التدين في المدينة
بروفسور د. لطف الله جيبيجي
جامعة أرجيس ـ كلية الشريعة / قيسري
يرى بعض الناس أن التدين أمرٌ يليق بأهل القرى، ويرى آخرون أن الأفضل يوجد دوماً في المدينة، لذا فإن التدين الأفضل تدين أهل المدينة. والسبب في اختلاف وجهتَي النظر يرجع إلى المعنى الذي نسبغه على الدين وعلى التدين... إذا عرَّفنا المتدين بأنه مسلم يتمتع بعمق التفكير وذو خبرة يعرف بماذا يؤمن ولماذا،وينعكس ما يؤمن به على شخصيته وحياته، ويتمتع بثقافة وتجربة متماشية مع ما يعتقد، وأنه إنسان مخلص ودود ذو شخصية متزنة يمكن الوثوق به، واثق من نفسه يتصرف باتزان؛ فنستطيع القول عندئذ إن احتمال العثور على هذا النوع من التدين في المدينة هوـ بلا شك ـ عال جداً، لأن هذا النوع يمكن الحصول عليه بالتعليم والتعلم. لكن إذا نظرنا إلى الدين من زاوية مادية إلحادية واعتبرنا أنه أمر لا يليق كثيراً بإنسان العصر، عندها يفقد الدين رواجه ويعدُّ إيماناً مليئاً بالخرافات البدائية الخارجة عن حدود العقل والمنطق، وحينها سنعتبر أن الدين والتدين يليقان بالناس الذين يعيشون في القرى والجبال والأرياف البعيدين نوعاً ما عن الحضارة
إن الدين في الحقيقة موجود داخل كل إنسان سواء كان من سكان المدن أم القرى، إلا أن المدن كانت المركز الأساسي ونقطة انطلاق التبليغ، لهذا كان جميع الأنبياء من سكان المدن، ويخبر الله جل جلاله الرسول ﷺ عن ذلك بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ (يوسف 109) أي كان جميع الأنبياء ومنذ القديم رجالاً متحضرين من سكان المدن، ولم يكونوا بدويين رحَّلاً أو من سكان الجبال أو القرى؛ وإنما أناساً شجعاناً ينحدرون من المدن لأن النبوة مصدرُ أكبر الحضارات، في حين أن بيئة القرى والبدو الرحل لم تكن البيئة الملائمة لصفات النضج والرقة والقدرة على الاجتذاب وجميع الخصال الحميدة الأخرى التي يجب وجودها عند الأنبياء
وأهل المدن يكونون أكثر قدرة على الإدراك والفهم لما يتمتعون به من معرفة وخبرة. والعلاقات بين الناس في المدن أكثر تعقيداً وكثافة، بينما تسود الرتابة في الحياة في الصحراء والقرى، كما أن الاحتياجات هناك محدودة ومحددة، وتبليغ رسالة الأنبياء أمر متعدد الأبعاد ويتطلب الإجابة على مطالب الناس في كل مكان وفي جميع الحالات، وكذلك تلبية متطلبات الحياة اليومية من مختلف النواحي
لهذا فإن الأنبياء بعثوا أولاً إلى المدن، وبدؤوا في تبليغ الرسالة التي كلفهم بها الله تعالى عبر الوحي إلى الناس انطلاقاً من المدن بل وحتى المدن الكبرى. وهكذا يقول الله تعالى في كتابه العزيز
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ (القصص 59)
وفي آية أخرى يقول الله تعالى مخاطباً نبيه عليه السلام
وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ (الأنعام 92؛
معنى مشابه في الآية 7 من سورة الشورى). أي غن الله تعالى أشار إلى ضرورة أن تبدأ الدعوة من "أم القرى" في شبه الجزيرة العربية؛ أي مكة المكرمة التي تعتبر مدينة كبرى
واللافت للانتباه أن القرآن الكريم يذكر مكة التي ولد فيها النبي ﷺ وترعرع بـ "أم القرى". وهذه الكلمة مرادفة لكلمة (الحاضرة) أو (ميتروبول) التي تعني باليونانية القديمة المدينة الكبيرة المركزية بما حولها من أحياء مجاورة وقريبة والمساحة الكبيرة الواقعة تحت تأثيرها. كلمة مدينة وكلمة مدنية مشتقتان من الجذر نفسه، لأن المدينة هي مركز الحضارة ولهذا سميت بالمدينة. لهذا عندما هاجر النبي ﷺ من مكة المكرمة إلى "يثرب" أطلق على يثرب اسم المدينة لأنها كانت ستصبح مركز التسامح والتفاهم والعدل والأخوة والقانون ومنها تفتحت براعم الحضارة الإسلامية
