السيرة الأسوة لنبيِّ الرحمة
إن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة كاملة لكل إنسان
فهو صلى الله عليه وسلم أسوةٌ بزعامته الدينية، وأسوةٌ بقيادته دولته، وأسوةٌ لمن يعتصم بحبل محبة الله سبحانه وتعالى، وأسوةٌ بتواضعه وشكره في أوقات تنعُّمه بنعم ربه
وأسوةٌ بصبره وتسليمه في الأيام الشِداد والمصائب الجِسَام، وأسوةٌ بكرمه واستغنائه وعزة نفسه أمام الغنائم والهبات، وأسوةٌ برأفته بأسرته، وأسوةٌ برحمته بالعبيد والضعفاء والمساكين، وأسوةٌ بعفوه وصفحه عن المجرمين
فإن كنت غنيًّا ذا مُلكٍ ومال، فتفكَّرْ في كرم ذلك النبي العظيم الذي حكَم الجزيرة كلها، وأخضع معظم زعماء قبائل العرب بمحبته
وإن كنت من الرعية الضعفاء، فتأسَّ بحياة النبي الذي عاش في مكة تحت ظلم المشركين واضطهادهم
وإن كنت فاتحًا مظفَّرًا، فاعتبِرْ بحياة النبي الجَّسور الراضي الذي غلب أعداءه في بدر وحنين
وإن كنت ممن حاقَت بهم الهزيمةُ- نسأل الله تعالى السلامة- فتذكِّرْ النبي المتوكل الذي طاف على أصحابه الجرحى والشهداء يوم أُحُد بشجاعة وثباتٍ ومتانة
وإن كنت معلِّمًا، فاذكرْ النبي الذي كان يعلِّم أصحاب الصُّفَّة في المسجد أمور دينهم بقلب رقيق حساس رهيف
وإن كنت طالبًا، فتخيَّلْ النبي الذي كان يجلس أمام جبريل الأمين الذي يدارسه القرآن الكريم
وإن كنت مرشدًا أمينًا وواعظًا حقًّا، فاستمع- بأذن صاغية واعية- إلى النبي الذي كان يوزِّع الحكمة على أصحابه في مسجده
وإن كنت تريد أن تدافع عن الحق وتبلِّغه وتنطق به، ولم يكن أحد يعينك في هذا الشأن؛ فانظر في حياة النبي الذي نطقَ بالحق أمام مشركي مكة والظالمين فيها ودعاهم إلى الإيمان ولم يكن له فيها مُعين
وإن هزمت عدوَّك وقصمت ظهره، وأزلتَ عناد خصمك وانتصرت عليه، وأظهرت الحق وأزهقت الباطل؛ فلا يغيبنَّ عن ذهنك النبيُ القائد الذي طأطأ رأسه وهو على ناقته تواضعًا وشكرًا لله سبحانه وتعالى يوم فتح مكة
وإن كانت لك بساتين وتريد أن يعمَّ الخير فيها، فاقتدِ بالنبي الذي اختارَ رجالًا يُصلحُون أراضي بني نضير وخيبر وفدك بعد أن ملكها، كي يديروها على أفضل صورة
وإن لم يكن أحدٌ بجنبك، فاذكرْ ذلك اليتيم البريء النيِّر الوجه فلذة كبد عبد الله وآمنة وقرة عينهما
وإن كنت شابًّا، فعليك بحياة الشاب المختار للنبوة الذي كان يرعى أغنام عمه أبي طالب في مكة
وإن كنت تاجرًا تخرج بقوافلك التجارية، فتأمَّلْ -يرعاك الله- أحوالَ ذلك الرجل المبارك الذي كان أعظم الرجال في القافلة التجارية المتجهة إلى بصرى الشام
وإن كنت قاضيًا وحاكمًا، فأمعِن النظرَ في السلوك العادل النابع من فراسة النبي صلى الله عليه وسلم أثناء وضع الحجر الأسود في الكعبة بعد أن كاد زعماء مكة يقتتلون فيما بينهم
وارجع بنظرك إلى التاريخ كرَّةً أخرى، وانظر إلى ذلك النبي الذي كان حكَمَا بين الناس في مسجده في المدينة فَعدَلَ، حين تساوى في نظره الفقير المعسور والغني الميسور
وإن كنت زوجًا، فدقِّق النظرَ في سيرة ذلك الزوج المبارك زوج السيدة خديجة والسيدة عائشة، وفي مشاعره المرهفة، ورأفته بأهله
وإنت كنت أبًا، فتعلَّمْ أحوالَ والد فاطمة الزهراء وجدِّ الحَسَنَين ومعاملته إياهم
ومهما كانت صفتك، ومهما كانت أحوالك، فستجد النبي صلى الله عليه وسلم صباحَ مساءَ وفي كل وقت وحين أعظمَ مرشد لك وخير دليل
