التصوف - 2
وصولٌ إلى الكمال بالقرآن والسنة
التصوف؛ هو القضاء على الأهواء والرغبات النفسانية
فبناء على خطورة وأهمية الأمر يقول الحق سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بعد قسم متكرر ومتتالٍ سبع مرات
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس: 9 - 10)
إن كلاً من هيمنة ثقافة العولمة، وأشكال الدعاية والإعلان، المثيرة لغرائز وشهوات النفس، وصيحات الموضة والأزياء التي تدفع إلى التبذير والإسراف بحثاً عن الرفاهية والنَّعيم، والحملات الإعلامية التي تشنها القنوات الفضائية ومواقع الانترنت ووسائل التواصل وما تقدمها من محتويات سلبية جلبت معها اليوم تلوثاً وانحطاطاً معنوياً وروحياً مريعاً. فقد صارت عوالم القلب والعقل لدى الناس في حالة فوضى عارمة، وانقلبت الأمور فيها رأساً على عقب. واختلطت الغاية والوسيلة. فباتت القاعدة الأساسية في المجتمعات، الحياة من أجل الطعام والشراب والاستهلاك، بدل الأكل والشرب من أجل الحياة، وبعبارة أخرى أصبحت القاعدة نعيش لنأكل ونشرب ونستهلك، بدل أن نأكل ونشرب لنعيش. صارت القلوب أسيرة الدنيا، وأمةً لأهواء وشهوات النفس. وأدخلت حالةُ الاضطراب والتذمر وانعدام القناعة التي سيطرت على الأرواح، الإنسانيةَ في أزمات ومعضلات فردية واجتماعية. وأخيراً جرى تلقين الناس مفهوماً دنيوياً بعيداً عن كافة الهواجس الأخروية، وكأنه ليست هناك آخرة
ولهذه الأسباب فإن التربية التصوفية التي تعني تزكية النفس، وتصفية القلب تتمتع اليوم بأهمية أكبر من أي وقت مضى. لأن التصوف تعليم وتربية وتدريب على الحمد، والشكر، والرضا، والزهد، والاستغناء، والقناعة. إنه إدراك للحقيقة المتمثلة بأن الحياة الأصلية هي حياة الآخرة، وتخليص للقلب من الرغبات والشهوات النفسانية الدنيوية الزائلة
إن كل شيء في التصوف يبدأ بعد حالة الفناء
فمجاهدة التصوف تهدف إلى اقتلاع الوجود، والأنانية، والغرور، والكبر من العالم الداخلي للإنسان ورميها جانباً، والأخذ به إلى إدراك حالة الفناء، والافتقار والعدم، ونكران الذات
كان سلطان العارفين حضرة الشاه نقشبند من كبار الرجال، أي من السادة المشايخ وأرباب العلم. ورغم ذلك ففي السنوات الأولى لانتسابه والتحاقه بالتربية المعنوية كان ينظف الطرقات التي يمر فيها الناس، ويخدم المرضى، والعجزة، وحتى الحيوانات التي تعاني من جروح وإصابات. وبذلك وصل درجة عالية من التواضع وحالة الفناء
وكذلك كان الشيخ خالد البغدادي يُسمى في العلم "شمس الشموس". ولما جاء إلى تكية الشيخ عبد الله الدهلوي لم يخرج الشيخ الدهلوي لاستقباله، فضلاً عن أنه لم يسند إليه في تكيته ومحرابه وحلقته أي وظيفة. وإنما كلفه أولاً بتنظيف بيت الخلاء من أجل القضاء على أنانيته وتحصيل حالة الفناء
