تزكية النفس
تفيد معاجم اللغة عن معنى التزكية بأنه التطهير والتنظيف والتخليص من كل ذميم، وكذلك تفيد معاني الزيادة والنماء والبركة
أما التزكية في معناها الصوفي فتشمل عملية التربية المعنوية بحذافيرها، فتزكية النفس في واقعها العملي هي أن تبدأ بتطهيرها من الكفر، ثم من الجهل، ثم من الأحاسيس الدنيئة، والمشاعر الشهوانية، والأقذار الإنسانية، والمعتقدات المشوهة، والأخلاقيات المنحرفة، والأعمال الزائغة عن أوامر الشرع ونواهيه، أي تطهيرُ القلب من فساد الاعتقاد، وتطهير الأفعال من مذمات الأعمال، وتطهير العقل من نقائص الجهل
ثم متابعة ذلك التطهير بالتدبير، ومتابعة تلك التخلية بالتحلية، فإذا خَلَّيت القلب من فساد الاعتقاد حَلَّيته بالتقوى والإيمان، وإذا خَلَّيت العقل من نقائص الجهل حليته بالعلم والحكمة والعرفان، وإذا خليت الأفعال من مذمات الأعمال حليتها بالأعمال الصالحة والمشاعر النقية، وإذا خليت الروح من جفاف الدنيا ملأتها بروح وريحان، وندى من جنات عدن، ورويتها من كوثر القرآن والسنة
والتزكية في المفهوم الصوفي هي أن تنزع لجام الرغبات من أيدي النفس، وتنزع مِقْوَدَ الشهوات من سيطرة الرغبة، وتخلُّص البدنِ من نفوذ نوازع الشر يكون بتقوية الإرادة، وتتأتى هذه الإرادة برياضة النفس وترويضها، وتدريبها على أصول الاعتدال في مدخلات النفس؛ لتحسن مخرجاتها، وليسهل التحكم فيها، ويحصل إلجامها
ومن أصول إلجام النفس لدى أهل التصوف
نقص الطعام، وقلة المنام، وندرة الكلام
وهي الخطوات الأولى في طريق الرياضة، والقواعد الأولى لحكم النفس والسيطرة عليها؛ لكن لابد أن نضع في الحسبان اعتدال الميزان، فنحن هنا نروض النفس ولا نقتلها، فعلينا أن نحافظ على أمانة الله لدينا، وهي أبداننا، فنصونها عن البوار المادي، ولا نقصر في تطهرها المعنوي
والاعتدال في كل الأحوال هو كمال الإسلام وميزته الكبرى، فلا تهاونَ ولا غلو، ولا إفراط ولا تفريط، فالعبادات والرياضات والمجاهدات إنما وضعت قواعدها للتزكية والتربية، وفق الخضوع للأوامر الإلهية
وعاقبة الإنسان ومآله في أخراه ودنياه متوقف -إلى حد كبير- على هذه التربية وتلك التزكية؛ هل تسوقه إلى هلاك، أم تقوده إلى نجاة؟ وكي نقف على بداية طريق التربية والتزكية، لابد من الوقوف في البداية ضد الشهوات، وضد فساد الأحوال والطموحات، وكذلك لابد من الخضوع التام للإرادة الإلهية
ثم إدراك المؤمن السالك مدى عجزه وقصوره ونقصانه وجهله، وفنائه، وفي المقابل؛ يدرك مدى عظمة ربه وقدرته وجلاله وكماله
وبناءً على ذلك الإدراك ينظم المؤمن أفعاله، وحينها يمكن للنفس الأمارة بالسوء -وفق الوصف الرباني- أن تتطهر من هذا السوء لتصل إلى حالة مقبولة
ولأن هذا السبيل -سبيل التربية والتزكية- هو جهاد في طريق السير والسلوك، فقد أطلق عليه اسم «الجهاد الأكبر» لمدى قدره وخطره، وهو ما جاء في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم إبان عودته من غزوة تبوك، ورغم أنها أيضًا كانت من أصعب وأخطر الغزوات، إلا أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه عند القدوم منها
«قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»