فهو هادٍ تستطيع بالاستِنان بسنته أن تصوِّبَ أخطاءك، وتصلح أحوالك وترجع أعمالك إلى الطريق الصحيح، وستتغلب على عوائق حياتك، وتجد السعادة الحقيقية بنوره وإرشاده
فنفهم من هذا كله أن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ أيّا كان موقعك وحالك في المجتمع. والمراحل التي عاشها نبينا صلى الله عليه وسلم طوال حياته لا بد أن يجد فيها كلُّ مَن تقلَّبت به الحياة حلًّا وسلوكًا يخرجه مما هو فيه. لذا فإن حياته عليه الصلاة والسلام أكمل قسطاس فعلي للناس جميعًا مهما اختلفت مواقعهم ومقاماتهم
ولَعَمري إن سيرته العطرة كباقة من الورود النادرة المختلف ألوانها وروائحها، فكل إنسان يجد في سيرته عليه الصلاة والسلام أجمل سلوك وأفضل معاملة فيتخذها أسوة حسنةً له
*
وإن أنت نقَّلت ناظرَيك حيثما شئت في هذي الأرض فرأيت عدلًا يدوم بين الناس، أو رحمة ورأفة تربط قلوب البشر بعضها بعضًا، أو وجدت الأغنياء في مجتمع يسارعون إلى عون الفقراء وقضاء حاجاتهم، والأقوياء يحمون الضعفاء والمظلومين، والأصحَّاء يعينون العاجزين، والأثرياء يرعون اليتامى ويطعمون الأرامل والمساكين؛ فاعلم يقينًا أن الفضائل هذه كلها تنبع كل حين من الأنبياء، ومن سار على دربهم من الصالحين الأتقياء
وهذه الحقيقة تراها على أجلى صورها في حياة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو خير الأنبياء والمرسلين؛ حتى إن المنصفين من غير المسلمين لم يجدوا مفرًّا من الاعتراف بكماله وفضله وتقديره
فالكاتِب الإنجليزي توماس كارليل وضع في كتابه «الأبطال» أرقى النماذج البشرية في التاريخ البشري، وحلَّل في كل مجال حياة أفضل رجل وآثاره، فذكر فيه مَن الذي يستحق البطولة في الشِعر، أو الحُكم، وغيرها من مجالات الحياة... وقد ذكر هذا النصراني الذي لم يُخفِ نصرانيته في كتابه أن البطلَ نبيًّا إنما هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن حلَّل شخصيته ودرس حياته
ولمَّا اجتمع رجال العلم والفكر في مدينة لاهاي في هولندا أواسط القرن الماضي، واختاروا مئة من العظماء الذين أثَّروا في حياة البشر، لم يجدوا مناصًا من اختيار سيدنا محمد الأول على رأس قائمتهم مع أنهم كانوا جميعًا نصارى
فالفضيلة الحقيقية هي التي تُجبِر العدو أيضًا على الاعتراف بها وتصديقها!.. وفضيلة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم اعترف وأقر بها حتى من لم يؤمنوا به
لأن الأخلاق الفاضلة الكاملة التي تحيط بكل جوانب الحياة قد اجتمعت كلها في سيرة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. والسيرة الأسوة التي ترشد الناس في صفحات حياتهم كلها- على اختلاف أحوالهم- إنما هي سيرته صلى الله عليه وسلم وحدها؛ فهو الركيزة الأساسية في تعليم الناس على هذه الأرض، وهو المرشد الوحيد للبشر كلهم. وهو من ينير درب المُستنيرين، بهديه الذي يستنير به كل من يبحث عن الصراط المستقيم
وأما حلقة إرشاده فقد كانت مدرسةً تجمع كل طوائف الناس؛ إذ كانوا يجتمعون عنده على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبقاتهم، وتنوع ثقافاتهم وأحوالهم الاجتماعية. ولم يُذكَر أن مُنِع أحد من حضور تلك الحلقة. ولم تكن حلقَته صلى الله عليه وسلم مخصوصة لقوم دون غيرهم، بل كانت مائدة علم وعرفان تستضيف الإنسان لإنسانيته فقط، ولم يكن فيها فرق بين القوي والضعيف أو الغني والفقير، بل كان كلهم سواء هناك
