القدس مدينة الروح

عائشة قلتش

مدينة القدس... أولى القبلتين في الإسلام، وأول محطة مباركة في رحلة الإسراء والمعراج، وأول درجة من درجات الارتقاء إلى السماء. إنها المدينة التي لم تتمكن الأديان من تشاطرها، إنها الحرم الشريف الثالث بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، إنها المدينة التي يُصعد منها إلى السماء. إنها القدس؛ تاريخ القرآن، وأرض الأنبياء من إبراهيم إلى يعقوب وموسى وعيسى، ومحط الأنبياء والأولياء وعشاق الحق والمتصوفين. في كل زاوية من زواياها تقريباً تطالعك ذكرى نبي من الأنبياء أو حاكم من الحكام، وكأنها كتاب حي يروي القصص والعبر. لقد تركت مدينة القدس أثرًا عميقًا في قلوبنا

سألت أم المؤمنين ميمونة النبي ﷺ عن القدس قائلة: "يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس؟"، فقال: "أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره."، قالت: "أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه؟"، قال: "فتهدي له زيتاً يسرج فيه فمن فعل فهو كمن أتاه

وكما نعلم فإن النبي ﷺ عندما هاجر إلى المدينة المنورة كان يصلي نحو بيت المقدس. لقد دل ﷺ مسلمي اليوم على أن الهدف هناك. وهكذا فإننا نأخذ هذه الإشارات النبوية بعين الاعتبار ونطيع هذه الوصايا، ونطلب الرحلة إلى القدس ـ رغم المخاطر الأمنية في المنطقة ـ لنكون شهوداً على التاريخ ونسبر أغوار هذه البلدة

إن لقاء هذا البلد الذي تتحرق أفئدتنا شوقاً لرؤياه يثير حماسنا، فالصلاة في هذا المكان المبارك الذي صلى فيه رسول الله ﷺ وجميع الأنبياء، ورؤية المكان الذي ارتقى منه عليه السلام في رحلة الإسراء والمعراج، والنظر إلى الصخرة المعلقة التي سعت وراء النبي ﷺ بعشق وشغف والتي قيل عنها إن الصخرة التي سلم عليها رسول الله ليلة المعراج، وزيارة مسجد البراق الذي ربط فيه نبينا عليه السلام "البراق" عندما عرج من مكة بمعجزة الإسراء، كل ذلك يجعل رحلتنا ذات قيمة كبيرة ويقربنا من المولى عز وجل، إن المسجد الأقصى يحيط بنا من كل جانب، ويجعلنا بحق ننسى وحدتنا

نتوجه في طريقنا إلى مدينة الخليل... تلك المدينة المباركة، إنها مدينة إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء خليل الله تعالى، وزوجته أمنا سارة. أثناء دعوتهم لنا إلى الدخول تؤلف معرفتنا السابقة بين قلوبنا، وتزداد قيمة دعائنا "صلي وبارك" ونحن نلهج به بألسنتنا. إلى الداخل قليلاً، النبي إسحاق عليه السلام وزوجته "رفقة"... نجثوا على ركبنا بقربهما. نذهب في رحلة إلى التاريخ والقصص ونذكر أنفسنا مرة أخرى بهم. تهل البشرى أن في الداخل مقام يوسف ويعقوب عليهما السلام. لكن وفي لحظة تحوِّلُ القيود المفروضة على المكان القريب إلى بعيد... السلام عليكم أيها الأنبياء وعلى من سار على نهجكم... نقولها مخلفين وراءنا جزءاً من أرواحنا ونغادر وعيوننا تفيض دمعاً ذلك المكان الذي تفوح منه رائحة الأنبياء

تعظنا بحيرة لوط التي يعد سطحها أعمق نقطة في العالم ولا يعيش فيها أي نوع من الأحياء، وتدفعنا إلى التفكر في كيفية هلاك قوم يوماً ما في التاريخ الغابر

