التصوف - 3

وصولٌ إلى الكمال بالقرآن والسنة

عدم الغلو بالمحبة

إن رأسمال الارتقاء المعنوي الأساسي في التصوف هو المحبة، وإن مظهر المحبة مراعاة الآداب. وإن رأسمال الارتباط القلبي بالمرشدين الكاملين، أي رأس المال الأصلي للرابطة هو المحبة أيضاً. بيد أن المبالغة في هذه المحبة، كما في كل أمر تقود الإنسان إلى طرق واتجاهات خاطئة. ولهذا فإن الأمر الخاطئ في الرابطة هو الغلو في محبة الإنسان، والوصول بها إلى مستوى المحبة الإلهية. فالمبالغة المفرطة في إجلال الإنسان الذي يُتخذ مرشداً معنوياً مع إضفاء طابع الألوهية عليه، وإظهار الاحترام له والارتباط به بشكل متجاوز للحدود الطبيعية لدرجة التعصب إشارةٌ إلى الانزلاق إلى أحوال وسلوكيات وتصرفات لم يقرها القرآن والسنة. وهذه الحالة  نسأل الله حفظنا منها تضر بالإنسان ولا تعود عليه بالنفع، بل وتحيد به عن الطريق

يجب أن لا يغيب عن بالنا أبداً أنّ المرشد بالنسبة للمريد بمثابة "واسطة" لا أكثر. وإن المبالغة والغلو بمحبة الواسطة، وجعلها "غاية" بذاتها، فتح لباب الشرك، ومن شأن الذين ينزلقون إلى هذا النوع من الغلو والمبالغة، تقوية موقف معارضي التصوف من جهة، والإضرار باستقامة الطريق الذي ينتسبون إليه من جهة أخرى، وهذه كارثة عظيمة

لقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أكثر الصحابة محبة لرسول الله عليه الصلاة والسلام ، إلا أنه جعل هذه المحبة وسيلة للاعتدال، والتأني، والاستقامة، وينبغي أن تُتخذ حالته الآتية مثالاً نموذجياً في المجال الذي نتحدث عنه لجميع أهل التصوف

كانت وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام حدثاً أليماً وثقيلاً للغاية على الصحابة الكرام، فقد أصيب الجميع بحيرة شديدة، وحتى أنهم اهتاجوا واضطربوا، لأنهم فقدوا من أحبوه أكثر من أنفسهم، فقدوا رسول الله عليه الصلاة والسلام ، لأنهم لن يروا بعدها وجهه الشريف، الذي يشع نوراً، ولن يجدوا من يواسيهم. وكان من بين الصحابة من قال بعد وفاته عليه الصلاة والسلام: لا أريد عيناً لا تراه، وأذناً لا تسمع صوته، وحياة  لا وجود له فيها. وبدأ الصحابة الكرام بالبكاء في المسجد. وبينما كانت القلوب تئن من ألم وحزن تعجز الكلمات عن وصفه، قام عمر رضي الله عنه صاحب الرأي السديد، وبدأ بالكلام وقد احتد وغضب غضباً شديداً  فقال

لا أسمعن أحداً يقول: إن محمداً قد مات، من قال أن محمداً قد مات، ضربت بسيفي عنقه، إن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يمت ولكن إنما عرج بروحه كما عرج بروح موسى.  وما زال عمر يتكلم حتى أزبد شدقاه. ولما سمع أبو بكر الصديق رضي الله عنه بهذا الخبر الأليم ركب حصانه وجاء إلى المدينة. فدخل عليه، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى، وقال

مات والله رسول الله! (إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)(البقرة: 156) ، بأبي أنت وأمي! والله لا يجمع الله عليك الموتتين. لقد مت الموتة التي لا تموت بعدها

ثم أعاد الغطاء على وجهه الشريف وهو يقول

طبت حياً وطبت ميتاً

ثم خرج أبو بكر إلى الناس في المسجد وعمر ما يزال يتكلم أن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يمت، فقال له

اجلس يا عمر

فأبى عمر أن يجلس. فكلمه أبو بكر مرتين أو ثلاثاً. فلما أبى عمر أن يجلس قام أبو بكر بكل ثبات فتشهد. فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال

أما بعد! فمن كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات. ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت

قال تعالى

(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: الآية، 144)