وانظروا إلى أتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، تجدون بينهم النجاشي ملك الحبشة، وفروة بن عمرو الجذامي زعيم معان، وذو الكلاع فيروز الديلمي زعيم حمير، ومركبود من زعماء اليمن، وعبيد وجعفر من ولاة عُمان
وإن نظرنا مرة أخرى نجد إلى جانب هؤلاء الزعماء الأقوياء، الضعفاء والعبيد أمثال بلال، وياسر، وصهيب، والخباب، وعمار، وأبو فكيهة؛ والإماء مثل سمية، ولبانة، وزنيرة، والنهدية، وأم عبيس
وكان من بين أصحابه العظماء صحابةٌ يتصفون برجاحة العقل، وقوة الفكر، وصواب الرأي، واقفين على أدق الأمور، ومطَّلعين على أسرار الدنيا، وقادرين على إدراة البلاد بحكمة وعدل
لقد حكم أتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المدن والولايات، فعاشوا مع المحكومين في إطار الأخوة، ووصل الناس بفضلهم إلى السعادة ونَعِموا بالعدل، ونشروا بين الناس السلام والأمن
وها هوَ الفيلسوف الفرنسي لافاييت الذي كان ممن وضعوا الأسس الفكرية للثورة الفرنسية - وذلك قبل الإعلان المشهور عن "حقوق الإنسان"- يدقِّق في أنظمة الحقوق كلها ويقلِّب فيها فيرى عظمة الحقوق الإسلامية ليصيح قائلًا
«أيها العربي الأصيل! مهما قَدَّروا شأنك لن يعطوك حقَّك! لقد وجدت العدل نفسَه»
*
لقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتربيته الطاهرة وتأثيره وسحر بيانه أن يُنبِتَ من تربة المجتمع الجاهلي المتوحش -الذي لا يعرف أكثره الإنسانية- جيلًا من "الصحابة" لم يكن مثله جيل، وسيبقى خير جيل في تاريخ البشر حتى قيام الساعة، وجمعهم صلى الله عليه وسلم ووحَّد دينهم ورايتهم وحقوقهم وثقافتهم وحضارتهم وحكمهم
وجعل من الجاهل متعلِّمًا، ومن الوحشي متحضرًا، ومن المجرم تقيًّا؛ أي جعل كل واحد منهم صالحًا يحيا بخشية الله تعالى ومحبته
لقد ظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيا حياة التواضع التي كان يحياها في ماضيه دون أن يغتر بأي من نِعَم الدنيا التي بُسِطت تحت قدمَيه الشريفتَين، مع أنه ملَكَ من القوة والسلطة ما لن يقدرَ على مُلكِه أحدٌ من الملوك في وقت قصير؛ لا بل ملَكَ القلوب حين ملأها بمحبته وربَّاها خير تربية. وبقي يعيش حياة الفقراء البسيطة في حجرته المتواضعة المصنوعة من الطوب كما كان في الماضي دون أن تغيِّره الأيام، ونام على وسادة مصنوعة من أوراق النخيل، ولبس البسيط من اللباس، وعاش حياة الفقراء بل أدنى منها، وكان في بعض الأوقات لا يجد ما يأكله فيضع حجرًا علي بطنه كي يُسكِّن جوعه، وظل يشكر ربه ويبتهل إليه مع أن الله سبحانه وتعالى قد غفر له ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر
وكان عليه الصلاة والسلام يقوم الليل ويصلي حتى تنتفخ قدماه، ويعين الغرباء، ويواسي اليتامى والمساكين، وكان ينشغل -بنفسه- بأعجز الناس على كِبَرِ شأنه، حتى إنه كان يحميهم ويرعاهم برأفته ورحمته الواسعة
ويوم فتح مكة كان أقوى الرجال وأعظمَهم هيبة في نظر الناس، فجاءه رجل يكلَّمه، فجعل ترعُدُ فرائِصُه خوفا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
«هوِّن عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد»
