التفكر في الموت
لازمان ولا مكان يمكن الهرب إليه من الموت في الدنيا، ولا عودة إلى الوراء في البرزخ
ولا ملجأ يأوي إليه العبد من هول يوم القيامة
الموت قدر محتوم، والقبر مصير ابن آدم، ولا مفر لكل امرئ من أن يمر بحياة البرزخ، وأن يعيش أهوال القيامة، فلا ملجأ ولا مهرب من الله إلا إليه سبحانه
وحتى تأتي هذه اللحظات الحاسمة يعيش الإنسان متأرجحًا بين نقيضين: بين الحياة والموت، وبين الرجاء والخوف، وبين السعادة والحزن
وكلاهما ينغص على الإنسان مشاعره، فخوف الموت والمصير غصة في حلق سعادته، والانغماس في شهوات الدنيا هو غفلة عن الاستعداد للمصير المحتوم، وما لم يدرك الإنسان حقيقة الحياة والموت، فسيعيش فاقدًا سر الحياتين، مغيبًا عن حقائق الدارين، غير مدرك للحكمة من وراء الخَلق
والموت لغزٌ كبير وسرٌ عظيم يجب على كل آدمي أن يتفكر فيه بكل طاقته؛ لأنه المصير المحتوم، والخطوة التالية في الطريق السريع الذي يسعى الإنسان فيه، ويجب أن يَحُلَّ اللغزَ قبل أن يحِلَّ عليه الموت
يقول الله تعالى في سورة الـمُلك
(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك، 2)
ويقول في سورة الأنبياء
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء، 35)
إن الدنيا مدرسة إيمان إلهية، أما الموت فهو قانون انتقال ضروري، ويقول مولانا جلال الدين الرومي: «موتوا كي تحيوا
إذ لا يمكن إحياء القلب إلا بترك الأمور النفسانية، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم
«فأكثروا من ذكر هادم اللذات: الموت» (الترمذي، القيامة، 26)
والتفكر في الموت هو صافرة الإنذار الدائمة التي تذكرك بالخطر القادم قبل أن يدهمك، وتنبهك إلى المصير المحتوم قبل أن يفاجئك، فتتخذ كل استعداد لما هو قادم، وتدير ظهرك لشواغل الدنيا وشهواتها، وتولي وجهك شطر طريق ربك الذي أنت مقبلٌ عليه لا محالة، وتفك عن معصميك قيود النفسانية، وتشحذ همتك بالنفحات الربانية، وتجهز بالإيمان عتادك وعدتك مستعدًا لليوم الآخر
وعن طارق بن عبد الله المحاربي، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
«يا طارق، استعد للموت قبل نزول الموت» (الحاكم، المستدرك، جـ4، 347/ 7868)
ولو عاش الإنسان أعمارًا متطاولة فوق عمره، ولو أمطرته السماء بأمانيه -وإن بلغت عدد حبات المطر- لما شبعت نفسه من الدنيا، ولما روى غُلته منها، حتى لو صارت أمانيه عدد أوراق أشجار يُسقطها الخريف على قبره منذ موته، وحتى مبعثه يوم القيامة
كل هذا الأمل في الدنيا رغم امتلاء القلب بحكايات وذكريات من غيَّبهم الموت، ورغم علم كل السالكين في دروب الدنيا أن كل دهاليزها وفجاجها مهما استقامت أو اعوجت، أو ضلت أو اهتدت أو استسلمت أو هربت، لا تؤدي إلا نحو مصير محتوم هو القبر
يقول الله سبحانه في الآية الكريمة:
(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجمعة، 8)
وليس ثمة أبلغ من صمت القبور ناصحًا، وليس ثمة صوتٌ أعلى من بُكم حجارتها واعظًا، يخاطب كلَّ منْ حولَه بلسان الحال، فيعظ مَن في القبور، ومَن هو خارجها، وكل مارٍ عليها، وكل ناظر إليها، مناديًا عبر الصمت، صارخًا بأعلى صوت: الموت... الموت... الحقيقة الباقية هي الموت، الموت بوحشته المهيبة ووحشيته الرهيبة، وثقله الراسخ في أعماق الأرض والحياة والمخلوقات
وقد رأى الحسن شيخًا في جنازة، فلما فرغ من الدفن، قال له الحسن: يا شيخ، أسألك بربك: أتظن أن هذا الميت يود أن يُردَّ إلى الدنيا فيزيد من عمله الصالح، ويستغفر الله من ذنوبه السالفة؟ فقال الشيخ: اللهم نعم! فقال الحسن: فما بالنا لا نكون كلنا كهذا الميت؟ ثم انصرف وهو يقول: أي موعظةٍ؟ ما أبلغها لو كان في القلوب حياةٌ؟ ولكن لا حياة لمنْ تنادي
