السير والسلوك
عالم التصوف هو ذلك المحضن التربوي الذي يدخله العبد، فيجد فيه مَن يزكي نفسه من أدرانها، ويطهر قلبه من أدوائه، ويقود روحه إلى سمو الرحمة في ظل هدي نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم على يد ورثة الأنبياء
فللتصوف أساليبه التربوية الخاصة المتعددة بتعدد طبائع البشر، فقد خلق الله تعالى البشر مختلفين في طبائعهم وقلوبهم وأرواحهم واستعداداتهم وقدراتهم للسير في طريق الله تعالى، والعروج إلى كمالات الدرجات الصوفية
بل إن من البشر من يقصر باعه وتضمر قدرته، وتستعصي على المربين أساليب تقويمه وتغييره، فيقف عند درجة لا يعدوها، وعند مرتبة لا يتخطاها
والأساليب التربوية في الشريعة والتصوف قد وضعت للعامة والخاصة، فأما وضعها الشريعة فهي ما يَسعُ الجميعَ -على اختلاف قدراتهم وإمكاناتهم- أن يتربوا على أصولها، ويمتثلوا لنظمها التربوية، وأما من كان لديه بسطة في القدرة وسعة في الاستعداد، وقَدرًا من التميز ليصل إلى مرتبة أعلى، ودرجة أرقى، فإن التصوف يقدم له من تعدد الأساليب ما يوافق تعدد الطبائع البشرية والإمكانات المتفردة المستعدة للسلوك في الطريق للوصول بالجميع إلى حالة النضج المبتغاة عبر التربية بالتوجيه والأوامر الإلهية؛ وهذا التميز بين كل أسلوب وآخر كأنه مثل النظارات الطبية التي يضعها الإنسان وفق معايير طبية دقيقة تتفاوت مع تفاوت مقياس درجة البصر، ثم تتفاوت وفق درجة البصيرة
إنه الفرق بين الشريعة والتصوف، لا خلاف ولا اختلاف بينهما، لكن علاقتهما معًا مثل الفرجار بذراعيه الثابتة والمتحركة، فالذراع الثابتة للفرجار هي الشريعة، لا يند عنها الفرجار قيد أنملة، فعليها ثباته، وحولها مداره، وأما الذراع الثانية للفرجار فهي التصوف، الذي يدور وراء التوجيهات الإلهية والأساليب التربوية الراقية، وأما المسافة بين الذراعين في الفرجار، فهي التي تتقارب وتتباعد وفق قدرة السالك في جهاده لنفسه، واستعداد قلبه للتلقي والتَّزَكِّي والتطهر
وثمة معايير تتحكم في ذراعي الفرجار، وحركة أحدهما وثبات الآخر؛ هذه المعايير هي: دقة الالتزام بأوامر الله تعالى ونواهيه، لذا فإن المتصوف الحقيقي هو الذي التزم بالشريعة قرآنًا وسنة، فأصلح عالمه الظاهري، وانطلق إلى تربية عالمه الباطني، وهو في عمل دؤوب وجهاد دائم سعيًا إلى الكمال الظاهري، وإلى ذروة الانكشاف الباطني
وهو لا ينسى أبدًا أن عالمه الداخلي الباطني هو الأساس وهو الأهم، لأنه هو المنطلق نحو الكمالات، فالقلب هو الذي يوجه الإرادة، والإرادة هي التي توجه الأفعال، والأفعال هي مناط الإصلاح
ولهذا كان لابد في التصوف من تطهير القلب -الذي يعد مركز الأحاسيس والنيَّات- وتزيينه بالمحامد وتطهيره من الخبائث، فالقلب السليم يحوِّل ما ينزل به من قضاء الله تعالى إلى تجلياتِ لطف ورحمة وبركة، أما من ساءت نياتهم القلبية فلن يجدوا النور في طريقهم البتة
والقصة التالية مثال معبِّر عن هذه الحقيقة
خرج أَنُوشِرْوَان -الذي اشتهر بعدالته في التاريخ- ذات يوم إلى الصيد، ثم افترق عن أصحابه وسلك طريقًا أدَّى به إلى بستان، وهناك رأى شابًّا،فطلب منه رمانة يرتوي بمائها
فعصَرَ أَنُوشِرْوَان الرمان وروى ظمأه، وسُرَّ كثيرًا بذلك، وغدا كالمنتشي، وقال في نفسه
«لا بد أن أحصل على هذا البستان، فلثماره لذة ما بعدها لذة، عليَّ أن آخذه مهما كانت الوسيلة»
ثم طلب رمَّانة أخرى، لكنها كانت جافَّة حامضة، فسأل عن السبب، فأجابه ذاك الشاب ذو الفراسة
«يا مولاي، لا بد أن قلبكم مال إلى الظلم، وفكَّرتم في أخذ هذا البستان منِّي بقوتكم وسطوتكم»
فتخلى أَنُوشِرْوَان عن أخذ البستان قسرًا، وندم على هذه النية السيئة وتاب، وحين طلب رمَّانة أخرى وجدها أحلى من الأولى وأكثر عصيرًا
فاحتار السلطان، وسأل عن الحكمة في لذة هذه الرمَّانة، فقال له الشاب هذه المرة