والأمر ذاته حدث مع الشيخ عزيز محمود هدائي، فمع أنه كان قاضي مدينة بورصة، فقد مر في تكية الشيخ أُفتادة بمراحل مشابهة لما ذكر في الأعلى من أجل الوصول إلى الفناء والعدم ونكران الذات. حيث أخذ يبيع الأكباد في أزقة بورصة وهو يرتدي عباءته المزركشة. ونتيجة لهذه المراحل النوعية التي قضى فيها على الغرور والكبر والأنانية صار مرشداً كاملاً يوجه سلاطين العالم. فقد جاء من بعده وحتى الآن عدد لا يُحصى من القضاة ومضوا كما جاؤوا؛ إلا حضرة هدائي، حيث بقي بسبب هذه الخصوصية التي تفرد بها، بقي حياً في القلوب منذ أربعمائة عام ولا يزال
إذاً؛ إن كل شيء في التصوف يبدأ بعد بلوغ حالة الفناء
يقول الشيخ أبو الحسن الخرقاني
إنما يترقى الرجال (الأولياء) بطهارة الباطن (تزكية النفس وتصفية القلب)، لا بكثرة العمل (تذكرة الأولياء، ص، 622)
الصلاة، والصوم وسائر العبادات عظيمة، ولكن تصفية القلب من الكبر والحرص والحسد وغيره من الصفات الذميمة أعظم وأجل. (تذكرة الأولياء، ص، 629)
وفي الحقيقة إنّ السر وراء ارتقاء كل الأولياء وأهل الله هو هذه الحالة من التواضع، والافتقار والعدم، والفناء
وأما الخصلة الذميمة التي يكون تركها أكثر صعوبة ومشقة على النفس فهي: الغرور، والكبر، والأنانية. فقد قال أبو هاشم الصوفي الذي يُعد من المتصوفين الأوائل
إن اقتلاع الكبر المتمكن في القلب أشد وأصعب من حفر الجبال بإبرة
إلا أنه إذا لم يتحقق هذا، فليس من الممكن تحصيل التكامل المعنوي والوصول إلى حالة "الإنسان الكامل" التي هي هدف الدين. إذ جاء في الحديث النبوي الشريف
لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر (مسلم، الإيمان، 147)
وبناءً على ذلك؛ يُعد كل من الغرور، والعجب، والأنانية سرطان الطريق المعنوي. وإن غاية التربية التصوفية هي ترك "الأنا" المتولدة من النفسانية، وختم الأنانية بخاتم الإبطال والإلغاء
وإن الكبر الذي يعني تقديم الأنا وإظهارها علامة جهنم. وأما تبديد الأنا/الأنانية والقضاء عليها ففناءٌ في الحق وتعبير عن الافتقار والانعدام
لما اعترض الشيطان الملعون على أمر الحق سبحانه وتعالى وارتكب خطيئته الأولى وقع أسيراً لغروره، وتكبره، وأنانيته فبدلاً من الاعتراف بذنبه وطلب العفو أصر على خطأه، ولم يندم على ذنبه. وبدلاً من تأنيب نفسه والتوبة، صار ضحية لعناده واستكباره. فحلت عليه لعنة الله سبحانه وتعالى
وارتكب أبونا آدم وأمنا حواء عليهما السلام أول معصية ظهرت لدى البشر، وذلك باتباعهما الشيطان وأكلهما من ثمار الشجرة التي حرمها الله تعالى. إلا أنهما لم يفعلا كما فعل الشيطان، فلم يختلقا الأعذار والذرائع للتغطية على الخطيئة وتبريرها، وإنما سارعا إلى تأنيب نفسيهما والاعتراف بذنبهما وطلب المغفرة بكل صدق وإخلاص
(قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (الأعراف: 23)
حيث أظهرا فضيلة العودة عن الخطأ والاعتراف به، فلجأ إلى رحمة الله تعالى ومغفرته بمشاعر الندم، والخجل، والتذلل. وتابا واستغفرا بإخلاص، ولما قبل الله سبحانه وتعالى توبتهما صارا مظهراً لنيل اللطف الإلهي
وانطلاقاً من ذلك؛ فإن أعظم مجاهدة في التصوف وضع حد للنفس أمام ربها سبحانه وتعالى ، وعدم السماح لها بالتمادي. إذ إنّ النفس تُعجب بذاتها حتى عند أداء العبادات، فتنشغل بتقصير وعيوب الآخرين وتستعلي عليهم بطريقة غير مباشرة