والحضارة تقدم للإنسان حياة تعتمد على القيم والمعتقدات وهذه القيم والمعتقدات تحيط بجميع نواحي الحياة المادية والمعنوية. وتختلف حضارة عن أخرى بفلسفتها ونمط الحياة الذي تقدمه للبشر
إن كلمة "بداوة" عكس كلمة "الحضر" وفي حين تعني كلمة حضري "سكان المدينة" فإن كلمة "بدوي" تعني سكان البلدة أو الشخص الذي لا يسكن المدينة، بل القرى أو الجبال أو الصحراء ويكون أحياناً "من البدو الرحل". فهذه الكلمة في القرآن الكريم مرادفة لكلمة "قروي" التي نستخدمها عكس كلمة "حضري". فعلى سبيل المثال تلخص سورة التوبة الحياة الفكرية والحالة الروحية للـ "بدو" في قوله تعالى
﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ واللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (سورة التوبة 97-99)
إن حياة سكان القرى محدودة في الغالب، ولا تتعدى الخيم التي يقطنونها والحيوانات التي يرعونها والأماكن التي يتجولون فيها في الأرياف، لهذا فإنه من الطبيعي أن تكون عوالمهم وآفاقهم الفكرية محدودة، و بعضهم يكونون- وفق التعبير القرآني- أشد كفراً ونفاقاً من أهل المدن. وهذا يرجع إلى صعوبة ظروف معيشتهم وبعدهم عن المدن والأشخاص الذين سيعلمونهم الدين والإيمان. وتكون طباعهم أكثر خشونة من سكان المدن، ويكونون أكثر شكَّاً لأن معيشتهم أكثر صعوبة، وكما يقول المثل- إن صح التعبير-: "إن من تلدغه الأفعى يخشى الحبل." وأهل القرى لا يصدقون على الفور ما يُقَال لهم لكنهم لا يقولون ذلك بشجاعة وإنما يلجؤون إلى النفاق لحماية أنفسهم، لأن معرفتهم وآفاقهم الفكرية غير كافية لفهمهم ما يقوله الأنبياء، وجهلهم في هذه الأمور أمر طبيعي، وقد ذكرهم الله في كتابه فقال
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات 14)
فهم يجدون صعوبة في الإيفاء بمتطلبات الإسلام حيث يرون ـ على سبيل المثال ـ في إنفاق المال والصدقة في سبيل الله خسارة، ولا يرون الأمر مكسباً أو ربحاً لأنهم لا يبذلون ذلك المال من أجل إرضاء الله وحده ولا يرجون ثوابه تعالى . لذا فإن الأعراب يتمنون أن تحل المصائب بالمسلمين وألا يكونوا هم الأعلى ليتخلصوا من أداء هذا الأمر الذي يرونه عبئاً لا طائل وراءه
بيد أن ذلك لا ينطبق عليهم جميعاً، فكما تذكر الآية الكريمة هنالك من يؤمن بالله وبالآخرة إيماناً خالصاً، ويعد الصدقات والنفقات التي يبذلها في سبيل الله خيراً كبيراً وزاداً له في الآخرة، وهناك بدو وأعراب ينفقون انطلاقاً من هذا الإيمان
إن المناخ الصعب الذي يعيش فيه سكان القرى والأرياف يسهم بدرجة كبيرة في هذه الأحوال السلبية التي يعيشونها، والأمر الذي يجعل سكان المدن في مرتبة أعلى من سكان القرى يرجع أيضاً إلى المناخ الذي يعيشونه في المدن، فالمناخ الاجتماعي والاقتصادي لحياة المدينة يجلب معه المعرفة والخبرة والثقافة والسعة والرفاه
أجل؛ إن القرآن يذم الأعراب وأهل القرى والجبال، إلا أن التحضر وحياة المدن ليست بالأمر الهيِّن... لأن التدين والعدل والتسامح ومراعاة الحلال والحرام واللقمة الحلال والكسب الحلال وكذلك مراعاة حقوق الآخرين وصون العين واللسان والقلب والحفاظ على الاستقامة أمر أصعب في المدينة، كما أنه لا يمكن المساواة بين إدراك القروي للدين وعيشه له، وبين تدين ابن المدينة، فخصائص كل منهما مختلفة