وفي ذلكم اليوم جاء صاحبه في الغار أبو بكر رضي الله عنه يحمل أباه الشيخ على ظهره كي يُسلِم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
«ألا تركت الشيخ في بيته حتى نأتيه؟»
فضرب بتلك المعاملات أمثلةً في التواضع لا نجد لها مثيلًا في تاريخ البشر
*
وخضعت القبائل كلها لحكمه طوعًا، وصار الحاكمَ على الجزيرة العربية كلها. وكان عليه الصلاة والسلام قادرًا على فعل ما يشاء، لكنه ظلَّ متواضعًا معلِّمًا الناسَ أنه لا يملك شيئًا، وأنَّ الملك كله لله وحده. وكانت بين يديه ثروة عظيمة، إذ تدفقت الأموال إلى المدينة المنورة على ظهور الإبل، فوزعها كلها على المحتاجين وبقي يعيش كما عاش في سالف الأيام. وكان يقول عليه الصلاة والسلام
«لو كان لي مثل أُحُد ذهبًا ما يسرني أن لا يمر عليَّ ثلاث، وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدَين»
وكانت تمضي الأيام ولا تُوقَد نارٌ للطعام في بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكان كثيرًا ما ينام وهو جائع
ودخل سيدنا عمر رضي الله عنه مرةً حجرةَ النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نظر فيها وجدها فارغة؛ ويحدثنا عن ذلك فيقول
«وإنه "أي رسول الله" لعلَى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم، حشوها ليف، وإن عند رجليه قَرَظًا مضبورًا ، وعند رأسه أُهُبًا معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم »
فكانت تلك ثروة رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كانت الجزيرة العربية خاضعة له، فلمَّا رأى سيدنا عمر ما رآه بكى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك؟» فقال: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
«أما ترضى أن تكون لهما الدنيا، ولك الآخرة»
*
وعن عبد الله بن مسعود v قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثَّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء، فقال: «ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظل تحت شجرةٍ ثم راح وتركها»
لقد كانت حياته عليه الصلاة والسلام أسوةً حسنةً لكل أفراد أمته؛ غنيِّهم وفقيرهم، وقويِّهم وضعيفهم
ولما توفي لم يترك وراءه درهمًا ولا دينارًا، ولا عبدًا ولا شاة... بل كل ما تركه بغلته وسلاحه وأرض فَدَك التي أوقفها. أي لم يترك عليه الصلاة والسلام لأهله شيئًا، حتى إنه حرَّم على آل بيته أخذ الزكاة خشيةً مِن أن يُنفِق المسلمون زكواتهم كلها على آل بيته
وعن عائشة رضي الله عنها قالت موضحةً البركةَ في ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم
«توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رفٍّ لي، فأكلت منه حتى طال عليَّ، فكِلْتُه فَفَني»
وما ذكرناه هنا دليل واضح على أننا لم نجد ولن نجد قائدًا فذًّا يُقتدَى به مثل هذا النبي الأمي الذي وُلِد في عصر الجاهلية قبل ما يزيد على 1400 سنة
ولم يرغب النبي صلى الله عليه وسلم قطُّ في هذه الأشياء الدنيوية الخدَّاعة مثل الغنى والترف، والُملك والشهرة، والسعة والراحة؛ إذ كانت أموال الدنيا وعظمتها لا تساوي في ميزانه شيئًا أمام إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى
وعن عائشة رضي الله عنها قالت