«أظن أنها التوبة عن غصب البستان»
ويُروى أن أَنُوشِرْوَان تاب -نتيجة هذه الحادثة وأمثالها- عن الظلم والجور، وأصلح قلبه، وصار يراعي الحق والحقوق مراعاة دقيقة، فغدا اسمه مرتبطًا بالعدالة إلى الأبد
وأدى أَنُوشِرْوَان الحقوق لشعبه وزاد فيها، وتسامح معهم جميعًا، وحين تُوفي طافوا بتابوته في كل أرجاء مملكته، وفي تلك الأثناء صاح المنادي
«من كان له حق عندنا فليأت ليأخذه»
فما وجدوا امرءًا له درهم واحد عنده
نفهم من هذه القصة أن من تطهرت قلوبهم يتركون دائمًا الفضائل والذكريات الجميلة وراءهم، فأحوال الإنسان وحركاته هي مرآة لعالمه الداخلي، فكما أنه لا يمكن رسم خط مستقيم بمسطرة عوجاء، كذلك لا يمكن انتظار سلوك حسن من إنسان لا يعرف قلبُه الصفاء والنقاء
وإذا لم تكن ثمار الشجرة سليمة فنعلم حينئذ أنه ثمة مرض في جذرها ولا بد من علاجها، والقلب مثل الشجرة، فإن كان مترددًا على الهوى والوساوس، فينبغي أن يخضع لتربية معنوية
وغاية التربية الصوفية هي جعل الفؤاد يحيا بمشاعر عميقة ووجدان سام، وبفضل ذلك وحده يغدو حال الإنسان وسلوكه في ذروة الفضيلة، فيصبحَان وسيلة لنيل رضا الله تعالى
وقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم تحتوي على أصولٍ وطرائق استثنائية تضمن للقلوب عبودية صادقة سامية، وقد اتبع صلى الله عليه وسلم في أساليبه التربوية المعنوية أدق القواعد القلبية، ومن هذه القواعد أنه لم يوجِّه اللوم قط إلى الشخص الذي يخاطبه، أو الشخص الذي يتحدث عنه؛ بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى التورية والتعمية، فلا يجرح ولا يفضح أحدًا، وربما كان يحمِّل القصور على نفسه، فكثيراً ما كان يبدأ حديثه في الأمور التي تقع بقوله: «ما لي أراكم»، وكان إذا بلغه عن رجل أمرٌ ما، لم يقل: «ما بال فلان يقول؟» ولكن يقول: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟» (أبو داوود، الأدب، 5/4788)
وقد تعلم أهل القلوب وأهل الإصلاح هذا الدرس النبوي، فنراهم يتبعون أصول الرقة، ويراعون الأحاسيس القلبية في معاملاتهم مع الناس، ويتخذون من مسامحة الخلق شعارًا لهم، ولأن اهتمامهم مُنصَبٌّ على الباطن وعلى القلب، فإنهم لا يهتمون بالظاهر الذي أساء إليهم؛ بل يسامحون المذنب ليتخلص من ذنبه، ويعاملون المسيء بالرحمة ليستميلوا قلبه، وينسون الذنب لتسكن عواصفُ الغضب، وتنطفئ نارُ الغيظ، فتهدأ الأجواء، وتسكن الأنواء، ولا يتبقى إلا الصفاء
أهل القلب المصلحون يقومون بخطوة أكثر أهمية قبل إصلاح أحوال الناس؛ إنهم يجهزونهم أولاً لهذا الإصلاح وقبولِه والأنسِ به، من خلال أنس الصحبة، وهدوء الطبع، وسماحة النفس، ولطافة القلب، وبركات اللمسات النورانية
هذا الأسلوب القلبي في التربية قائم على التسامح ونفي الشعور بالانتقام؛ بل حتى تجنب اللوم والتقريع والدفع بالكرم والإحسان، فها هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم سيدنا يوسف عليه السلام وموقفه مع إخوته، يُلقونَه صغيرًا ضعيفًا في الجب، فيلقاهم قويًا «عزيزًا» بالحب، لبى طلبهم وأكرم نزلهم وأعطاهم من الطعام ما يكفي قومهم، ثم هو ينسب إساءتهم له إلى الشيطان لا إليهم، ثم هو يدعو الله لهم ويستغفر لهم
(قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف،92)
والنفس البشرية مهما كانت سادرةً في غيها عندما تقابل مثل ذلك الشعور القلبي الراقي، ومثل تلك المعاملة الشريفة، لابد أن تدركها المعجزة، ويؤثر فيها الإعجاز، أو على الأقل تبهتها المفاجأة. مفاجأة التحول من أقصى الشعور المتوقع للانتقام إلى أدنى الشعور المتلقي للتسامح والمحبة، عندها تنقلب الشقاوة هدى، وتتحول دواعي الذنوب إلى عوامل للتوبة