يقول الشيخ سعدي الشيرازي في كتابه كلستان
كنت في صغري مولعاً بالعبادات لدرجة كبيرة. فكنت أقوم في الليالي وأنشغل بالعبادة. وذات ليلة كنت جالساً بجانب والدي، فلم تغمض عيني طوال الليل، ولم أترك القرآن من يدي. وكان هناك من هم نائمون حولنا. فقلت لأبي
لم لا يرفع أحد من هؤلاء رأسه فيتوضأ، ويصلي ركعتين تهجداً؟، إنهم نائمون مثل الأموات. فقطب أبي جبينه وقال
يا بني! ليتك كنت نائماً مثلهم، بدلاً من خوضك في غيبتهم
وكأن الأب يلقن ابنه سعدي درساً، فيقول: "إن الذين استحقرتهم وإن كانوا محرومين من فيوض وقت السحر، إلا أن الملائكة الكتبة لا تسجل عليهم شيئاً. وأما أنت، فقد كُتب في سجلك معصية ازدرائك بإخوانك في الدين، ومعصية الخوض في غيبتهم
إذاً؛ إن للنفس كما تبين من المثال المتقدم مكائد وحيل لا حصر لها، والتي تبدو في ظاهرها كأنها حق. فالإنسان الذي يشعر بالاستغناء في نفسه، ويقول "أنا" بمشاعر الاستعلاء والفوقية النفسانية وإن كان مرشداً يخدم في طريق المعنويات، فإنه بعيد عن حقيقة الطريق
إن من شأن قيام بعض المرشدين المعنويين وخاصة في أيامنا هذه بأعمال وتصرفات تنمّ عن الغرور، والأثرة، والأنانية لدرجة الادعاء بقوى وقدرات وسلطة وحصرها بأنفسهم، من شأنه تسميم الطريق الذي يمثلونه، وتلطيخ شفافية ولطافة الطريق المعنوي الذي يسيرون عليه. إذ أن طريق التصوف كما يعبر في المثل "المحكمة ليست ملكاً للقاضي، وكذا ليس حقاً مكتسباً لأحد أبدا
التصوف؛ صحبة الصالحين
يعطي الشيخ سعدي أمثلة عن كيفية سريان الأحوال إلى الآخرين، وتأثيرها في تغيير حياة الشخص المعنوية، فيقول
لقد نال كلب أهل الكهف قطمير شرفاً عظيماً لصحبته الصادقين؛ فورد ذكره في القرآن الكريم. وأما امرأة نوح، وامرأة لوط فقد استحقتا نار جهنم لأنهما كانتا مع الفاسقين بقلبيهما. (ولم يشفع لهما أن زوجيهما كانا من الأنبياء)
ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى يحث المؤمنين على صحبة عباده الصادقين والصالحين، فيقول
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119)
وإذا لاحظنا هنا فإن الله تعالى لا يقول في هذه الآية الكريمة "كونوا صادقين"، وإنما يقول "كونوا مع الصادقين". لأن من أبسط نتائج صحبة الصادقين أن يصبح الإنسان صادقاً
يقول الشيخ عبيد الله أحرار
إن الأمر الوارد في الآية الكريمة "كونوا مع الصادقين" يفيد المعية والصحبة الدائمة. ولأن الصحبة/المعية ذكرت في الآية بصورة مطلقة، فإنها تدل على الصحبة الفعلية والحكمية معاً. فالصحبة الفعلية هي التواجد المادي الحقيقي في مجالس الصادقين وبحضور قلبي. وأما الصحبة الحكمية فهي تخيل أحوالهم في غيابهم والاندماج معها
فمحبة الصالحين، والإحساس بمعيتهم حتى في غيابهم، والنظر إلى الحياة وحوادثها بمنظارهم يُكسب الإنسان نشاطاً وحيوية معنوية كبيرة. وقد أولي في التصوف أهمية كبيرة للرابطة لملاحظة تحقيقها هذه الفائدة المعنوية
الصحبة/المعية القلبية: الرابطة
