التقوى

معيار القيمة عند الله

أ. د. كريم بولادي

ينحدر جميع البشر من أصل واحد، وقد تكاثروا من أم واحدة وأب واحد. وفي هذا الإطار جاء الإسلام بنظام مساواة وبمفهوم عالمي للأخوَّة، وتتأكد هذه الحقيقة في القرآن في الآية الكريمة

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا

توضح الآية الكريمة أن جميع الأعراق البشرية تكاثرت من نفس الأم والأب. وجميع الشعوب والأعراق في العالم أتت من أصل واحد. وكل البشرية خلقها خالق واحد، وكل الأعراق والألوان واللغات والقبائل والشعوب المختلفة خلقها الله تعالى. ولا يختار الشخص أصله أو عرقه أو قومه أو لغته أو لونه؛ بل كل ذلك تقدير من رب العالمين. وما للإنسان خيار في البلد الذي ولد فيه أو الشعب أو الأسرة التي ينتمي إليها. لذا لا يحق لأحد أن يرى نفسه أسمى مرتبة من الآخرين للغته أو عرقه أو لونه أو أصله أو بلده. يؤكد القرآن بشدة على هذا الشأن، ويشير إلى المساواة بين جميع البشر

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

تشير الآية الكريمة إلى أن المكانة الرفيعة عند الله تُعطى لمن يتقي الله. وتعني كلمة "التقوى" الواردة في الآية الخوف والامتناع عن عمل كل ما من شأنه أن يكون مضراً في الآخرة، والابتعاد عن كل الأفعال والكلمات التي تدفع النفس لارتكاب المعاصي والذنوب، والابتعاد عن كل ما نهى عنه الله. وبناء على ما تقدم فإن الأكثر مراعاة لحدود الله ولما أحله وحرمه والذي ينظم حياته في إطارهما هو الأكرم عند الله وهو من ينال المكانة الرفيعة

وثمة في الآية السابقة رفضٌ مطلقٌ للتعصب سواء كان للعرق أو اللغة أو اللون أو الانتماء القومي أو لشعب بعينه، وتأكيد على أن الله خلق الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا ويتقاربوا ويتمازجوا. ويرفض القرآن الكريم كل مفاهيم استعلاء عرق أو شعب أو أمة على الآخرين، لأن الاستعلاء يولد الحروب والمظالم والاحتلال ويشرع الاعتداء على حقوق الآخرين. إن مبدأ المساواة الذي وضعه الإسلام أكبر ثورة عرفها تاريخ البشرية

تعيش الشعوب والأمم والقبائل في مناطق جغرافية وفي أقاليم مختلفة، ولكل منها بطبيعة الحال لغتها الخاصة ولونها ونمط الحياة الذي يناسبها. وليس في هذا ضير على الإطلاق، ولا تعني هذه الفروق أن بعض الناس يتمتع بأصل رفيع دون غيرهم. ولا يحق لأي عرق أو شعب أن يستحقر أي عرق أو شعب آخر لأنه يختلف عنه في اللون أو الأصل. فاختلاف اللغات والأعراق والأصول لا يبرر التعدي على حقوق الآخرين أو احتلالهم أو انتهاك حقوق الإنسان

وجاءت الأحاديث النبوية الشريفة لتعزز ما ورد في الآية أعلاه. إذ خاطب النبي ﷺ الناسَ عند فتح مكة بعد الطواف حول الكعبة، قائلاً: "الحمد الله الذي أذهب عنكم عيب الجاهلية وتكبرها، الناس رجلان رجل برّ تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله. يا أيها الناس كلكم من آدم وآدم من تراب

لقد انتقد الرسول الكريم ﷺ التعصب القبلي والحروب التي أشعل التعصب نارها، وأشار إلى أن كل من يساعد عشيرته وهي ظالمة، فإنه يساند الظلم ويشبه حاله حال الذي يحاول شد ذيل الجمل الواقع في الحفرة لإنقاذه. إن من يقوم بذلك سوف يغرق في حفرة الذنوب. وبيَّن الرسول ﷺ أن كل من يثير قضية القبلية ويخوض الحروب من أجلها ويموت في سبيلها ليس من أمته عليه السلام

والخلاصة أن المجتمع الذي هدفَ القرآن الكريم لإنشائه وأراد رسولنا ﷺ تأسيس دعائمه لا امتياز فيه لأحد على أحد للغة أو عرق أو لون أو وطن أو أمة أو شعب؛ فجميع البشر سواسية عند الله، ولا فضل لأحد على الآخر إلا بالتقوى. التقوى هي المعيار الحقيقي للارتقاء ولبلوغ المكانة الرفيعة. والصالح من الناس هو من يتمسك بأوامر الله تعالى ويتجنب نواهيه. لذا فإن القرآن الكريم يأمر بالتسابق في الخيرات والتقوى وينهى عن الظلم ومساندة الظلمة

الحواشي: 1) النساء، 4/1. 2) الحجرات، 49/13. 3) انظر أفضال الرحمن، موسوعة السيرة النبوية، مترجم، منشورات انقلاب، إسطنبول، 1996، III 153 - 154. 4) أبو داود، أدب، 120 الترمزي، مناقب، 75، أحمد بن حنبل II 361، 524، بيهقي، شعب الإيمان، الجزء السابع، 125. 5) أبو داود، أدب، 121. 6) المائدة، 5/2