النظافة واللطافة والرأفة والمرحمة في حياة نبي الرحمة
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس طبعًا وألطفَهم سلوكًا وأحمدَهم خُلقًا، وذلك جليٌّ في كثير من روايات الصحابة الكرام رضوان الله عليهم. فلم تكن الابتسامة تفارق وجهه النيِّر عليه الصلاة والسلام
وكان عليه الصلاة والسلام ذا قلب رقيق مرهف، حتى إنه رأى يومًا رجلًا يبصق على الأرض، فاحمرَّ وجهه صلى الله عليه وسلم لما رأى، فسارعَ الصحابة وغطوا البصاق، ثم أكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقه
وقد كانت نظافة لباس رسول الله صلى الله عليه وسلم تشير إلى قيمة المسلم العظيمة عند الله سبحانه تعالى، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبس البياض وتكفين الموتى به، لأنه أطهر وأطيب
وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح اللباس وتسويته، ولم يكن يُسرُّ بالثياب الرثَّة، ولم يستحسن أن يرى الرجلَ أشعثَ الشعر واللحية، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده- كأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته- ففعل الرجل، ثم رجع فقال النبي صلى الله عليه وسلم
«أليس هذا خيرًا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان»
وعن جابر بن عبد الله ، قال
«أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى رجلًا شعثًا قد تفرق شعره فقال: "أما كان يجد هذا ما يُسكِّن به شعره"، ورأى رجلًا آخر وعليه ثياب وسخة، فقال: "أما كان هذا يجد ماءً يغسل به ثوبه"». فكان ذلك تنبيهًا منه صلى الله عليه وسلم إلى ضرورة نظافة المسلم وحسن مظهره
ومما يعرض الأحوال الحسنة الرائعة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدَّثنا به أبو قرصافة رضي الله عنه حين قال
«لما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأمي وخالتي، ورجعنا من عنده منصرفين، قالت لي أمي وخالتي: يا بني ما رأينا مثل هذا الرجل أحسن منه وجهًا، ولا أنقى ثوبًا، ولا ألين كلامًا، ورأينا كأن النور يخرج من فيه»
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلًا نادى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، كل ذلك يرد عليه: «لبيك لبيك». فقابلَ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فظاظةَ الرجل باللطافة ولينِ القول
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزعج كثيرًا من رثاثة الثياب للطافته عليه الصلاة والسلام
فعن أبي الأحوص عن أبيه، قال
«أتيت النبي عليه الصلاة والسلام في ثوب دُونٍ، فقال: "ألك مال؟" قلت: نعم، قال:"من أي المال؟" قلت: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق، قال: "فإذا آتاك الله مالًا فليرَ أثر نعمة الله عليك، وكرامته»
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر
«إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده»
لكن من الواجب المحافظة على الاعتدال أثناء استعمال النِعم التي أكرمنا بها الله سبحانه وتعالى. أي لا بد من الحذر من الانجرار إلى الإفراط في الإسراف باسم الحذر من التفريط في الشح. فالله سبحانه وتعالى يقول في الآية الكريمة
{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}
فهذي الحقائق تُجلِي للبصائر أن كُلًّا من نظافة الظاهر وجماله بصورة معتدلة، وطهارة القلب ونقاوته يُتمِّم بعضه بعضًا في الإسلام
ويجب على كل مسلم يلبس لباسًا جديدًا جميلًا أن يدعو مثل دعاء رسول الله عليه الصلاة والسلام مدركًا أن النعم كلها لطف وكرم من عند الله سبحانه وتعالى كي لا يقع في الغرور والكِبْر. فحينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس الجديد يدعو قائلًا
«اللهم لك الحمد أنت كسوتَنيه، أسألك من خيره وخير ما صُنِعَ له، وأعوذ بك من شرِّه وشرِّ ما صُنِعَ له»
فيبيِّن لنا وجوب استعمال كل نعمة في سبيل رضا الله سبحانه وتعالى
وكان عليه الصلاة والسلام يحذِّر أمته من نار جهنم، إذ بيَّنَ أن الذين يلبسون الجديد ويخالجهم شعور الغرور والكِبر والعُجب سيكون لباسهم ذلك حسرة وندامة