ولما سمع الناس كلام أبي بكر وهذه الآية، أيقنوا أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد مات. لقد كانت الحيرة والدهشة والاضطراب قد بلغت بهم مبلغاً عظيماً، فكانوا بحالة وكأنهم لم يسمعوا بهذه الآية، ولم يعلموا بنزولها حتى تلاها أبو بكر

فيقول عمر رضي الله عنه

إنها لفي كتاب الله! والله ما شعرت أنها في كتاب الله. والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى والله ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد مات".  (عبد الرزاق، 5، 436؛ ابن سعد، 2، 266 - 272؛ البخاري، المغازي، 83؛ الهيثمي، 9، 32)

فكما تبين مما تقدم، رغم أن أبا بكر رضي الله عنه كان أشد الناس حباً، وإجلالاً وتعظيماً واحتراماً للني عليه الصلاة والسلام ، إلا أن هذه المحبة الفريدة التي لا مثيل لها، لم تصبح يوماً ما سبباً لا ضطرابه وخروجه عن طوره، ولم تدفعه لأي سلوك أو عمل مخالف لحقائق الشرع، بل على العكس، فقد صارت معيار استقامة ترشد المضطربين والمنحرفين عن جادة الحق، وتهديهم إلى الصواب

الإفراط والتعصب

إن العبارات التي يتفوه بها بعض المريدين المجذوبين من شدة اهتياجهم، وفرط تحمسهم كقولهم: "أي شيء يتمناه شيخي فإن الله سوف يحققه له حتماً...". والتي يخرجون بها المحبة، والاحترام، والارتباط عن حدودها الطبيعية واللائقة، أبرز مثال على الإفراط والتعصب، إذ أن النبي عليه الصلاة والسلام ورغم أنه حبيب الله لم تُقبل كل أدعيته. حيث يقول عليه الصلاة والسلام

سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني

ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي: أن لا يُهلك أمتي بالسَّنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها" (مسلم، الفتن، 20/2890)

إذاً، إن ربنا تعالى إن شاء استجاب الدعاء، وإن شاء رده، حتى ولو كان دعاء الأنبياء. وبناء على ذلك، فإن العبد مهما كان مقامه ومرتبته المعنوية عالية، فإن أعماله وأدعيته بحاجة إلى قبول الله تعالى لها

فيجب أن نعلم جيداً أن هذا المعيار  طالما كان يسري بحق الأنبياء، فإنه يشمل الناس جميعاً من بعدهم مهما كانت مرتبتهم حتى لو كانوا من كبار الأولياء. وعلى ذلك، فلا يمكن القول أن العبد الصالح والولي، إذا دعا فإنه دعاءه مقبول حتماً، أو رقى مريضاً فإنه سيشفى قطعاً. وذلك لأن مثل هذه الأمور تتطلب لكي تتحقق النتيجة المرجوة منها: إخلاص الطرفين من جانب، ومن جانب آخر يجب أن تتوافق مع التقدير والمراد الإلهي. وهناك أمر آخر، وهو أن الأنبياء وكذلك الأولياء مكرمون بمشارب وتصرفات ومعجزات وكرامات مختلفة عن بعضها. ومن ثم فإن الصفة أو الخاصية المتميزة والبارزة لدى أحدهم، لا يمكن أن تظهر بالمستوى ذاته لدى الآخرين. ولذلك فإنه ليس من الصواب توقع ذات التصرفات من الجميع. وبكل الأحوال فإن وظيفتهم الأصلية، ليست القيام بمثل هذه التصرفات والخوارق، وإنما وظيفتهم إرشاد القلوب ووعظها

وقد يكون توسل العبد خلال الدعاء بالأنبياء والعباد الصالحين الذين يحبهم الله جل جلاله، أكثر جلباً للرحمة الإلهية، ولكن يجب عند التوسل بأحباء الله في الدعاء الطلب من الله وحده، وليس من هؤلاء، لأن الفاعل المطلق هو الله تعالى وحده

حيث يقول الحق جل حلاله

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ الله هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة:  104)