وهل هناك جهاد أكبر من الجهاد في الغزوة بالذات، التي أحاطت بها العقبات والمصاعب منذ اللحظات الأولى للإعلان عنها، فالجيش الذي يجابهه المسلمون جيش عرمرم ملأ الشرق والغرب، والوقت الذي بدأ فيه الإعداد للزحف كان حين اشتد الحر، وطاب جني الثمر وحان موسم الحصاد، كل ذلك مع خفة الزاد، وانعدام الراحلة، وبُعْدِ الشُّقة، وتباطؤ الناصر، فقد تخاذل المنافقون، وكثر اللامزون، ومع هذا كله انطلق نحو ثلاثين ألف صحابي يقطعون الفيافي، ويضربون أكباد الإبل لمسافة بلغت نحو ألف كيلو متر
فمَنَّ الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام بإحدى الحُسنَيين وأحد الوعدين، وها هو الجيش يعود إلى المدينة، وقد صارت عكن بطونهم عظامًا، وأطرافهم من ضمورها كأنها سهام، تغيرت منهم الوجوه حتى أنكرهم القريب، وتبدلت أحوالهم حتى رق لهم العدو مع الحبيب، ثم بعد كل هذه الأهوال والأحوال، يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك المقال
«الجهاد الأصغر»، فتطلعت الأبصار والأفئدة إلى صاحب الحكمة ونبع العرفان، المصطفى صلى الله عليه وسلم يسألونه
«يا رسول الله، إنك ترى حالنا هذا! وهل هناك جهاد أكبر من هذا؟»، فأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم
«قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر: مجاهدة العبد هواه»
أي ربي، أجهاد النفس أصعب من ذلك كله؟
وفي هذه الغزوة أيضًا ما هو أشد على الأفهام وأصعب على الأحلام، إنه ذلك الدرس الدقيق من قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا، فأقعدتهم أنفسهم عن اللحاق بالركب الكريم إلى الجهاد، رغم أنهم شاركوا في معظم الغزوات السابقة، هاهم منبوذون من الناس، مقطوعون من الجماعة، ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، بل ضاقت عليهم جلودهم ندامة وتقريعًا، وأصابهم العار قبل أن يأتيهم الفرج من العزيز الغفار
هؤلاء الثلاثة تخلفوا عما يُدعى «الجهاد الأصغر» فأصابهم التحقير، فما بالنا بمن يتخلف عن «الجهاد الأكبر»، أي تحقير يصيبه؟ وأي عار يلحق به؟ وبأي جواب سوف يجيب مولاه حين يُنصَب الميزان، ويُنشَر الديوان، وتنطق الجوارح قبل اللسان، لتشهد الأعضاء والأبدان على من أتبع نفسه هواها، فما طهرها وما زكَّاها، لكنه تخلف عن الجهاد الأكبر فدسَّاها
وكما يقول الفاروق عمر رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»، فحاسبها حسابًا غير يسير، ولم يغفل لها أو يغفر أي أمر قليل أو كثير، وأخضعها لحساب دقيق، قبل أن يأتيه الحساب الإلهي الأدق
ويحذر المولى عزَّ وجل عباده تحذيراً شديداً حين يقول
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون، 115)
ويقول الحق تعالى في آية أخرى
(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) (القيامة، 36)
ويقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم
«الكَيِّسُ من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبعَ نفسه هواها، ثم تمنى على الله» (الترمذي، القيامة، 25؛ ابن ماجه، الزهد، 31)