الرابطة هي عبارة عن الاحتفاظ بالمحبة حية ونشطة بشكل دائم. وفي الواقع لا يوجد في الكون إنسان بدون رابطة. فكل إنسان مرتبط قلبياً بأحد ما. فالأم والأب مرتبطين بأولادهما، والأولاد مرتبطون بأمهاتهم وآبائهم، والخطيب مرتبط بخطيبته، وهناك رابطة القدوة والمثل الأعلى أيضاً، حيث يحب الشاب شخصاً فيتخذه مثله
الأعلى، وهلم جراً. أي إن كانت رابطة المحبة الطبيعية هذه موجودة حتى في الأشياء الدنيوية والفانية، فلا يمكن إذاً التفكير بعدم وجود هذه الرابطة في المعنويات
إن أفضل وأجمل مثال للرابطة بالمعنى التصوفي هو رابطة المحبة التي كانت بين الصحابة الكرام والنبي عليه الصلاة والسلام
فحالة الانعكاس والانصباغ التي ظهرت في أرواح الصحابة الكرام من خلال روابطهم القلبية مع رسول الله عليه الصلاة والسلام أدت إلى سريان أحوال النبي عليه الصلاة والسلام إليهم. ولهذا كان الصحابة الكرام يشعرون بلذة ونشوة عظيمة عندما يقولون له بصدق وإخلاص: "فداك أمي وأبي ونفسي ومالي يا رسول الله!". فكانوا يمنون على أنفسهم بالتضحية بكل شيء في سبيل الله ورسوله
فهم قد نفذوا إلى مضمون وروح الحديث الشريف
المرء مع من أحب (البخاري، الأدب، 96)
فحققوا مع النبي عليه الصلاة والسلام حتى في غيابه الوحدة/الصحبة بالحال، وبالفعل، والمشاعر، والفكر. وببركة هذه الصحبة صاروا مظهراً لألطاف الله سبحانه وتعالى ومكارمه الفريدة
فلما غدر المشركون بالصحابي خُبيب رضي الله عنه ووقع أسيراً بين يديهم، وأرادوا قتله في مكة، كانت له أمنية وحيدة قبل قتله واستشهاده، وهي أن يبعث بسلام مليء بالمحبة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام... ولكن مع من؟! فالكل عدو له، فاتجه بعينيه نحو السماء توجه العاجز، وتضرع قائلاً
اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، اللهم إنه ليس هاهنا أحد يبلغ رسولك السلام عني، فبلغه أنت عني السلام
وفي تلك الأثناء كان النبي عليه الصلاة والسلام جالساً مع أصحابه في المدينة، فقال: "وعليه السلام ورحمة الله
فتعجب الصحابة من ذلك، وقالوا: على من رددت السلام يا رسول الله؟!. فقال عليه الصلاة والسلام
هذا جبريل يقرئني من أخيكم خبيب السلام. (انظر: البخاري، الجهاد، 170، المغازي، 10، 28)
وكان رسول الله قد أرسل عثمان رضي الله عنه إلى مكة سفيراً قبل عقد معاهدة الحديبية مع المشركين. ورغم أن عثماناً أخبرهم أن نيتهم من المجيء هي أداء مناسك العمرة ثم العودة، إلا أن المشركين لم يأذنوا لهم. وفوق ذلك احتبسوه في مكة ووضعوه تحت المراقبة، وقالوا له
إن شئت أن تطوف بالبيت، فطف به
إلا أن ذاك الصحابي الجليل الذي جعل نفسه فداء لله ولرسوله أعطاهم درساً عظيماً في الإخلاص، حيث قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله عليه الصلاة والسلام.(أحمد، 4، 324)
ومن جانب آخر؛ لما وصلت شائعة استشهاد عثمان إلى المؤمنين الذين كانوا ينتظرون في الحديبية، قابل رسول الله عليه الصلاة والسلام إخلاصه بإخلاص أعظم، حيث أخذ من أصحابه عهداً وبيعة على محاربة المشركين إن لزم الأمر. ثم قال بيده اليمنى