ولكن الإنسان يظل أسيرَ الخداع، لاهثًا وراء السراب، يعمه في سكرته ويسدر في غيه حتى يفيقه الموت من غفلته، ويكتشف حينها أنه كان غارقًا في بحرٍ لجيٍّ لا يُرى له ساحل، ويدور في دوامة ذلك البحر دورانًا لا يدع له مجالاً للتفكير أو الإدراك والتقدير، وعندما ينتشله الموت من البحر، وتُسلمه الدوامة إلى القبر؛ هنالك فقط سيكتشف أنه كان مخدوعًا بصورة مرعبة حين يلقى مستقبله الأبدي. والحياة الغافلة هي الانهماك باللعب في الطفولة، والشهوة في الشباب، والغفلة في الرشد، والحسرة على ما فات في الشيخوخة، والندامة والتخبُّط في طيات الحياة
وليست الآماد متطاولة إلى ما لا نهاية في انتظار يوم القيامة؛ بل هو أقرب إليك من شراك نعلك، فمنْ مات فقد قامت قيامته، وملك الموت على أهبة الاستعداد في كل زمان ومكان لتنفيذ الأمر الإلهي المحتوم، لا يقصر ولا يغفل قيد أنملة عن تنفيذ مهمته، بينما المرء الموكل به الموت والمنوط بروحه التنفيذ يكون سادرا في غفلة ما بعدها غفلة، ولا يفيق إلا حين يبدأ ملك الموت في عمله؛ حيث لا ملجأ ولا منجى ولا مهرب من الله إلا إليه، ولو كان المرء حصيفًا مؤمنًا لوجد المفر والمهرب في نداء الحق سبحانه (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) فبادرَ بالفرار إلى رحمة ربه، والعيش في كنفه، حينها تستوي عنده الحياة والموت؛ لأنه قدَّم في حياته لما بعد الموت، واستعد للدارين، مستعينًا برب الدارين، الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أيُّنا أحسن عملاً
وكم من مشهد في الدنيا يعظك ويذكرك بالموت؛ منها الواعظ الصامت كمشهد الجنازات، ومنظر القبور، وزرقة شفاه الموتى، ولمعات دموع الثكالى على وجنات فقدت بريق الحياة، وأطفأ بهجتها ظلام انقطاع الروح عن المحبوب
وأما الواعظ الصارخ فنزعات الحناجر عند سكرات الموت، ونزاعات انتزاع الروح عن خلايا الجسد، وأنَّات الثكالى، وآهات الحزانى، وشهقات المتفاجئين من انتزاع الموت لشباب وأطفال وأصحاء وآخرين كانوا يظنون بالحياة ونعيمها الظنونا
أفلا يدعونا ذلك كلُّه إلى اليقين أن لحظات ميلادنا هي أولى خطواتنا نحو مصيرنا المحتوم، وهو الموت؟ ألا يذكرنا عري الميلاد والمجيء إلى الدنيا، بعري الخروج منها رغم ما كنزناه فيها؟ ألا تذكرنا صرخات القدوم والنَفَس الأول في الدنيا بصرخات الرحيل والنزع الأخير؟
وتوضح الآية الكريمة الآتية أن كل لحظة تمر في شريط الزمان تقرِّبنا من فجر الحقيقة:
(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ) (يس، 68)
إنه قانونٌ سماوي وحقيقةٌ ربانية قاطعة لا مجال لتأويلها، فسطوعها يلقي الضوء على حقيقة الدنيا وما فيها من الغدر والانقلاب والانتقاص، فكلما ازداد الإنسان منها اُنتقص، وكلما أُعطي منها حُرم
وهي أشد تقلبًا من القِدر إذا استجمعت غليانًا، ترفع أقوامًا وتخفض آخرين، ويتبدل حالها ما بين عشية وضحاها، إذا جلت أوجلت، وإذا دنت أودنت، وإذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست
والدنيا كالظل؛ لن تتمكن أبدًا من اللحاق بها، أو الإمساك بأطرافها، وكلما حاولتَ إدراكها هربتْ منك وهي عند أطراف أصابعك، أما إذا أعطيتها ظهرك أقبلَت إليك، وإذا تركْتَها ومضيتَ لحقتْ بك، فإذا حاولتَ الفرار منها لم تزل تتعقبك، وتطرح نفسها بين قدميك، ثم إذا فتحت لها أبواب قلبك غلَّقت في وجهك الأبواب، ولم ترَ منها إلا السراب
وإذا سلَّمْتها زهرةَ نفسك أذبلت في حدائقك الزهور، ولم ترَ منها إلا وحشة التيه والغرور
وإذا فتحتَ لها خزائن روحك أفقرتك وإن ملكتك الدنيا، وصرتَ كالملك الضليل يُحكَم ولا يَحكُم، ويصير الكون على اتساعه أضيق وأوحش في عينيك من ظلمة القبور