«دخلت امرأة من الأنصار عليَّ، فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءةً مثنية، فانطلقت فبعثت إليه بفراش حشوه صوف، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذا؟" قلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت عليَّ فرأت فراشك فذهبت فبعثت بهذا، فقال: "رُدِّيه"، فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فقال
"والله يا عائشة لو شئتُ لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة"
وهذا الحديث وحده يكفي دليلًا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل للدنيا في قلبه أينصيب
ومن أميز خصاله صلى الله عليه وسلم إلى جانب هذه الخصال الحميدة التي ذكرناها محبتُهُ العظيمة لأمته، وأوضح دليل على هذا قول الله سبحانه وتعالى
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
إن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم المباركة كالجزء الذي يُرَى من الجبل الجليدي في عرض البحر، فشخصيته بمظاهرها التي يُدركها العقل البشري وحدها إنما هي ذروة منظومة السلوك البشري التي لا يبلغها إنسان بعده؛ ذلك لأن الله سبحانه وتعالى خلق هذا المخلوق المبارك كي يكون «أسوةً حسنةً» للناس أجمعين، فجعله يحيا «طفولة يتيمة»، وتلكم أدنى مستويات العجز في المجتمع البشري، ثم رقَّاه في مراحل الحياة درجةً درجةً إلى أن رفعه إلى أعلى درجة من القدرة والسلطة حينما جعله نبيًّا لأمته وقائدًا لدولته، وكل ذلك كي لا يكون على أي امرئ حرجٌ في الاقتداء بكمال سلوكه وحسن معاملاته، فيميل إلى ذلك على قدر طاقاته وقدرته
واسم «محمَّد» اليوم من أكثر الأسماء انتشارًا في الأمة الإسلامية، وذلك برهان جليٌّ على حُبِّ الأمة لنبيها الكريم، لعلهم يرون في كل محمدٍ خصالًا من نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم
*
لم يكن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كمَن يدَّعون إرشاد البشر لا سيما الفلاسفة، فمُذ وُلِدَ صلى الله عليه وسلم كان كاملًا في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته كلها بعون من الله تعالى وتأييد، لا كغيره حينما يبني شخصيته ويكملها شيئًا فشيئًا. فقد ظهرَ منه صلى الله عليه وسلم -حتى في طفولته- كمالُ السلوك الذي أجلَى قدرَتَه على حمل المسؤولية العظيمة التي سيُكلَّف بها في المستقبل
أما الفلاسفة الذين لم تتربَ عقولهم بالوحي، فقد بقيت الأفكار والأصول -الإيجابية أو السلبية- التي وضعوها تحت اسم الأخلاق والإصلاح الاجتماعي محصورةً أكثرها بين سطور الكتب، وأما التي نجت فرأت النور فلم تعمِّر طويلا، ذلك أن الفلاسفة لم تكن لهم مهمة عامة مثل مهمة النبوة
ولم تُطبَّق الأمثلة الفعلية للمبادئ التي وضعها الفلاسفة من أجل كمال السلوك البشري لا في حياتهم ولا في حياة غيرهم، أما أفعال النبي التي هي قسطاس فعلي للسلوك الأخلاقي فقد كانت قدوة كاملة للبشر
فالفيلسوف نيتشه -على سبيل المثال- قد ملأ الكتب بنظريته عن "الإنسان الأعلى" غير أنه لم يمثِّل لهذا المفهوم بسلوك فعلي في الحياة، فبقيَ مجرد نظرية بعيدة عن التطبيق