"هذه يد عثمان. فضرب بها على يده الأخرى، وقال: هذه لعثمان (أي بيعة عثمان)".(البخاري، أصحاب النبي، 7) مظهراً بذلك مدى اعتماده عليه
فهكذا كان شعور الصحابة الكرام بمعية رسول الله القلبية معهم حتى في غيابه عنهم. وكأنهم كانوا يعيشون بقلب واحد في أبدان متفرقة
ولا شك أن خير مثال من بين الصحابة في مسألة الرابطة هي الارتباط القلبي لأبي بكر الصديق t مع رسول الله عليه الصلاة والسلام
فقد كان الصديق رضي الله عنه مرتبطاً ومتعلقاً برسول الله بعشق ومحبة شديدة لا مثيل لها، لدرجة أن ابتسامة من رسول الله عليه الصلاة والسلام كانت تجعله في حالة رضا لو وزعت على الدنيا لكفتهم. وكان مستعداً للتضحية بكل شيءٍ في سبيله. حتى إنّ النبي عليه الصلاة والسلام أثنى ذات مرة على صاحبه الكريم هذا ولاطفه بقوله
ما نفعني مال قَطُّ ما نفعني مال أبي بكر
فبكى هذا الصحابي الجليل الذي كان قمة في الصدق والإخلاص وجعل نفسه وماله فداء لرسول الله، وامتلأت عيناه بالدموع، وقال
"وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟!". (ابن ماجه، المقدمة، 11. وغيره)
فعبر بذلك عن أنه قد جعل نفسه وماله وكل ما يملك فداء لرسول الله، وأنه معه وطوع أمره روحاً وقلباً وجسداً. وذلك لأن قلبه كان قد صار مرآة ناصعة براقة تعكس عالم قلب النبي عليه الصلاة والسلام. وأصبح من خلال ذلك بيت الأسرار النبوية. وقد اكسبه كل شيء يخص فخر الكائنات عليه الصلاة والسلام معنى عميقاً وأهمية عظيمة ومكانةً كبيرةً في قلبه الطاهر. حتى أن أبا بكر صار خير الصحابة فهماً وإدراكاً لمعاني آيات الله تعالى، وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام وأسرار وحكم هذه الأحاديث. فنفذ إلى الكثير من الأسرار والحكم النبوية التي عجز عنها الناس وذلك ببصيرته وفراسته الفريدة. ففي حجة الوداع نزل قول الله تعالى
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3)
ففرح الناس بهذه الآية لاكتمال الدين. إلا أبا بكر أدرك حقيقة وسر هذه الآية، وأنها دعوة من الله تعالى لرسول الله أحب الخلق إلى قلبه من أجل الالتحاق إلى العالم الأبدي. فغرق في الحزن، وتألم من نار الفراق التي ألهبت قلبه
وأحد الأمثلة الأخرى التي تظهر فهمه وإدراكه الدقيق والعميق لأسرار الأمور هو
لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام في أيامه الأخيرة يستطيع الخروج إلى المسجد لاشتداد المرض عليه. فكلف أبا بكر ليصلي بالناس إماماً. وذات مرة خف المرض على النبي عليه الصلاة والسلام فخرج إلى المسجد. فخطب في الصحابة ووعظهم ثم قال
"إن الله خيَّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده. فاختار ذلك العبد ما عند الله
وما إن بلغت هذه الكلمات سمْع أبي بكر حتى خيم حزن شديد على قلبه الحساس الرقيق، ثم بدأ يبكي وتسيل الدموع من عينيه المباركتين. فقد أحس أن النبي عليه الصلاة والسلام يودعهم بهذه الخطبة. وبدأ ينوح مثل الناي الذي يئن من ألم الفراق. فقال وهو يجهش بالبكاء: بأبي أنت وأمي يا رسول الله!، بل نفديك بأموالنا، وأنفسنا، وأولادنا!..". (أحمد، 3 ، 91)