بعد كل هذه المعاني في القرآن والسنة، وكل هذه التكليفات المؤكدة بمواثيق لا تنحل، وكل هذه المسؤوليات الملقاة على عاتقك، لابد أنك أدركت عظم الغاية والتكليف المنوط بك، وأدركت ما تحتاج إليه من خطط تعينك على أداء هذه المهمة الشاقة المعقدة والدقيقة، فينبغي أن تكون كل حركة من حركاتك سعيًا نحو القمة، وكل سكنة من سكناتك انتقاصًا لحظ الشيطان من نفسك، وكل فعل من أفعالك معراجًا للتقرب إلى الحضرة الإلهية. وإلا، وقعت في زلل عظيم، وخسران مبين، وكنت كمن يبني قصرًا، ويهدم مصرًا
ويُنبِّه الله تعالى عباده من مخاطر النفس في قوله
(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) (الفرقان، 43)
ويقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
«إني أخاف على أمتي من ثلاث: من زلة عالم، ومن هوى متبع، ومن حكم جائر»
«إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى»
لذا، فإن تزكية النفس للمؤمن أمر مصيري، ومسألة حياة أو موت، حياة قلب أو موت روح، وكأنها جزء من الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، ما أعظمها من مسؤولية
ويقول الله تعالى عن هذه المسؤولية في الآية الكريمة
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس، 9-10)
فالفلاح منوط بتزكية النفس وتربيتها، أما إهمالها في توحشها، وتركها سادرةً في غيها، فهو الخسران المبين
إن النفس هي السيف الذي يقتل ويقاتل، يقتل صاحبه، أو يقاتل عدوه، يفعل الشيء وضده، يحفظ حياتكم ويقاتل دونها، أو هو يضيعها ويودي بها، والفيصل بين الأمرين هو التربية؛ تلك التي تسمو بالإنسان أو تهوي به
وثمة إشارة وعلامة على أنك تسير على الدرب الصحيح، وهو أن ترى شجرة عملك قد أثمرت، وآتت أُكُلها، وأن ترى ثمرتها قد أينعت، وأطعمت أهلها؛ أي أن يكون عملك ذا فائدة وأثر في الناس، كالإنفاق والصدقة والخدمة، فإذا ما أثمر العمل في الناس فقد أثمر فيك وأثَّر، وضربت جذوره في أعماق شخصيتك، واستأنست به روحك
وثمة وسيلة عظيمة في إصلاح النفس تزكيةً وتربيةً وتهذيبًا، ألا وهي قراءة القرآن، أصدق الكلام وأعظمه، وأرشد الهدي وأحكمه، قراءة وتدبرًا وعملاً وامتثالاً
والعبد حين يجعل القرآن منهاجه، ويجعله هدايته ونبراسه وسراجه، ويتخذه قانونًا عمليًا، وواقعًا فعليًا، يعيش به، ويعيش له، وتستقيم أموره وحياته كلها عليه، حينها تكون نجاته محتومة، وبراءته مختومة، وآثار دسائس الشيطان فيه معدومة، عندها يرضى برضا الله تعالى ويسخط بسخطه، فتنفتح له أبواب التجليات، وسماء الانكشافات، وتنهال عليه شآبيب الألطاف الإلهية، ويرقى إلى حال الفتح، فيفتح الله تعالى عليه فتوح العارفين، وينفذ من عالم الشهود إلى عالم المشاهدة، ومن عالم الظاهر إلى عالم الباطن، ومن دنيا الماديات إلى أفق المعنويات؛ حيث التجليات والفيوضات، فيسمع ما لا أذن سمعت، ويرى ما لا عين رأت، ويدرك ما لم يخطر على قلب بشر، ويمسي الكون كلُّه أمامَ بصره وبصيرته كتاباً مليئًا بآيات الحكمة والعظمة
والقرآن والسنة معا هما دستور ذلك كله ومفتاحه، والسبيل إليه ومعراجه، بما يحمله من توجيهات وأوامر ونواه وعظات وأحكام وآيات
وثمة آيات كثيرة في قرآننا العظيم تتحدث عن تزكية النفس، والتزكية في هذه الآيات تقع في ثلاثة أقسام، وهي
تزكية الله تعالى
تزكية الرسول صلى الله عليه وسلم
تزكية المرء نفسه
تزكية الله تعالى
يقول الله تعالى في الآية الكريمة
(فلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النجم، 32)
وقد فسَّر الشيخ ألماليلي حمدي رحمه الله هذه الآية بقوله
«لا تُثنوا على أنفسكم بظنِّكم أن لا ذنب أو عيب فيكم، وأنكم طاهرون أنقياء، فكم من عيوبٍ موجودة فيكم وأنتم غير مطلعين عليها». (الدين الحق، 7، 4605)
أما الألوسي فيقول في تفسير هذه الآية
«نزلت -على ما قيل- في قوم من المؤمنين كانوا يعملون أعمالاً حسنة، ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا، وهذا مذموم منهي عنه إذا كان بطريق الإعجاب أو الرياء، أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به، ولا يعد فاعله من المزكِّين أنفسهم». (روح المعاني، 27، 64)
يقول المولى عزَّ وجل في آية أخرى
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) (النساء، 49)
والتزكية في هذه الآية هي عبارة عن سعي المرء لمدح نفسه، وإظهارها على أنها طاهرة، لكن التزكية الحقيقية منوطة بالتقوى، والتقوى هي صفة من صفات الباطن لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى؛ ولهذا لا تُقبل تزكيتنا لأنفسنا، بل تزكية الله تعالى لنا
وكان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم
«اللَّهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها». (مسلم، الذكر، 73)
ويقول عز من قائل
(...وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ َيُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور، 21)
في هذه الآية الكريمة المحكمة نجد بلاغة النص الحاسم القاطع في أن فعل التزكية منسوب إلى الله تعالى وحده، فهو الذي يزكِّي، وهو الذي يفتح لك الطريق للتزكية، وهو الذي يدعمك فيه، ويأخذ بيديك إليه سبحانه، وليست التزكية جهدًا خالصًا من نفسك، ولا عملاً متفردًا من إرادتك، ولا سموًا راقيًا من قلبك، فاحذر من الإعجاب بذاتك إذا أنت وجدت بعضًا من نتائج جهادك، فكل ذلك لا جدارة ولا دراية ولا هداية منك إليك، إنما هو توفيقه سبحانه، والخلاص الأبدي في الدنيا والآخرة هو أمر إلهي عبر توفيق الله لك بجهادك، وإرساله الأنبياء والمرسلين، وإمدادك بالأولياء والمرشدين، وهدايتك إلى ذاته العلية، برحمته الإلهية
تزكية الرسول صلى الله عليه وسلم
يوضِّح المولى عزَّ وجل مهمات النبي محمد صلى الله عليه وسلم في قوله
(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة، 151)
(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران، 164)
نفهم من هاتين الآيتين الكريمتين أن للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ثلاثَ مهمات هي
أ. تلاوة آيات الله على الناس
المهمة الأولى مشتقة من اسم صاحبها -الرسول- فهو الذي يحمل رسالة السماء إلى الأرض، ويبلغ كلام الله إلى عباد الله، فينقل آيات الوحي الإلهي إلى مسامع وأفهام وقلوب الناس، كمرحلة أولى وأساسية في تبليغ رسالته، وإرساء قاعدة رئيسية في مهمة نبوته
ب. تزكية الناس
