بدر وأُحُد والخندق

كانت غزوة بدر أولَ معركة بين الإيمان والكفر، وانتهت بانتصار المسلمين. واجتثَّت هذه الغزوة جذور العصبية القبليَّة الجاهلية، إذ قاتلَ في هذه الغزوة أبو بكر رضي الله عنه ولدَه، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه والدَه، وحمزة رضي الله عنه أخاه. وأنزل الله تعالى جيشًا من ملائكته الكرام مُردفين في ذلك المشهد الرهيب يقاتلون إلى جنب المسلمين، فكان الملائكة الذين شهدوا بدرًا أفضل من غيرهم وأعز شأنًا

وقد أنزل الله تعالى الآية السابعة عشرة من سورة الأنفال بعد هذا النصر العظيم كي لا يقع المسلمون في الكِبر والعُجب إذ قال سبحانه وتعالى

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

*

أما غزوة أُحد التي تلت النصر في بدر ففيها استُشهِد سيدنا حمزة رضي الله عنه، واستُشهد في تلك الغزوة سبعون صحابيًّا. وكان يُؤتَى بعشرة شهداء ومعهم سيدنا حمزة رضي الله عنه للصلاة عليهم فيُدفن تسعة ويبقى سيدنا حمزة، ثم يُؤتى بتسعة شهداء إلى جنبه فيصلُّون عليهم ثم يدفن التسعة إلا حمزة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك على سيد الشهداء عمه مرة تلو مرة

وكان يوم أُحد الذي تلا النصر في بدر يومًا بدا الحزنُ فيه على وجوه المسلمين الذين كانوا يحيون دين الإسلام مهما تقلَّبت بهم الحياة وتغيرت أحوالهم، فكانوا في قمة التوكل والتسليم والرضا بالقضاء

وقد استطاع المشركون الاقتراب من رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أُحُد التي كانت يوم محنة وابتلاء وتمحيص للمؤمنين، ففي ذلك اليوم العصيب كُسِرت رباعية الرسول لما رموه بالسهام والحجارة، وشُجَّ في جبينه المبارك الذي ينير العالَم، وسال الدم من وجهه الشريف وشفتَيه المباركتَين اللتَين تبشِّران البشر أجمعين بالرحمة. ودخلت حلقتان من حلق المِغفَر في وجنته صلى الله عليه وسلم. ووقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي حفرها الفاسق أبو عامر ليقع فيها المسلمون، فأخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائمًا

يقول سيدنا أبو بكر رضي الله عنه

«لما كان يوم أحد ورمي رسول الله عليه الصلاة والسلام في وجهه حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المغفر، فأقبلت أسعى إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا أنا برجل قد اعتنقني من خلفي مثل الطير، يريد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح، فبدرني  قائلاً

«أسألك بالله يا أبا بكر إلا تركتني، فأنزعه من وجه رسول الله عليه الصلاة والسلام». فتركته. فأخذ أبو عبيدة بثنيته حلقةَ المغفر فنزعها، وسقط على ظهره، وسقطت ثنية أبي عبيدة. ثم نظر إلى الأخرى فناشدني الله لما أن خليت بيني وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام فانتهزها بالثنية الأخرى، فكان أبو عبيدة أثرم الثنايا»

وحزن الصحابة الكرام في ذلك اليوم العصيب حزنًا شديدًا، فقد كانت الأحداث مفجعة. فقال الصحابة الكرام

 «يا رسول الله، ادع الله عليهم!»

فقال عليه الصلاة والسلام

«إن الله تعالى لم يبعثني طعَّانًا ولا لعَّانًا، ولكن بعثني داعية ورحمة، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون»

وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في رثائه النبي صلى الله عليه وسلم مبينًا سمو أخلاقه التي لا يدانيها خلق

«بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوحٌ على قومه فقال

{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}

ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا؛ فلقد وطِئَ ظهرُك، وأُدمِيَ وجهك، وكُسِرَت رباعيتك، فأبيتَ أن تقول إلا خيرًا، فقلتَ

"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"

فتلكم الأحداث والأهوال وقعت في ذلك اليوم الذي ابتُليَ فيه المؤمنون وزلزلوا زلزالًا شديدًا

لقد كان الصحابة الكرام يتَّبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر دون قيد أو شرط، وكان دافعهم إلى ذلك حب نبيِّهم ودينهم، فكان مما قالوا

«إنا قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن كل ما جئت به حق، وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة، فامضِ يا نبي الله، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت هذا البحر فخضتَّه لخضناه معك، ما بقي منا رجل

أما في أُحُد فقد كانت الغفلة عن طاعة أوامر رسول الله عليه الصلاة والسلام، والميل قليلًا إلى متاع الدنيا ومغرياتها سببًا كافيا في تغير نتيجة الحرب وتأخر النصر، فكان ذلك تحذيرًا من الله تعالى للمسلمين وتنبيهًا لهم. وقد كان لأُحُد مكانة عظيمة في قلب رسول الله عليه الصلاة والسلام لما عاشوا فيها من تجليات عظيمة. وظلَّ عليه الصلاة والسلام يزور أُحُد وشهداءه طوال حياته. وكان يقول

«إن أُحُدًا جبل يحبنا ونحبه»

لقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يُحِب أُحُدًا الذي شهد تلك الأحداث العظام واحتضن ترابُه أولئك الشهداء الكرام محبةً عظيمة، فصار مزارًا تزوره أمته من بعده حتى قيام الساعة

*

 

وأما غزوة الخندق ففيها عَرَضَ للمسلمين صخرة لا تأخذ فيها المعاول أثناء حفر الخندق، فجاء رسول الله عليه الصلاة والسلام فكسرها بثلاث ضربات مبشِّرًا بفتح الشام في الضربة الأولى، وبفتح فارس في الثانية، وبفتح اليمن في الثالثة، وهو ينظر إلى قصور تلك البلاد. فزرعت بشارة إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى في تلك البلاد الأملَ في القلوب اليائسة بالانتصارات القادمة، وبشَّرت بتبديد نور الحق ظلامَ الباطل في المستقبل القريب، ووعدَت بالهداية التي تشمل العالَم كله

لقد كانت غزوة الخندق كالبوتقة التي عانى المسلمون فيها من التعب والنَّصَب والجوع والبرد والظلام، ورسول الله عليه الصلاة والسلام آنذاك يبتهل إلى ربه قائلًا

«اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار»

مذكِّرًا إياهم بالآخرة، وأن الدنيا وما فيها من مصائب ومشقات لا قيمة لها أمام الحياة السرمدية الآخرة