وهكذا الدنيا تفعل بك الأفاعيل، وتوردك المهالك، وتصعد بك في متاهات السماء حتى يضيق صدرك، وتهوي بك في مجاهل الأرض حتى تضيق نفسك، وتغرق بك في تيه الدنيا حتى تضل روحك، ولا ينقذك منها سوى ملك الموت حين تأتي اللحظات الحاسمة الرهيبة... الموت
وسأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، أي المؤمنين أكيس؟ قال
«أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لما بعده استعدادًا، أولئك الأكياس»
(ابن ماجة، الزهد، 31)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا
«لِتذكرِ الموتَ والبلى، ومنْ أراد الآخرة ترك زينة الدنيا» (الترمذي، القيامة، 24)
وقد كان نقش خاتم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه
«كفى بالموت واعظًا»
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: مات رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يثنون عليه، ويذكرون من عبادته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت، فلما سكتوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
«هل كان يكثر ذكر الموت؟»
قالوا: لا
قال: «فهل كان يدَعُ كثيرًا مما يشتهي»
قالوا: لا
قال: «ما بلغ صاحبكم كثيرًا مما تذهبون إليه» (الهيثمي، مجمع الزوائد، جـ10، 308-309)
وعن مجاهد بن جبر t وهو من كبار التابعين، عن عبد الله بن عمر t، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال
«كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعُدَّ نفسك في أهل القبور»
فقال لي ابن عمر رضي الله عنهما:
«إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من صحتك قبل سقمك ومن حياتك قبل موتك فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدًا» (الترمذي، الزهد، 25)
وقال أنس بن مالك
إن الأرض تنادي كل يوم بعشر كلمات وتقول
يا ابن آدم! تسعى على ظهري ومصيرُك في بطني
وتعصي على ظهري وتعذب في بطني
وتضحك على ظهري وتبكي في بطني
وتفرح على ظهري وتحزن في بطني
وتجمع المال على ظهري وتندم في بطني
وتأكل الحرام على ظهري وتأكلك الديدان في بطني
وتحتال على ظهري وتذل في بطني
وتمشي مسرورًا على ظهري وتقع حزينًا في بطني
وتمشي في نور على ظهري وتقع في الظلمات في بطني
وتمشي في المجامع على ظهري وتقع وحيدًا في بطني
(ابن حجر العسقلاني، منبهات، 37)
وقَدِمَ وفدُ قبيلة إياد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم عن قس بن ساعدة الإيادي فقالوا: هلك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لقد شهدتُه في الموسم بعكاظ وهو على جمل أحمر ينادي في الناس: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا، واتعظوا تنتفعوا، منْ عاش مات، ومنْ مات فات، وكل ما هو آتٍ آت أما بعد، فإن في السماء لخبرًا، وإن في الأرض لعبرًا، نجومٌ تغورُ ولا تفور، وبحارٌ تفورُ ولا تغور، وسقفٌ مرفوع، ومهادٌ موضوع، وأنهارٌ ونبوعٌ، أقسم قسٌّ قسمًا بالله لا كاذبًا ولا آثمًا، لتتبعنَّ الأمر سخطًا، ولئن كان في بعضه رضًا إن في بعضٍ لسخطًا، وما هو باللعب وإنَّ من وراء هذا للعجب، أقسم قسٌّ قسمًا بالله لا كاذبًا ولا آثمًا، إن لله دينًا هو أرضى له من دينٍ نحن عليه، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا؟ أم تُركوا فناموا؟
إنَّ لحظاتِ الموت وخاتمةَ الإنسان هي المرآة التي تنعكس عليها مصائر الإنسان يوم القيامة وتخبره بعاقبته في الحياة الآخرة، وهي النزول الأخيرة للستار على مسرح الحياة، والمشاهدون والجمهور هم شهود الله تعالى في أرضه، فإن أثنوا عليه خيرًا فهو إلى خير، وإن كان غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
تلك النفس التي تتهيأ للموت، وتنتظر اللحظات الأخيرة، وتستعد للحياة الآخرة، ولا يكون الموت عندها سوى بوابة مرور إلى العيش جسدًا وروحًا في العالم العلوي
