الحق والباطل
سميح يول آتشان
غدا الإنسان منذ خلقه ممثلاً على مسرح العالم حيث يتصارع الخير والشر، في هذا المسرح يختار جميع الممثلين بإرادتهم أن يكونوا إما إلى جانب الحق أو إلى جانب الباطل، ويحاولون لعب أدوارهم على أتم وجه. ولا شك أن سعي الإنسان ليكون إلى جانب الحق أمر طبيعي، غير أنه من العسير فهم سبب توجه الإنسان للسير على درب الباطل؛ لماذا يصر الإنسان على أن يكون من أهل الباطل؟ وما الذي يدفعه إلى ذلك؟
إن الإنسان يضل الطريق عندما يشيح بوجهه عن الأوامر الإلهية، لذلك ينغمس في مستنقع الكفر، فيفنى فيه ويمسي هذا المستنقع غذاءه، وعقله الذي يفكر، وعينه التي ترى، وأذنه التي تسمع، ولسانه الذي ينطق؛ لهذا زاغ محور الحق والباطل، وغدت كل الحقائق هذا المستنقع. وتعرض الآية الكريمة التالية لنا هذه الحقيقة
وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (الزخرف 36-37)
وعندما يقع الذين حادوا عن جادة الصواب فريسة لهذه الأوهام، تراهم يقولون للأنبياء الذين يدعونهم إلى الله تعالى الواحد الأحد الذي لا ريب في وجوده: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ (ص 5) معتقدين أنهم بقولهم هذا يدافعون عن الحق
لا بل تراهم- فوق ذلك- يتبجَّحون بأنهم ما زالوا في المستنقع الذي يتخبطون فيه، ويفرحون بذلك قائلين: ﴿إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا﴾ (الفرقان 42)
إن من يسقط في مستنقع الباطل ينادي: ﴿وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ (الأنبياء 68) عندما يرى تحطم الأصنام التي نحتها بيديه، والتي لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تنطق، ويسمع ذلك النداء لكنه يعجز عن إدراك أنه يعبد آلهة مسكينة هي نفسها بحاجة إلى مساعدته
وقد يكون المستنقع مستنقع تكبر يدفع بإبليس إلى رفض السجود للإنسان والقول: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ (الأعراف 12)
وقد يكون مستنقع غيرة كالتي أحاطت بقابيل من كل جانب، ودفعته ليقول لأخيه من أمه وأبيه: ﴿لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ (المائدة 27). أو تماماً كما حصل مع إخوة يوسف الذين قالوا
اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (يوسف 9)
وقد يغرق بعضهم في مستنقع الجاه والمنصب، ويصابون بالجشع كالجشع الذي دفع بفرعون إلى نسيان مدى عجزه فادَّعى الألوهية وقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ﴾ (النازعات 24). لقد خلط فرعون الحق بالباطل حتى إنه قال لمن حوله
﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ (غافر 26). وقد أصابَ نمرود الداءُ نفسهودفعه إلى مقارنة نفسه بالله تعالى- إن صح التعبير- والقول: ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ (البقرة 258) متناسياً أنه مخلوق
مستنقع الشهوات مستنقع آخر يُمتحن فيه الإنسان، هذا المستنقع الذي غرق فيه قوم لوط فقالوا لنبيهم عندما دعاهم إلى الحق: ﴿أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ (الحجر 70). لقد أعمى الباطل أعينهم إلى درجة أنهم باتوا ﴿لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ (الحجر 72). وقالوا عن قوم لوط لمَّا كفَّت عقولهم عن العمل: ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ (النمل 56)
إن حب المال عندما يتجاوز الحد، يُعمِي الأبصار ويحجب الحق ويجعل الإنسان ينسى أن المال لمالك الملك، لذلك يجيب قارون أولئك الذين نصحوه بأن ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص 77)، بقوله: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي﴾ (القصص 78)
لقد كانوا جميعهم متمسِّكين بدعاويهم الباطلة، ولم يتنازلوا أو يحيدوا عن طريقهم قيد أنملة، إلا أن الله تعالى ينبهنا بقوله
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (الكهف 103-104)
ويضيف مخاطباً نبيه الكريم ﷺ
قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (الأنعام 91)
وهذا بلا شك تحذير لأولي الألباب والفطرة السليمة يتَّعظون به.. فاللهَ نسأل أن ألا تزل أقدامنا بعد ثبوتها، وأن يجعلنا في عداد عباده الذين يتبعون الحق ويجتنبون الباطل ويرون الحق حقاً والباطل باطلاً. آمين