم تُذكر أفعال معينة؟ لأن هذا يتغير مع الزمن. للفقهاء شروحات غريبة في هذا الصدد. فهم مثلاً يقولون إذا ما تزوج الرجل بامرأة غنية (أو المرأة برجل غني) فعليه هو أن يحدد معايير التعامل معها أو بعبارة أخرى أن يُحدد معايير المعروف. أما إذا تزوج الرجل بامرأة فقيرة فالأمر أسهل فهي لا تنتظر منه الكثير
يُحكى أن ابن عباس رضي الله عنه ابن عم الرسول ﷺ ومفسر القرآن الكريم كان يوماً في طريقه إلى منزله فانحنى على بركة ماء ونظر إلى انعكاس وجهه عليها ثم قام بتسريح شعره وذقنه. فتعجب أصدقاؤه الذين كانوا برفقته ومازحوه قائلين: ما بال مفسر القرآن الذي تقدم به السن يُسرح شعره الأبيض. وكأنهم يقولون له "سواء سرحت شعرك أم لم تفعل فلا فرق." وانتظروا جوابه لعلمهم بأنه سيكون مرشداً لهم في حياتهم. فقال لهم: امنحوا زوجاتكم ما تريدونه منهن. إن هذا ما يوصي به القرآن. أي أعطي الزوجة بمقدار ما تريده، وإذا طلبتَ من زوجتك أن تكون جميلة فكن أنت كذلك
عندما أذهب إلى منزلي أريد أن ألقى زوجتي جميلة وأنيقة لذا أقوم أنا أيضاً بذلك، هذه هي أخلاق المؤمن. ولكن إن كنت فهمت من هذا أن عليك وزوجتك الذهاب إلى صالون الحلاقة فإنك لم تفهم شيئاً من الإسلام. إن مقياس الرجولة لدى ابن عباس هو: إن كنت لا أريد أن تصرخ زوجتي في وجهي فعلي ألا أصرخ أنا في وجهها، وإن كنت أريدها أن تسرح شعرها فعلي أنا أيضاً أن أسرح شعري. أن يكون للزوج الحق في أن يطلب دون أن يكون للزوجة نفس الحق ليس من الأخلاق. هذه أكبر المشكلات التي تعانيها الأسر. لا يحق للرجل الطلب والأمر وفرض رغبته على زوجته، من لا يعطي الحق لزوجته أن تعامله كما يعاملها فلم يعلمه القرآن الذي علم ابن عباس
أحمد طاش غاتيران: كيف على المرآة أن تكون؟ وكيف على الرجل أن يتصرف عندما تطلب زوجته منه شيئاً؟
نور الدين يلدز: لقد شرحنا ذلك بنموذج ابن عباس، لا فرق بين الرجل والمرأة في الإسلام! الكل عباد الله
أحمد طاش غاتيران: عندما نعطي مثالاً عن تعامل الزوج مع زوجته فقد يُفهم أن هذه المعاملة تقتصر على الرجل، أو عند ذكر مثال عن المرأة قد يُفهم أن هذه الأخلاق مطلوبة من المرأة فقط. أليس كذلك؟
نور الدين يلدز: عندما نقول علينا مراعاة صحتنا: على النساء ألا يرتدين ثياباً رقيقة في الشتاء، هل هذا يعني أن النساء فقط هن من يجب ألا يرتدين ثياباً رقيقة في الطقس البارد؟ هل هذا يعني أن الرجال يمكنهم ارتداء الملابس رقيقة في الشتاء؟ هل هذا ممكن؟ إن الخطأ يبدأ من التفكير بهذه الطريقة دوماً
ما يقوله الله تعالى في كتابه العزيز ورسوله ﷺ في سنته إنما هو من أجلنا جميعاً؛ لافرق بين رجل أو امرأة. والقرآن يؤكد على الذكر والأنثى على حد سواء. لذا فإننا ندعو أخلاقنا بأخلاق المؤمن ولا يمكننا أن نجعلها تقتصر على المرأة فقط أو على الرجل فقط
علينا أن نوضح هنا أمراً هاماً يختلط على الكثيرين، فتوضيحه يحمل فائدة عظيمة للمتزوجين حديثاً أو للأسر المتخاصمة. فلنقل مثلاً إننا زوجنا ابنتنا عائشة لأحمد، وعُقِد القرآن على سنة الله ورسوله وأصبح الاثنان أسرة واحدة فللزوجة مسؤوليات أمام زوجها وللزوج مسؤوليات أمام زوجته. وهنا تبدأ المشكلة