في طريقنا إلى القدس يستقبلنا بحرارة مقام النبي موسى عليه السلام على مشارف مدينة أريحا. إنه النبي موسى الذي عرفناه وتعرفنا عليه من بعيد والذي قرأنا عنه مطولاً في القرآن الكريم وعن نضاله من أجل خلاص قومه، من غطاء ضريح موسى عليه السلام تفوح رائحة الكعبة المشرفة وتحرك أفئدتنا. صوت يرتفع من المآذن ليتسلل إلى قلوبنا، إنه دليل السكينة التي تغمر ـ منذ أمد بعيد ـ جسد موسى عليه السلام المنهك. السلام عليك يا موسى، نقولها ونترك قطعة أخرى من روحنا هناك

في حارة اليهود المبنية من الحجارة نسير في أزقة ضيقة ومن حولنا يهود ومسيحيون لنصل إلى مقام داوود عليه السلام. في هذا المكان الذي يحمل الكثير من البصمات العثمانية ترتجف أرواحنا برداً لرؤية الطقوس الدينية المقامة فيه. في هذا المكان الذي بات كنيساً يهودياً نلتجئ جميعاً إلى المحراب فهو ما تبقى لنا من آثارنا هناك. "لقد اشتاقت هذه الحجارة إلى الآيات القرآنية!" نقولها ونبعث الحياة في محراب يئن بتلاوة آيات من مطلع سورة البقرة. السلام عليك يا داوود، نودع المكان تاركين فيه جزءاً آخر من أرواحنا. ليس باليد حيلة

نسير ليلاً وتأخذنا خطواتنا نحو معراجنا نحن. المآذن تصدح بآيات قرآنية تملأ سماء القدس. صوت الأذان الحزين الباحث عن جيرانه القريبين وعن الازدحام القديم يحاول أن يطغى بقوة على صوت أجراس تُسمع بين الفينة والأخرى ليكون دواء يداوي شعب فلسطين

يتملكنا الغضب ونحن ندخل تحت رقابة الشرطة إلى أماكن العبادة في القدس التي ظلت أربعة قرون في كنف العثمانيين ويتحول هذا الغضب في داخلنا إلى ألم. لكننا نشعر رغم كل شيء بسكينة وطمأنينة عميقتين في حديقة المسجد الواسعة، وتغمرنا السعادة عندما نرى الفرحة تعلو وجوه الفلسطينيين لدى سماعهم أننا قادمون من تركيا، إن سعادتهم ومجاملتهم لنا وفرحتنا بأن نجعلهم لا يشعرون بالوحدة تخلف في أنفسنا آثاراً عميقة. ومع حلول الظلام ونحن في أولى القبلتين وثاني الحرمين وأحد الأماكن الموصى بزيارتها والتي يعادل أجر ركعة واحدة فيها أجر ألف ركعة تنتشي أرواحنا وتشعر بالانشراح ببشرى النبي ﷺ بأن من تعبد في الأقصى كمن تعبد في السماء الأولى

جبل الزيتون الشاهد على كل شيء هو من يحتضن مدينة القدس على سعتها وهو من يعزيها، يقف شامخاً من أجل السلام والبركة، وكي لا يحول النعمة التي يحملها إلى عبء... إنه يحتضن اثنين من أحباء الله أضفيا جمالاً على العصور وأضاءا دربنا: سلمان الفارسي ورابعة العدوية، اهتديا بنور الله وأرشدا الآخرين إلى الدرب. جبل الزيتون يعطينا الأمل فنمد أغصان الزيتون إلى الإنسانية جمعاء وألسنتنا تلهج بالدعاء

أليس الدخول إلى القدس يعني الدخول إلى مكان يحتوي كل شيء؟ بمجموعات تضم أشخاصاً من الأديان السماوية الثلاث وعلى مشارف جبل الزيتون نغوص في أعماق رحلة تاريخية في المدينة التي تحمل على ظهرها المسجد الأقصى حيث عرج النبي عليه السلام إلى السماء