ولم يفُهْ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة فاحشة بذيئة، وكان يقول
«ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء»
*
وقد سابب أبو ذر الغفاري بلالًا الحبشي ، فعيَّره بأمه قائلًا: «يا ابن السوداء»، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
«يا أبا ذر أعيَّرته بأمه؟ إنك امرؤٌ فيك جاهلية»
فألقى أبو ذر رضي الله عنه نفسه على الأرض، ثم وضع خده على التراب، وقال: «والله لا أرفع خدي من التراب حتى يطَأَ بلال خدي بقدمه...» فكان ذاك توبةً منه وطلبًا للعفو عمَّا قال
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخدم ضيوفه بنفسه، ويكرمهم للطافته وحسن معاشرته. ولم يجادل أحدًا أو يخاصمه حتى في طفولته
وكان يُعرَف برأفته على الفقراء واليتامى والمساكين والأرامل
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال
«ما شممت عنبرًا قط، ولا مِسكًا قط، ولا شيئًا أطيبَ من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مسست شيئا قط ديباجًا ولا حريرًا ألين مسًّا من رسول الله صلى الله عليه وسلم»
قال ثابت- أحد طلبته
«يا أبا حمزة ألست كأنك تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنك تسمع إلى نغمته؟»
فقال: «بلى والله إني لأرجو أن ألقاه يوم القيامة، فأقول يا رسول الله، خويدمك»
وقال: «خدمته عشر سنين بالمدينة وأنا غلام ليس كل أمري كما يشتهي صاحبي أن يكون، ما قال لي فيها: أف، ولا قال لي: لمَ فعلت هذا؟ وألا فعلت هذا!»
*
لقد عمَّت رحمة نبينا الكريم محمدٍ صلى الله عليه وسلم المخلوقات كلها. فكان عندما يرى طفلًا، يظهر على وجهه السرور والمحبة، وكان يحضن أطفال الصحابة، ويمسح على رؤوسهم، ويسلِّم على الأطفال في طريقه. وكان يحبهم حبًّا عظيمًا ويمازحهم أحيانًا. وقد رأى ذات مرة جماعة من الأطفال يتسابقون، فسابَقَهم
وكان رحمة العالمين عليه الصلاة والسلام إذا لقي الأطفال وهو على ناقته أركبهم معه. يقول أنس رضي الله عنه في هذا الشأن
«ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم»
«كان إبراهيم مُسترضِعًا له في عوالي المدينة ، فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت وإنه ليُدَّخَنُ، وكان ظِئرُه قَينًا ، فيأخذه فيقبله، ثم يرجع»
وهاكم حديثًا يوضِّح خير توضيح رحمة الإسلام ورأفته بالأولاد: عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت
«جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تُقبِّلون الصبيان؟ فما نقبِّلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
"أَوَأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة»
وعن أسامة بن زيد
«كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما، ثم يقول: "اللهم ارحمهما فإني أرحمهما"»
فقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا، ومنعُه الدعاء على الأولاد من أجمل مظاهر المحبة العظيمة والرأفة والرحمة المكنونة في قلبه للأولاد
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال
«صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى ، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدَّي أحدهم واحدًا واحدًا، قال: وأما أنا فمسح خدي، قال: فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنما أخرجها من جؤنة عطار»
ومن دلائل رفقه ورأفته الكبيرة أنه كان يقصر القراءة في الصلاة إن سمع ولدًا يبكي ، وأنَّ لحيته كانت تبتل من البكاء في الليالي وهو يدعي لأمَّته، وأنه قد أمضى عمره كله حريصا أن يُنجيَ الناس من نار جهنم
وقد شملت مرحمته عليه الصلاة والسلام حتى الأموات. فمن أعظم ما يُخشى منه على الميت ما تركه من حقوق العباد. لذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الميت حتى تؤدَّى حقوق العباد التي عليه
ولقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يحزن كثيرًا إن وُضِع الميت في القبر ولم تؤدَّ عنه حقوق العباد، فقد كان نبي الرحمة والرأفة على جميع أمته