 وكذلك تُعد العبارات التي يقولها البعض في غيبة الصالحين أو عند زيارة قبورهم مثل "يا فلان! اشفني! حقق لي حاجتي في كذا!". والتي تتضمن طلباً مباشراً منهم، تُعد خطأً كبيراً لدرجة يمكن أن تقود صاحبها إلى أبواب الشرك. فيجب الحذر كل الحذر، من هذه العبارات وأمثالها، والتي من شأنها الإخلال بعقيدة التوحيد البالغة الحساسية والدقة. يجب وبكل حزم، اجتناب كل عبارة من شأنها أن تعطي انطباعاً بأن هناك من يمتلك التصرف المطلق سواء في حل المشكلات المادية أوالمعنوية، أو في إدارة وتدبير شؤون الكون غير الله تعالى. وتوضح الحادثة الآتية وبكل جلاء حقيقة ارتباط كل التصرفات بمشيئة الله تعالى

ظل أبو طالب، سنوات طويلة يتولى حماية النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين، ويدافع عنهم بشدة ويقدم التضحيات في سبيل ذلك. وكان النبي عليه الصلاة والسلام شديد الرغبة بإيمان عمه ويدعوه بإصرار، وكان أبو طالب يقول أمام هذا الإصرار

 (أعلم أنك على حق. ولكن إن آمنت تعيرني نساء قريش!). فهو لم يقر بالحقيقة التي استقرت في وجدانه واستيقنها قلبه؛ لتغلب العصبية القبلية عليه، وكان آخر ما قاله أبو طالب لرسول الله عندما حضرته الوفاة

- أموت على دين عبد المطلب، والله يا ابن أخي لولا أن تكون سبة عليك وعلى أهل بيتك من بعدي، يرون أني قلتها جزعاً حين نزل بي الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها!..". (البخاري، الجنائز، 81، مناقب الأنصار، 40؛ ابن سعد، 1، 122 - 123)

فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام:  أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك.  وغادر دار عمه حزيناً

وبسبب قول النبي عليه الصلاة والسلام لعمه: "لأستغفرن لك!" وحزنه وكدره الشديد على عمه، نزلت الآية القرآنية

(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)

 إذاً حتى جهود الأنبياء، ليست كافية لوحدها من أجل هداية إنسان ما إلى الطريق القويم، حيث أن الله تعالى إن شاء طرح بركة التأثير في هذه الجهود، وأوصلها إلى النتيجة المبتغاة، وإن شاء تركها دون تأثير ونتيجة

يُطلع الله أحداً على كل الأمور

يمكن لبعض المريدين أن يجنحوا نتيجة إفراطهم في حبهم لمرشديهم ومشايخهم واهتياج مشاعرهم إلى تصورات وأفكار منحرفة، مثل قول أحدهم: "إن مرشدي يعلم كل شيءٍ!". لا شك أن هذا الأمر تربية ناقصة، إذ أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجيب أحياناً على مسائل يُسأل عنها بقوله: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" (انظر: مسلم، الإيمان، 1)

ويقول الشيخ سعدي في كتابه كلستان

سأل رجل النبي يعقوب عليه السلام فقال

يا من قلبه منير ، أيها النبي العاقل! لقد شممت رائحة قميص يوسف عندما كا ن قادماً من مصر، فلم لم تره عندما ألقي في الجبّ وهو قريب منك؟

فأجاب يعقوب عليه السلام

"إن ما نناله من كشوفات إلهية مثل لمعات البرق. لهذا فإن الحقائق تصبح أحياناً عياناً أمامنا، وأحياناً تُحجب". أي إذا رفع الله الحجاب فإن العبد يشاهد ما وراءه، ولكن إن أسدل الحجاب فإن الإنسان لا يرى حتى الحفرة التي أمامه. بمعنى أن العبد عاجر مهما كان مقامه المعنوي، وبحاجة دائمة إلى لطف الله تعالى

كل عبد خطّاء

كذلك، يمكن أن يجنح بعض المريدين نتيجة الإفراط في محبة مرشديهم إلى أفكار منحرفة أخرى، مثل قولهم "إن مرشدي لا يخطئ أبداً. ولا شك أن هذا الأمر أيضاً تلقٍ خاطئ

إذ أنه حتى أبو بكر رضي الله عنه الذي يُعد خير البشر بعد الرسل، كما جاء في الكثير من الروايات، قد قدم في هذا الشأن معياراً بغاية الروعة، وذلك في خطبته التي ألقاها بعد اختياره خليفة على المسلمين، حيث قال

أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم وليست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم!.." (ابن سعد، 3، 182- 183؛ السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص، 69، 71- 72؛ حميد الله، نبي الإسلام، 2، 1181)

فإن كان أفضل وخير رجل في الأمة يقول مثل هذا الكلام، فيجب إذاً أن نفكر بما ينبغي أن يقوله من يجب عليهم الاقتداء به. وكذلك كان مظهر جان جانان الذي يُعد من كبار المرشدين الكاملين، حيث كان شديد الحرص على أن تكون كل أموره وأعماله مطابقة للسنة النبوية. ومع ذلك كان يبدي تواضعاً شديداً بقوله

من رأى منا أمراً يخالف أحكام الإسلام فليسرع إلى تنبيهنا! (عبد الله الدهلوي، المقامات المظهرية، ص، 43)

لا تغترن يا ابن آدم

كذلك يمكن أن نصادف لدى بعض الناس بسبب إفراطهم في محبة الطريقة التي ينتسبون إليها انحرافات واهتياجات، قد تحولت إلى هذيان لا أصل له، ولا سند، وبشكل لا يتوافق مع أسس وأصول الشريعة أبداً، وذلك من قبيل ادعائهم: "أنه حتى أكثر عاصٍ من طريقتهم سوف يشفع لأربعين إنساناً، وأن الذين يتمسكون بثوب مرشدهم في الآخرة سوف يدخلون الجنة مباشرة

لنبين أولاً الأمر الآتي: إن الشفاعة حق، فإن شاء ربنا تعالى أكرم من يشاء من عباده بها. إلا أن شفاعة الناس لبعضهم، ومسألة من سوف يشفع لمن في الآخرة فإنها أمر لا يعلم به إلا ربنا تعالى. فقد جاء في القرآن الكريم

(... مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ...) (البقرة:  255)

وبالتالي فإن النظر بشأن الخلاص الأبدي إلى مشاعر المحبة، والاحترام، والانتساب تجاه العباد الصالحين وإلى الشعور بحسن الظن بهم وكأنها مرتبةٌ قطعيةٌ النص الشرعي، يُلحق الضررَ بالشخص معنوياً

ومن أهم الأمور التي تخفق وترتجف لها قلوب أولياء الله الرقيقة والحساسة أيضاً، هو خوفهم من أن يحاسبوا أمام الله تعالى بسبب ما يدور على لسان الناس من إطراءات ومدائح مفرطة بحقهم. ولهذا فإن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا مدحه أحدٌ توجه في الحال إلى الله وقال

اللهم أنت أعلم مني بنفسي، وأعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون" (السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص، 104)

وبسبب الخوف والهاجس ذاته أوصى الشيخ خالد البغدادي بعدم كتابة أي عبارات تتضمن مدحاً وثناء وإطراء عليه على شاهد قبره

إذاً؛ فأهل التصوف الحقيقيين هم هؤلاء المؤمنون الذين ترتجف قلوبهم لشدة حساسيتهم تجاه مثل هذه الأمور وخوفهم منها

وينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا أبداً أن النصارى قد أفسدوا عقيدة التوحيد بسبب إفراطهم في تقديس نبيهم، فجعلوه شريكاً لله تعالى. وبناء على ذلك فقد حذر رسول الله عليه الصلاة والسلام أمته من الوقوع في مثل هذا الإفراط، فقال

لا تطروني، كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله، ورسوله" (البخاري، الأنبياء، 48)

يا أيها الناس، لا ترفعوني فوق قدري، فإن الله اتخذني عبداً قبل أن يتخذني نبياً" (الحاكم، 3، 197/4825، الهيثمي، 9، 21)

وينبغي أن لا ننسى أن كل عبد ما عدا الأنبياء والرسل عاجز وخطاء. وحتى الأنبياء يتعرضون للزلات بحسب طبيعتهم البشرية. ولكن تُصحح زلاتهم باعتبارهم محاطون بالعناية والتأييد الإلهي. وإحدى حكم هذا الأمر هي تذكير الأنبياء بأنهم هم أيضاً عاجزون، ومن جهة أخرى تحذير أممهم وأتباعهم من الإفراط في تقديسهم ورفع قدرهم لدرجة إضفاء الألوهية عليهم