أحمد طاش غاتيران: كيف؟
نور الدين يلدز: سأشرح ذلك. لماذا تحمل المرأة مسؤولية تجاه زوجها في بيت أُسس باسم الله؟ إن صاحب البيت هو الله تعالى وعندما تقوم أنتَ بوظيفتك كرجل وأنتِ بوظيفتك كامرأة فإن كل منكما سينتظر الثواب من الله تعالى وسيخشى العقاب منه. فالله هو من يطالب الزوجين بالواجبات وهو من يحاسبهما على حسن تأديتهما لهذه الواجبات. لو أن بيوتنا تبنى على الأخلاقيات التالية: مثلاً أن تقول المرأة لزوجها إنني لا أرفع صوتي أمامك حياءً من الله تعالى، فهي عند ذلك تسبق زوجها وتتفوق عليه في حسن الخلق وستجد الله تعالى إلى جانبها. وللأسف كثيراً ما تحاول الزوجة أن تنتزع حقوقها من الزوج انتزاعاً والزوج لا يمنحها إياها، وكثيراً ما يحاول الزوج انتزاع حقوقه فتلجأ الزوجة إلى المحكمة أو إلى أمها أو إلى محيطها لتحارب وتناضل من أجل نيل حقوقها، وفي النتيجة لا يحصل أي طرف على ما يريد. لكن عندما تتأسس الأسرة، ألا تُؤسس باسم الله تعالى؟
مثلاً عندما ترى امرأة تقوم بكيِّ قميص زوجها فتسألها ماذا تفعلين؟ تقول إنني أقوم بكيِّ قميص زوجي، وإذا قلت لها لا تفعلي فتقول هذا غير ممكن فزوجي يهتم بهذه التفاصيل. إن هذا خاطئ. وحري بها أن تقول إن زوجي سيرتدي قميصه بأفضل شكل بينما أنا سأجد ثوابي عند ربي. يذكر حديث نبوي شريف أن الرجل إذا أطعم زوجته لقمة فإنها تحتسب له صدقة. فماذا سيكون ثوابه إذن عندما يأتي محملاً بأكياس الطعام ويلبي احتياجات منزله؟
إننا نعتقد أن الصدقة هي التبرع بالغذاء لإفريقيا وحسب، إلا أن رسول الله ﷺ يخبرنا أن مساعدة الأزواج لبعضهم البعض يُعد "صدقة". هذا أمر هام للغاية. لذا فإن سلوكنا الحسن في المنزل يدل على مدى التزامنا بالأخلاق الحميدة. كل ما نفعله ونقوم به يجب أن يكون من أجل الله. إذا قال الرجل: "إنني أتصرف بلطف مع زوجتي لأنها أمانة من الله"، وقالت المرأة: "إنني أحترم زوجي لأن الله يريد مني ذلك ورسوله ﷺ يأمرني بذلك."، إذا ما وصلنا إلى هذه المرحلة من الأخلاق فلن يجد الشيطان مكاناً بيننا. لأننا عندها سنكون قد وصلنا إلى مستوى رفيع من الأخلاق. عندها لا ترى قميصك الذي نسيت زوجتك كيه ولا تسمع صوت حماتك وهي تصرخ. إن من ينظر إلى المسألة من زاوية ضيقة فيقول: "سأجبر زوجتي على كي قميصي." ويحاول اللجوء إلى القوة سيلجأ فيما بعد إلى المحكمة عندما لا يجد قميصه مكوياً. أو عندما تقول المرأة: "على الرغم من أنني كررت له طلبي نسي أن يأخذني إلى بيت والدتي." سينتهي بها المطاف لتقول سأذهب بنفسي ولن أعود
هناك اختلاف كبير بين أن نفكر بأفق واسع أو بأفق ضيق محدود. الأخلاق منزلة من عرش السماء
أحمد طاش غاتيران: كما هو الأمر بالنسبة إلى الأسرة كذلك هو بالنسبة إلى حياتنا الاجتماعية وحياة العمل. كيف يجب أن تكون أخلاق المؤمن في هاتين النقطتين؟