وهي المهمة التالية للأنبياء والمرسلين، وتسبق دعوتَـهم إلى التوحيد والإيمان، إنها تزكية أنفسهم من أدران الشرك ومساوئ أخلاق الجاهلية، وتطهير قلوبهم من تعلقها بالأغيار، وعبادة ما دون الله أو الشرك به سبحانه، أو التصورات الخاطئة عن ذاته العلية، وبعد أن تطهر هذه النفوس والقلوب من علائق الجاهلية، يجد الخشوعُ سبيلَه إليها مع الطمأنينة بالإيمان، والأنس بصحبة أهل الإيمان، والسير في طريق الهداية في هدي النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل الصحابة الكرام الذين كانوا من قبل في جاهلية جهلاء وظلمة ظلماء، حتى جاءهم النور المبين، فأخرجهم من الظلمات، وأعطاهم البينات والآيات، فصاروا معجزات يضرب بهم المثل في المناقب حتى ارتقوا أعلى المراتب
ت. تعليم الكتاب والحكمة
وهي المهمة الثالثة والمرحلة التالية في توصيل الرسالة، فالنفوس التي تزكت، والقلوب التي تطهرت، تحتاج لما يملؤها ويهديها وينورها، ولا يملؤها مثل القرآن، كما أن القرآن لا يفقهه على حقيقته، ولا ينفذ إلى أعماق معانيه إلا قلب سليم طاهر
فهذا الكنز الثمين الذي لا يتناهى ولا ينفد مستودعه وخزائنه، هو كتاب الله المسطور (القرآن)، وكتاب الله المنظور (الكون)، والإنسان هو الذي يقرأ هذا وذاك، وتتجلى حكمة الكتابين وأسرارهما في قلبه، وبمقدار نضج قلبه وتزكيته يدرك هذه الأسرار ويسبر أغوارها
أما تعليم الحكمة فهي المرحلة الأخيرة من تلك المراحل، ومترتب عليها ومرتبط بها، فالآية الكريمة تربط العلم بالتزكية؛ بل تجعل التزكية أساسًا للعلم والحكمة، كما أن العلم لا طائل من ورائه ولا نفع منه دون الحكمة، وصاحبه كمن بلغ منتصف الطريق بين المنطلق والغاية، فلا هو أراح نفسه من عناء العمل، ولا هو واصل العناء ليبلغ الهدف، فلا ظهرًا أبقى ولا أرضًا قطع
ويبدأ الأنبياء & مهمتهم بقراءة كتاب الله، ثم يعملون على تطهير نفوس حوارييهم من أدرانها، ثم يعلمونهم الكتاب، وعندها تكون القلوب قد طهرت واستعدت لتعلم الحكمة، والاطلاع على أسرار الكون ومظاهر القدرة فيه
ويقول سيدنا عثمان رضي الله عنه في ذلك
«لو طهرت قلوبكم، لما شبعتم من كلام الله عزَّ وجل» (علي المتقي، كنز العمال، جـ2، 287/4022)
إن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم في قراءة الآيات، وتعليم الحلال والحرام ستستمر على يد العلماء، أما مهمة تزكية النفوس وتطهير القلوب فهي مهمة المرشد الكامل إلى يوم القيامة
تزكية المرء نفسه
يقول الله تعالى
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس، 7-10)
والحُكم في الآيات واضحٌ لا تأويل فيه، والحق فيها بيِّن حاسم لا مواربة فيه، مآل ومصير مَن عمل على نفسه وجعلها شغله الشاغل تربية وتهذيبًا، أو إهمالاً وتقصيرًا، فإما الفلاح، وإما الخيبة والخسران في الآخرة
ويبشِّر الله تعالى في الآية التالية عباده الذين سينالون السعادة الحقيقية
(فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر، 29-30)
ويقول الله عزَّ وجل في آية أخرى
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (الأعلى،14-15)
كما أن الترتيب الموجود في هذه الآية الكريمة يجذب انتباهنا، وهذا الترتيب هو كالتالي
أولاً تطهير القلب والبدن والمال من السيئات، وبهذا يزول حاجز الغفلة بين العبد وربه
ثم تزيين القلب باللذات الروحانية من خلال دخول العبد في حالة عبادة خاشعة تامة، ببدنٍ يتغذى على الطعام الحلال، وقلب ذاكر لله ذي الطَّول والجلال
ويعبِّر البورصوي عن ذلك في تفسيره قائلًا