وإذا استصعب بعض من الناس هذا المثال وتعذر بأن من قام به إنما هو نبي وليس فردا عاديا، فهاؤم قصة وليٍّ صوفيٍّ ورجلٍ مربٍّ مع شُرَّاب خمر، مجموعة من الشباب الغافل يجتمعون على شاطئ نهر دجلة حول المعازف والقيان والكؤوس والدنان، يشربون الخمر ولا يبالون بأحد، وإذا بالشيخ معروف الكرخي -قدس الله سره- يمر بهم، وكأنه هتك سترهم، ومحا سرورهم، فقد ظنوا أن الرجل الرباني سيدعو عليهم -وكان معروفًا أنه مستجاب الدعوة- فيصيبهم الهلاك، حتى إن أحدهم صدمه ذلك الشعور بالانتقام، فقام مغاضبًا، وصرخ في وجه الشيخ منتهرًا مستهزئًا: «هيا لا تتلكأ، ادعُ علينا حتى نغرق في خضم دجلة»
لكن معروفًا الكرخي لا يستفزه ذلك الاستهزاء، ولا يحركه الشعور بكراهية المذنب، إنما تدفعه مسؤولية التخلص من الذنب، واحتواء المذنب بالحب، فيرفع يديه إلى السماء داعيًا: «اللهم كما فرَّحتهم في الدنيا، ففرِّحهم في الآخرة»
ولوقع المفاجأة لا يدرك الشباب معنى كلمات الشيخ، فيسألونه
«انظر ما تقول أيها الشيخ؟ هل تعي ما تدعو به»
وهنا لا يشرح الشيخ مقولته، إنما يبين لهم طريقته وأسلوبه التربوي
«يا بَنيَّ، إذا فرَّحكم في الآخرة تاب عليكم»
وبعد أن زال عن الفتية هول الموقف ومهابته، إذا هم يعيدون حساباتهم، ويقرِّعون أنفسَهم، فيوبخهم شعور الندم، وتنتابهم رغبة التوبة، فيكسرون المعازف، ويريقون دنان الخمر، وينطلقون إلى طلب الفرحة والسعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة
وثمة خاصية أخرى في معايير التربية المعنوية لدى التصوف، وهي مراعاة اختيار أسلوب الإصلاح بما يتوافق مع طبيعة كل فرد واستعداده؛ إذ ليس من الحكمة أن تتجاهل طبيعة كل إنسان وخصوصيته، فتجهل الأسلوب الأمثل في توجيهه وتربيته، كما أن المرشد الكامل هو الذي يدرك كنه هذه الفطرة والطبيعة الخاصة لكل مريد، فيصون هذه الطبيعة وذلك الاستعداد عن الانجراف في التيار النفساني؛ ويقود المريد إلى استخدامه في أسمى الغايات ويوظفه للارتقاء به إلى أعلى الدرجات، وذلك عبر معادلة وتركيبة دوائية تناسب حالته، وتوافق أدواءه، فيكون شفاؤه في عالمه المعنوي، وترياقه في عالمه القلبي، ونبراسه في عالمه النوراني
ألا ترى العرب في جاهليتهم -وكانوا مضرب المثل في قساوة القلوب، والتجرد من الشعور، لا تعرف الرحمة إليهم طريقاً، ولا يجد الضعيف لديهم جوارًا، ولا يجد اللين في قافلتهم ركابًا- ها هم أولاء تحدث فيهم المعجزة، فيصبحون أرق الناس أفئدة، وألين الناس عريكة، وأصفى الناس قلوبًا، وأرقاهم أخلاقًا، حتى صاروا مضرب المثل، وحديث التاريخ والدنيا في مناقبهم وآثارهم ونموذجيتهم
كل ذلك التحول كان عبر التربية التي تلقوها على يد النبي صلى الله عليه وسلم والمحبة التي ملأت جوانحهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فامتلأت عبادتهم خشوعًا، وأفعالهم لله خضوعًا، وصارت أخلاقهم مثالاً، وأفعالهم نبراسًا، وسِيَرهم أنموذجًا
وكان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم هم النموذجَ الأرفع للتربية النبوية في الظاهر والباطن، وها هو سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يصف هذه الحالة، فيقول
«ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل» (البخاري، المناقب، 25)
تلك هي التربية القلبية المعنوية النبوية التي رباها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، حتى وصلوا إلى هذا السمو ظاهرًا وباطنًا، وهي نفسها التربية الصوفية التي تهدف إلى تزكية النفس، وتطهير القلب، وهي أيضًا التي تتحقق على أيدي ورثة النبي من العلماء أهل السلوك والتصوف والمربين الحقيقيين
أما السالكون في هذا الطريق، والمجاهدون للسير فيه حتى يبلغوا أعلى الدرجات، والساعون إلى مرتبة «الإنسان الكامل»، فهؤلاء هم المنتسبون إلى مدرسة التربية الصوفية، وهؤلاء هم أهل السير والسلوك