نور الدين يلدز: عندما تكون أخلاق المؤمن جيدة في منزله فيكفي التنبيه لأمرين: الأول هو عدم التعدي على حقوق الآخرين سواء من الناحية المادية أو المعنوية كالتأخر في دفع الدين أو حتى الدوس على قدم الآخر والغيبة... هناك الكثير من الأمثلة على ذلك. فإذن الخط الأحمر الأول هو ألا نُسأل عن حق أحد يوم القيامة. مثال على ذلك: عندما تقود عربتك بسرعة خمسين كيلومتراً فعليك أن تترك مسافة بينك وبين السيارة التي تتقدمك، مسافة لا تقل عن الخمسة وعشرين متراً. فإذا ما اقتربت عشرة أمتار فإنك تخيف راكب السيارة التي أمامك إذا كان لا يتقن القيادة. رغم أنك لم تصدمه لكنك تكون قد أخفته وهذا انتهاك للحقوق
والأمر الثاني هو اللطف في التعامل والحديث الطيب والابتسام. يصف الرسول ﷺ تبسمنا في وجه المؤمن بأنه صدقة. علينا التصدق قدر المستطاع. إذا استطعت عدم تعدي هذين الخطين الأحمرين فعندها ستتمتع بأخلاق حميدة. هذان الأمران مشمولان ضمن أخلاق المؤمن في منزله ولكن يضاف إليهما نقاط أخرى ثالثة ورابعة وخامسة في المنزل
عندما نتكلم عن علاقات العمل نتكلم دائماً عن علاقة رب العمل بالعاملين وننسى أن نذكر علاقة العاملين ببعضهم البعض فهم أيضاً لهم حقوق يجب أن يراعوها تجاه بعضهم، كأن يرتكب أحدهم خطأ يتسبب بمعاقبة العمال الآخرين أو أن يتكاسل ويتقاعس عن تأدية عمله فيبطئ سير العمل. كأن يتسبب عامل في مشغل للخياطة بإبطاء سير العمل وينتج ثمانية عشر قميصاً بدلاً عن عشرين فيقوم صاحب العمل باقتطاع ثمن القميصين من جميع العاملين. هذا هو حق العبد. ونحن نظن أن من يسرق قميصاً هو فقط من يعتدي على حق العبد
أحمد طاش غاتيران: هل يمكننا الحديث عن التعاون على الأخلاق؟ نحن مجتمع مسلم ولكننا نعلم أننا نعاني من ضعف في أخلاقنا. كيف يمكننا إنشاء مجتمع جديد؟
نور الدين يلدز: أولاً علينا تجنب الكذب وثانياً الغيبة وثالثاً النميمة ورابعاً علينا مراعاة الحقوق المادية. عندما نقوم بتلك الأمور الأربعة سيرتقي مجتمعنا تماماً كالزهور التي تتفتح عندما يذوب الثلج. الكذب عائق كبير أمام الأخلاق فلا أخلاق مع الكذب
أحمد طاش غاتيران: إن أكثر الأمور التي ذكرتها تتعلق باللسان
نور الدين يلدز: نعم هو كذلك. فأكثر ما نؤذي به بعضنا هي ألسنتنا. نحن لا نضرب بعضنا لأننا نعرف أن الشرطة قريبة ومتواجدة على ناصية الشارع. أما الكذب فلا يحتاج إلى تدخل الشرطي. ولا تستدعينا المحكمة عندما نغتاب بعضنا. لكننا سنحاسب على الغيبة في المحكمة العليا والمشكلة تكمن هنا. والأمر الرابع هو مراعاة الحقوق المادية. تبقى هناك بعض الأمور الأخلاقية التي تحتاج تقويماً، ولكن عندما تستقيم أخلاقنا تزداد ثقتنا ببعضنا البعض ونعتمد على بعضنا البعض، عندها سنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر وسنشجع بعضنا على فعل الخير وسنقوم به لنكون أمثلة يحتذى بها. عندما لا نتخلص من الكذب والغيبة، وعندما لا يزعجني أن نُقودُ فلان التي لا تزال بحوزتي أو عندما لا أكترث لصوت سيارتي الذي يزعج الآخرين فهذا يعني أني لا أتمتع بأخلاق حميدة
أحمد طاش غاتيران: أشكرك أستاذي الكريم