لم يستطع أحد من الحاضرين غيره إدراك مشاعر رسول الله عليه الصلاة والسلام العميقة، وأنه في حالة وداع للدنيا. حتى أن الصحابة لم يأبهوا لبكاء أبي بكر ولم يحملوه أي معنى، بل وتعجبوا منه، وقالوا: "انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، ويبكي". (البخاري، الصلاة، 80)
لأنه لم يخطر ببالهم، ولم يدركوا أن العبد المخير ما بين زهرة الدنيا وبين ما عند الله كان النبي عليه الصلاة والسلام
ثم تابع النبي عليه الصلاة والسلام كلامه مواسياً أبا بكر من جهة، ومبيناً مقامه ومكانته للصحابة من جهة أخرى، فقال
ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه بمثلها أو بأفضل منها، ما خلا أبا بكر، فإنّ له عندنا يداً يكافئه الله بها يوم القيامة يا أبا بكر لا تبك، إن أمَنَّ الناس علَّي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته
وقبل انتقال النبي عليه الصلاة والسلام إلى دار البقاء قال
لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر! (البخاري، أصحاب النبي، 3، مناقب الأنصار، 45، الصلاة، 80؛ مسلم، فضائل الصحابة، 2، الترمذي، المناقب، 15)
إني أرى على باب أبي بكر نوراً (ابن سعد، 2، 227؛ علي المتقي، الكنز، 12، 523/35686؛ ابن عساكر، تاريخ دمشق، 30، 250)
فأغلقت كافة الأبواب إلا باب أبي بكر رضي الله عنه بقي مفتوحاً. وهذا يدل بالمعنى الإشاري على أن باب التقرب المعنوي إلى النبي عليه الصلاة والسلام يُفتح بمحبة، وصدق، وإخلاص، وطاعة وتسليم، وتضحية، وصحبة مماثلة لما كان عليه الصديق رضي الله عنه مع النبي عليه الصلاة والسلام
الذي في اليمن معي
إذا حصلت المعية الظاهرية إلى جانب المعية القلبية مع الأولياء فذلك" نور على نور. إلا أن المعية الظاهرية الجافة ليست مقبولة في التربية التصوفية. لأن هناك الكثير ممن يلازمون مرشداً كاملاً ويجالسونه كتفاً إلى كتف، إلا أنهم بسبب غفلتهم لا يأخذون منه أي نصيب من الأحاسيس المعنوية
وبالمقابل؛ فإن هناك الكثير من المريدين المخلصين الذين يقطنون في بلاد بعيدة وقصية بإمكانهم نيل نصيب وافر من المعنويات من خلال ارتباطهم القلبي بمرشديهم، وما يكنونه لهم من مشاعر المحبة والاحترام والإجلال، والشوق
وقد قال كبار الرجال والأولياء "الذي في اليمن معي، والذي بجانبي في اليمن. ولهذا فإن الأمر المهم هو الرابطة بغض النظر عن المكان الذي نكون فيه، أي عدم التفريط بإحساس المعية القلبية
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً
إن أولى الناس بي المتقون، من كانوا وحيث كانوا. (أحمد، 5، 235؛ الهيثمي، مجمع الزوائد، بيروت، 1988، 9، 22)
لقد جرى من قِبل البعض وخاصة في القرن التاسع عشر توجيه انتقادات شديدة للرابطة التي هي منهج وأسلوب مهم في التربية الصوفية، وأُظهر الأمر وكأنه مسألة إيمان وكفر. والحال أن الرابطة – كما أسلفنا من قبل – أمر نفسي طبيعي وبغاية البساطة. فليس للرابطة التي تُفهم وتُطبق هكذا أي جانب يخدش بالاعتقاد