وإن كان حديثنا عن الأخلاق، فهاكَ أرسطو-وهو من كبار الفلاسفة- قد وضع الأسس لمجموعة من القواعد والقوانين لفلسفة الأخلاق، لكنَّا لا نجد أي امرئ قد وصل إلى السعادة بإيمانه بتلك الفلسفة المنفصلة عن الوحي الإلهي. لأن الفلاسفة لم يطهروا قلوبهم، ولم يزكوا أنفسهم، ولم تنضج أفكارهم وأفعالهم بتأييد من الوحي، لذلك ترى اليوم أن نظرياتهم وأفكارهم لم تخرج من صالات المؤتمرات أو سطور الكتب
أما في الأخلاق الإسلامية، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هاديًا لجميع البشر إلى يومنا هذا، لا بل سيبقى كذلك حتى قيام الساعة، فأفعاله صلى الله عليه وسلم كانت تمثِّل ذروة النضج في السلوك البشري كله
وقد أحبَّ الناس النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبدأ بتبليغ الرسالة، ولم تترك شخصيته الكاملة بُدًّا للناس من وصفه بـ «الصادق الأمين». وقد شرَعَ يبلِّغ الدين بعد أن ثبتت في أذهان الناس شخصيته تلك، فكانت حجَّةً على من أبَى تصديقه
لقد عرف أهل مكة سجاياه الفاضلة وحسنها وطيبها قبل أن يُكلَّف بالنبوة فأحبُّوه. وحينما اختصموا على وضع الحجر الأسود أثناء إعادة بناء الكعبة، خضعوا دون اعتراض لحُكمِه
وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يتجنَّب الظلمَ والجور في الجاهلية. والحلف الوحيد الذي حضره قبل تكليفه بالنبوة كان "حلف الفضول"، فقد كان حلفًا للعدل بين قبائل قريش تعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أْهلها أو من غيرهم ممن دخلها إلا قاموا معه وكانوا على مَن ظلمه حتى تُرَدَّ مَظلمَتُه. فكان هذا الاتفاق على منع الظلم والجور يَسُرُّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وقال عنه بعد النبوة
«لقد شهدت مع عمومتي في دار عبد الله بن جدعان حلفًا لو دعيت به في الإسلام لأجبت، وما أحبُّ أن أنكثه وإن لي حُمُر النعم »
إن ما استعرضناه من مظاهر العدل والرحمة والرأفة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها إنما هي قدوةٌ حسنةٌ للبشر جميعا حتى تقوم الساعة. ولن تستطيع أي بصيرة منصفة رأت النور البرَّاق الذي يشِعُّه ذلك المصباح المبارك إلى العالَم أن تنكر حقيقته البتة. فكم من عالِم فذٍّ لم يؤمن بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولكن أجبره عقله السليم على الإقرار بفضيلته ونجاحه وبراعته؛ ومن هؤلاء توماس كارليل الذي قال فيه
«ولادته كانبثاق النور من الظلام»
«لم يرَ أي إمبراطور الاحترامَ والتبجيل الذي رآه محمد الذي كان يلبس الثوب بعد أن يرقِّعه بيده»
أما السير موير فقال
«لم يكن أي زمان أصعب وأشد على إصلاح البشر من الزمان الذي بُعِثَ فيه محمد، غير أننا لا نعلم إصلاحًا أو نجاحًا أعظم وأكمل من الإصلاح والنجاح الذي تركه محمد بعد وفاته»
ومما ذُكِر في موسوعة بريتانيكا تصديقًا لفضيلة نبينا
«لن يصل نبيٌّ أو رجل دين مصلح إلى النجاح الذي وصل إليه محمد قط»
ويقول بوسورث سميث
«إن محمدًا أعظم مصلح قطعًا وإجماعًا»
ويعترف ستانلي لين بول بالحقيقة التالية
«إن اليوم الذي هزمَ فيه محمد أعداءه هزيمةً ساحقةً هو نفسه اليوم الذي فاز فيه بأعظم فضيلة؛ فقد عفا في ذلك اليوم عن قريش دون مقابل، وشمل بعفوه أهلَ مكة كلهم»
ويقول آرثر غيلمان
«إننا نرى سموه وفضله في فتح مكة، إذ كان من الممكن أن يُساقَ بتأثير الظلم الذي رآه في الماضي إلى الانتقام من قوله، لكن محمدًا جنَّب جيشه إزهاق الدماء، ورأف بالناس وشكر الله»