ومحبة الأولياء والصالحين واحترامهم وإجلالهم مطلوبةً، إلا أنه من الضرورة بمكان مراعاة الحدود الشرعية في احترامهم وتقديرهم. وإلا فإن المتجاوزين لهذه الحدود يلحقون الضرر باستقامتهم من جهة، ومن جهة أخرى يلطخون صفاء الطريق المعنوي الذي ينتسبون إليه ويسيئون إليه

لقد ظهر ويظهر بين الحين والآخر استغلاليون وانتهازيون في ميدان التصوف كما هو الحال في كل ميدان. وقد نجد اليوم أيضاً من يخرج علينا سواء بسبب الأنانية أو بمرض نفسي فيطرح بحثاً عن الشهرة والمكانة ادعاءاتٍ كبيرة بعيدة تماماً عن روح التصوف الحقيقي، مثل قول أحدهم: أنا قطب الزمان، أنا الغوث

إن أول من انتقد وعلى مر التاريخ مثل هذا الصنف من الانتهازيين والمستغلين هم أهل التصوف الحقيقيون. وعلينا أن نعلم أننا لم نأت إلى عالم الامتحان لنُطري ونمتدح بعضنا البعض. وإنما أُرسلنا إلى هذه الدنيا لندين جميعنا بالعبودية التامة لربنا سبحانه وتعالى مدركين افتقارنا، وفناءنا وعجزنا. فأعلى وأجل مرتبة في هذا العالم الفاني هي العبودية للحق سبحانه وتعالى. فجميعنا بأخطائنا وصوابنا عبيد عاجزون. وليس لنا بشأن عاقبتنا ونجاتنا إلا الالتجاء إلى رحمة ربنا ومغفرته، وعنايته بعد بذل كل ما نقدر عليه من جهود وطاقات

التصوف؛ هو جعل القلب في توازنٍ بين الخوف والرجاء

ينبغي أن نتخذ جميعنا الدرس والعبرة المستنبطة من الحادثة الآتية التي جرت في عصر السعادة دستوراً مهماً لحياتنا

كان عثمان بن مظعون رضي الله عنه صحابياً جليلاً مشهوراً بالزهد والتعبد. وقد توفي رضي الله عنه بالمدينة في دار امرأة تدعى أم العلاء. فقالت المرأة: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك: لقد أكرمك الله

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: وما يدريك أن الله قد أكرمه؟

فقالت المرأة:  بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟

فقال النبي عليه الصلاة والسلام

أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري، وأنا رسول الله، ما يفعل بي

فقالت أم العلاء

فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً (البخاري، التعبير، 27)

فما لأحد ضمان عدا الأنبياء والرسل والمبشرين أن يموت على الإيمان. فقد تحدث القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، عن أناس تعرضوا للعذاب الإلهي، ولم يبق بينهم وبين الجنة إلا شبر، وبالمقابل نال أناس الرحمة الإلهية وقد فصل بينهم وبين النار شبر ومن جملة هؤلاء بلعام بن باعوراء  الذي بعد أن بلغ مقاماً عالياً صار فيه يطلع على اللوح المحفوظ ويقرأه، تعرض للخسران الأبدي لغلبة النفس عليه

وكذلك قارون. فقد كان قارون صاحب زهد وتقوى، ونال الكثير من كرم الله تعالى وإحسانه. وكان فوق ذلك أفضل من يقرأ التوراة ويفسرها، ولكن وعوضاً عن أن تقربه الخزائنُ المليئة ذهباً وفضة إلى الله تعالى، وقد كان امتحن بها، صارت سبباً في ابتعاده عنه. وفي النهاية خُسفت الأرض به وبداره وبالخزائن التي كان يستقوي ويستعلي بها، وكان من المهلكين

وقال خالد البغدادي

النزع الأخير مجهول (من سينجو فيه). إذ كم من الفساق والفجار صاروا أولياء، وكم من الصالحين وأصحاب الورى صاروا في أسفل سافلين..." (أسعد صاحب، بغية الواجد، ص، 120- 121، رقم: 16)  وكان يتضرع في الكثير من مكتوباته أن يرزقه الله تعالى خاتمة على الإيمان. أي أنه ليس في الطريق المعنوي مكان للغرور والتراخي والتهاون بدعوى "بلوغ الكمال"، أو التوهم بعلو المرتبة ورفعة القدر. بل على العكس، إذ أن الأساس في هذا الطريق هو الشعور الدائم بالتقصير والنقص، وبذل أقصى الجهود لتدارك هذا التقصير. فقد