والحاصل؛ إن الرابطة هي عبارة عن حفظ المريد محبة مرشده حية وغضة في قلبه بشكل دائم، والعمل على تقليد أعماله الصالحة وأحواله الحسنة. إذ أن محبة الصالحين مؤثرة وذات فائدة بقدر إرشاداتهم ومواعظهم
التصوف منهج السيرة، وليس منهج الصورة
يجب – بحكم العلاقة - أن نتناول بشأن الاستفادة المعنوية من الأولياء والصالحين موضوع الصور بشكل مختصر
نشاهد اليوم وبحكم وفرة الإمكانات والوسائل التقنية انتشاراً واسعاً لظاهرة التصوير. فقد تحول كل مكان إلى ما يشبه استديو تصوير، وصار كل إنسان مصوراً. وإذا وضعنا الأوقات والأماكن العادية جانباً، فإننا نشاهد وبكل أسف انشغال الناس المفرط والمتجاوز لكل الحدود بالتقاط الصور، وتصوير مقاطع الفيديو قد امتد إلى أوقات وميادين لها خصوصية حساسة وهي العبادات، حيث تجد هذا الأمر حتى أثناء الطواف بالكعبة، والوقوف في عرفة، و زيارة الروضة الشريفة
إن هذا الأمر من قبيل الأعمال العبثية التي من شأنها الإخلال بفيوض العبادة وروحانيتها، وإفسادها
ومع الأسف فإن الأمر ذاته يحدث في المجالس المعنوية أيضاً. ففي حين أن المعية القلبية في المجالس المعنوية تستوجب التركيز على الفائدة المعنوية بالتفكر، والتأمل والغوص في المشاعر الباطنية، فإننا نشاهد – ربما بحسن نية وبهدف الاحتفاظ بذكرى معنوية – وبكثرة انكباباً على التقاط الصور وتصوير مقاطع الفيديو. فليس من الصواب إيلاء هذا الأمر أهمية أكبر من حجمه وحده. فكما أن الدواء عند تجاوز الجرعات المحددة يتحول إلى سمّ مميت بدل تحقيق الشفاء؛ فإن هذه الأمور كذلك يمكن أن تلحق ضرراً بمعنويات الشخص إذا زادت عن حدها
وينبغي أن نتذكر أن الكاميرات الإلهية تصور وتسجل بطبيعة الحال كل لحظة من لحظات حياتنا. وسوف تُعرض هذه التسجيلات أمام أعيننا في الآخرة
كما أسلفنا من قبل فإن الأمر المهم في معية الصالحين والرابطة ليست المعية الظاهرية، والشكلية، والصورية، وإنما المهم هو المعية القلبية والروحية
يقول حضرة سامي أفندي
ليس في الرابطة حاجة إلى التفكر بصورة المرشد. وإنما تجب المحبة فقط. وبطبيعة الحال فإن الإنسان يستحضر محبوبه أمام عينيه (قلبه) على الدوام. (محمود سامي رمضان أوغلو، المصاحبة، ج 6، ص، 151، منشورات الأرقم، اسطنبول، 1982)
إن الصورة تحبس تخيل وتصور الإنسان بإمكانية الانتقال إلى الأبدية والمجرد ضمن حيز المادي وبحدوده. وعدا عن ذلك فإن أحكام الإسلام بشأن الصور معروفة ولا تخفى على أحد. وإن صور الناس هي جانبهم الظرفي. وأما الشيء المهم فهو مظروف الإنسان، أي عالم القلب. وإن منهج التصوف هو منهج السيرة وليس منهج الصورة. فالمقصود من صحبة الصالحين والصادقين هي الصحبة مع سيرهم أكثر من صورهم. فالصور الأساسية التي لها فائدة هي الانعكاسات التي تكون في العالم الداخلي، هي الذكريات والانطباعات التي تبقى في القلوب
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا جميعاً نصيباً من فيض قلوب أحبائه، ويوفقنا للتخلق بأخلاقهم، ويجعل لنا قلباً سليماً ذاكراً، ومتفكراً وشاكراً