لكن ثمة حقيقة يجب الإشارة إليها ألا وهي أن التدين في المدينة لا سيما في أيامنا هذه يبدو أمراً أكثر صعوبة، فالمدينة تقدم للإنسان إمكانيات لا حصر لها، لكنها وفي نفس الوقت تضع أمامه العوائق، والإنسان قد يستخدم تلك الطاقات ليسمو بروحه أو قد يتعثر بالعوائق ويهبط إلى الدرك الأسفل... لهذا فإن "التدين" اليوم في حياة المدينة في تزايد لكن ومن جهة أخرى نرى في المدينة ابتعاداً عن الجوهر وتغرباً عن الذات وانحلالاً معنوياً
فإنسان المدينة قد يسأم أحياناً من انحلالها فيتجه إلى التدين للاحتماء بدرعه؛ أي إن الهوس المفرط بالدنيا يثير خوف إنسان المدينة وهو ما قد يعيده إلى رشده. ولعل إنسان القرية لن يشعر بهذه المخاوف أو تلك الحاجة. وهذا بلا شك لا يعني أن أهل القرى أكثر نقاءً وصفاءً من أهل المدن. فالعالم بدأ يتحول إلى قرية صغيرة مع تطور العصر ووسائل الاتصال، وبفضل أجهزة التلفاز والأقمار الصناعية والهواتف المحمولة زالت الفروق بين القرية والمدينة وبات سكان القرى يرون كل شيء ويطلعون على كل جديد، وباتوا جزءاً من كل أنواع انعدام الأخلاق، ولم يعد هناك في كثير من النواحي ما يميز بين المدينة والقرية؛ لهذا أصبحت قرانا ـ مع الأسف ـ تبدو راغبة بفقدان جوانبها الإيجابية وتُشاطِرُ المدنَ سلبياتِ العصرَ
وعلينا في حديثنا عن التدين في المدن عدم إغفال نقطة هامة، ألا وهي أن مدينة الأمس ليست كمدينة اليوم، فقد أصبحت شروط الحياة في المدينة الآن أكثر صعوبة في بعض النواحي، وتدفع الإنسان بشكل أكثر إلى ارتكاب الأخطاء. واليوم تقدم المدينة لسكانها خيارات لامتناهية تجرهم إلى "الذنوب" وتسهل ارتكابها، فصار التدين في المدينة أكثر صعوبة، وهذا أحد أهم الفروق بين الأمس واليوم
وإذا ما رجعنا قليلاً إلى الوراء في تاريخنا، نرى أن سكان المدينة كانوا فيما مضى مجتمعاً أكثر تلاحماً، وكانت بينهم شخصيات يحبونها وعلماء أفاضل، وكان يفكر بعضهم ببعض، وعندما تقع مشكلة ما كان هؤلاء النخبة يتدخلون بإحسان ورحمة لحلها. وعندما تراجع دور هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يلعبون دوراً إرشادياً، بات الناس وحيدين مع مشاكلهم، وأصبحوا أفراداً بعد أن كانوا جماعة ولم يعودوا قادرين على تشاطر الخيرات وتعميمها، أو تشاطر الهموم وتصغيرها. وكان من يهاجر من القرية إلى المدينة سابقاً يذوب في هذه البوتقة، لكنه هو أيضاً أصبح في حاله. وهكذا نما في كثير من الأحيان مفهوم التدين غير العميق، وإذا ما أضيف إليه الغنى اختفى التواضع والاقتصاد واحترام الآخرين، وظهر خليط عجيب من التدين الممزوج بالإسراف والبذخ والجري وراء كل طراز جديد. بعبارة أخرى بدأت رموز نمط الحياة الغربية المستقاة من الحضارة الرومانية واليونانية تسيطر على تديننا في المدن، وصار ما كنا نسميه في الماضي إسرافاً أمراً اعتيادياً في نظرنا
وصفوة الكلام أن التدين اليوم في المدينة أو في القرية على حد سواء أمر صعب، وفي الواقع أصبح التدين أمراً عسيراً في كل زمان وفي أي مكان. ولا تستطيع إلا قلة قليلة من الناس اليوم أن تتحمل بإخلاص وبصدق المصاعب والتحديات التي يتطلبها التدين وهم يحاولون أن يكونوا عباداً صالحين في حياتهم، سواء من سكان القرى كانوا أو المدن. إنها دنيا الامتحان، بعضهم يُمتَحَن بالقدرات والآخر بالعوائق، وكل من الامتحانين له نواحيه الصعبة، إلا أن الذين يمتحنون بالفقر والحرمان يكونون في معظم الأحيان أكثر نجاحاً ممن يمتحنون بالمال والسعة؛ إذن علينا النظر إلى كيفية حياتنا ومدى إخلاصنا في تديننا بغض النظر عما إذا كنا نعيش في مدينة أو في قرية