قال العارفون: لا عرفان مثل معرفة المرء نقصه

وكان الأنبياء والرسل الذين نالوا الضمان الإلهي بشأن الآخرة دائمي الالتجاء إلى الله تعالى، والتضرع إليه وهم يتقلبون بين مشاعر "الخوف والرجاء"، وكان خليل الرحمن سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي ابتلي في ماله، ونفسه، وأولاده، يتضرع قائلاً

(وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) (الشعراء:  87)

وكان حبيب الله نبينا عليه الصلاة والسلام يقوم الليل حتى تتورم قدماه، ويستغفر ويتضرع إلى الله والدموع تنهمر من عينيه حتى تبتل لحيته، ومكان سجوده رغم أنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر

وكذلك الصحابة "العشرة المبشرون بالجنة"، فلم يتكل أحدهم إلى هذه البشارة ويُشعر نفسه بالأمان، وإنما كانوا يقومون بواجب عبوديتهم على أكمل وجه دون أدنى تهاون، ولم يصبهم أدنى غرور أو تراخي في العبادة. لقد عاشوا حياة عبودية نموذجية، فكان الواحد منهم مثالاً لعلو الهمة، وشدة العزيمة ورقة القلب وكثرة التعبد

تُعد الحادثة الآتية أجمل مثال على الحساسية القلبية لدى الصحابة الكرام

كان سلمان رضي الله عنه شخصية فريدة ومثالية في سائر أحواله وتقلباته، وخاصة في تضحياته وجهوده العظيمة التي كان يبذلها في سبيل الله تعالى، حتى أن الأنصار والمهاجرين اختلفوا عليه، حيث أن كل فريق كان ينسبه إليه بقوله: سلمان منا

فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام حلاً للخلاف بين الطرفين من جهة، ومن جهة أخرى تكريماً لسلمان رضي الله عنه: "سلمان منا آل البيت" (ابن هشام، 3، 241؛ ابن سعد، 4، 83 ؛ الحاكم، 3، 691/6541؛ الهيثمي، 6، 130)

وعلى الرغم من هذا التكريم واللفتة النبوية، فقد عاش ذاك الصحابي المبارك، حياة بمنتهى التواضع، فكان قلبه يخفق ويرتجف دائماً خشية من الآخرة

فقد جاءه رجلان فسلما عليه وحيياه، ثم قالا:  أنت سلمان الفارسي؟

قال: نعم. فقالا: أنت صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟

فقال سلمان: لا أدري.  فارتابا وقالا

لعله ليس الذي نريده

قال لهما سلمان رضي الله عنه

أنا صاحبكما الذي تريدان، إني قد رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام وجالسته، فإنما صاحبه من دخل معه الجنة

فهؤلاء هم الصحابة، حيث لم يكونوا صحابة بالاسم والقول فحسب، وإنما كانوا صحابة فعلاً وقولاً وعملاً، صحابة قلباً وقالباً. فقد كانوا طائعين لرسول الله ومقتدين به في كل أحوالهم

ومع ذلك لم يشعروا أنهم ناجون يوم القيامة، وإنما دائماً كانوا في حالة سعي وتعبد. وينبغي أن يكون حالهم هذا نموذجاً يُحتذى به لجميع المؤمنين

إذ إن القيمة المعنوية للشخص سوف تتحدد بالمعنى الحقيقي في الآخرة. ولهذا فإن واجب العبد هو الاستمرار بالعبودية بحالة من الفناء والافتقار والعجز

وعلينا أيضاً أن نضع نصب أعيننا النفس الأخير ونجهد لعيش حياة متوافقة بكل لحظاتها مع الكتاب والسنة، وأن لا يفارق تضرع يوسف عليه السلام ألسنتنا والمتمثل بقوله

(تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف: 101)

وعلينا أن نتذكر دائماً أنه مهما كانت مراتبنا ومقاماتنا فإننا عاجزون عن تحديد مصير وعاقبة أحد، سواء في ذلك نحن أو من سوانا. فنحن في هذا الأمر بحاجة دائمة إلى رحمة ربنا، ومغفرته، وعنايته

نسأل الله تعالى أن يكرمنا جميعنا بعاقبة حسنة آمين