شتان بين نفس اتبعت هواها وأشبعتها شهواتُها وكان ذكر الموت لها خيالاً باهتًا، ونفسٍ سعت في التزكية، وجاهدت في التربية، وأشبعها عالم المعنويات وروتها الفيوضات والتجليات، وكان ذكر الموت لها شوقًا للقاء الأحبة، أو هو كما وصفها مولانا جلال الدين الرومي -قدس الله سره-: «ليلة العرس
نعم؛ باستطاعة المرء أن يجعل أشدَّ أمور الدنيا رعبًا -وهو الموت- أشدها رغبة في نفسه، وبوسعه أن يجعل «الموت جميلاً»؛ إذا هو تجاوز عقبة نفسه، وتقلَّب بها في المجاهدات والأحوال، وكانت محطاتُه في سفره إلى الموت هي: التوبة، الزهد، التوكل، القناعة، الذكر، التوجه، الصبر، المراقبة، الرضا
أما كيف نتفكر في الموت، ونجعله نُصب أعيننا، ونعمل عملنا استعدادًا لمصيرنا بعده، فلنأخذ العبرة والوسيلة من هؤلاء المجاهدين الأوائل
فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ذكرْتُ النار فبكيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
«ما لك يا عائشة؟»
قالت: ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
«أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحدٌ أحدًا، حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الكتب حتى يقال: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أم في شماله أو من وراء ظهره، وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم حافتاه كلاليب كثيرة وحَسَكٌ كثير يحبس الله بها من شاء من خلقه حتى يعلم أينجو أم لا» (الحاكم، جـ4، 622/8722)
وكان أسيد بن حضير t من أفاضل الصحابة، فكان يقول
«لو أني أكون كما أكون محل حال من أحوال ثلاث، لكنت من أهل الجنة، وما شككت في ذلك: حين أقرأ القرآن وحين أسمعه، وإذا سمعت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا شهدتُ جنازة، فما شهدت جنازة قط، فحدثت نفسي سوى ما هو مفعول بها، وما هي صائرة إليه» (انظر: أحمد، جـ4، 351؛ الحاكم، جـ3، 326/5260)
ويروي محمدُ بن كعبٍ القُرظي الحادثةَ التالية، فيقول
«لقيتُ عمر بن عبد العزيز t بالمدينة في شبابه وجماله ونضارته، قال: فلما استخلفَ قدمتُ عليه فاستأذنت فأذن لي، فجعلت أُحِدُّ النظر إليه فقال لي
يا ابن كعب ما لي أراك تحد النظر؟
قلت: يا أمير المؤمنين لِما أرى من تغيُّر لونك ونحول جسمك ونفار شعرك
فقال: يا ابن كعب فكيف لو رأيتني بعد ثلاث في قبري وقد انتزع النمل مقلتي، وسالتا على خدي، وابتدر منخراي وفمي صديدًا، لكنتَ لي أشد إنكارًا، دع ذاك، وأعد علي حديث ابن عباس...» (الحاكم، جـ4، 300/7706)
ويوضِّح الإمام الغزالي ضرورة أن يتفكر المؤمن في الموت ويوصيه بما يلي
«يجب على المؤمن بعد أن يصلِّي صلاة الفجر وقبل أن يبدأ يومه أن يبقى وحيدًا مع نفسه لمدة محددة، وأن يتعاهد معها على بعض الأمور والشروط، فالتاجر حين يسلِّم رأس ماله لشريكه يقوم بمثل هذه المعاهدات معه، ولا يهمل حينها بعضًا من التحذيرات لشريكه، والإنسان أيضًا ينبغي أن يحذِّر نفسه ويلِّقنها التالي
إن رأس مالي هو عمري، ومع مرور كلِّ يومٍ من عمري يذهبُ رأسُ مالي، وينتهي الربح والمكسب، لكن هذا اليوم هو يوم جديد، وقد أكرمني الله تعالى في هذا اليوم أيضًا بأن أذن لي بالعيش، ولو توفَّاني لكنت تمنيت أن يعيدَني ولو ليومٍ واحدٍ فقط كي أعمل هنا صالحًا. أيها الولد، فلنفترض أنك تُوفِّيت الآن، ثم أُعدتَ إلى هذه الدنيا، لهذا لا تقترب أبدًا اليوم من الذنوب والمعاصي واحذر منها، ولا تبذِّر أية لحظة من لحظات يومك هذا؛ لأن كل نَفَسٍ تتنفسه نعمةٌ لا تُقدَّر بثمن
وعلى هذا النحو يحقِّق الإنسان سِرَّ عبارة «موتوا قبل أن تموتوا»، ويضع بالمعنى الكامل محبة الله تعالى وطاعته مكان سلطة النفس التي كأنها زالت