«وفي الآية إشارة إلى تطهير النفس من المخالفات الشرعية، وتطهير القلب من المحبة الدنيوية، بل من ملاحظة غيره والتوجه إلى الله تعالى بقدر الاستعداد» (روح البيان، جـ10، 410)
وها هو ولي الله أبو بكر الكتَّاني -قدّس الله سره- يسألونه عن ماهية عمله في الدنيا، بينما هو مفارقها، طريح على فراش الموت، فيجيبهم واضعًا قواعد جليلة في كلمات قليلة
أما عملي، فما كنت لأذيعه عليكم خشية الرياء، لكن الوقوف على أعتاب الموت ما ترك للرياء بابًا، لقد أمضيت أربعين حولاً حارسًا أمينًا عند باب قلبي، وجاهدت ألا أفتح هذا الباب إلا لله سبحانه، فلما استوثقت من الباب لم يعد قلبي عارفًا إلا بالله تعالى
وكلمة «تَزَكَّى» الواردة في الآية السابقة فسَّرَها حبرُ الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بأنها قول «لا إله إلا الله»؛ إذ إن أول خطوة ومرحلة في التزكية هي تطهير القلب من الكفر والشرك، وكلمة التوحيد تبدأ بنفي الأغيار والآلهة التي تُعبد من دون الله تعالى من الأهواء والطبائع والشهوات وكل أوثان النفس، ثم بعد النفي يأتي الإثبات للّه تعالى وحده، بعد أن يتم تجهيز عرش القلب ليتربع عليه العظيم الأوحد
وما أروع ما قاله الشاعر في هذا المعنى
لا يتجلى الحق في فـؤادك ما لم تُخرج من قلبك الأغيارْ
فالسلطان لا يدخل قصره إلا بعد أن تبلـغ الدار غايـة الإعمارْ
وعن أهمية التزكية يقول إبراهيم الدسوقي قدس الله سره
«يا بُني، لا تغتر بعبادتك مهما بَلَغَت، ولا بسريرتك مهما طهرت، ولا تُعجَبَنَّ بذاتك مهما نلت من الحق تعالى معاملة خالصة، فللنفس حِيَلٌ لا تنتهي، ولها غرور لا ينفد، فكم من درويش غرته نفسُه حتى أهلكته شهواتُه»
ويقول الشيخ العالم حاتم الأصم قدس الله سره
«لا تغتر بموضعٍ صالح، فلا مكانَ أصلح من الجنة، وقد لقي آدم عليه السلام فيها ما لقي، ولا تغتر بكثرة العبادة، فإن إبليس بعد طول تعبده لقي ما لقي، ولا تغتر بكثرة العلم فإن بلعام كان يحسن اسم الله الأعظم فانظر ماذا لقي
وكم من آية كريمة يحذِّر فيها ربنا الرحيمُ عبادَه من حيل الشيطان ومكائده
(قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف، 16)
(قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (الحجر، 39)
ولا تغتر برؤية الصالحين، فلا شخص أكبر قدرًا من المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم ينتفع بلقائه أقاربُه أو أعداؤه». (القشيري، الرسالة، جـ1، 257)
والأمثلة على ذلك تترى
فها هو ابن نبي؛ يأوي إلى الجبل ولا يأوي إلى رب الجبل؛ يستغني عن نبوة أبيه وسفينة أبيه، فيكون من الهالكين
وها هي امرأة نبي، لم تركن إلى دعوة زوجها لوط، ولا إلى فيوضات رب لوط، فكانت عاقبتها عاقبة قوم لوط
استغنى هؤلاء جميعًا عن الحق، فأعرض الحق عنهم، رغم أنهم كانوا إلى كنفه أدنى، وإلى ساحته أقرب، لكن قرب المكان لا يُعتد به إذا لم يكن قربٌ في المكانة، وأنسٌ في القرب، وشعورٌ في القلب
فلا زوج ولا ولد، ولا أب ولا معين ولا سند، ولا ينفع في النجاة أحد، إلا الواحد الأحد
فمن تجاوز عقبة نفسه، ونجا من غوايتها فقد أدرك النجاة، وأدركه الفلاح، ومن وقع في براثنها، واشتبك في حبائلها فقد ضل طريق النجاة، وصار من المهلكين
ويقول المولى سبحانه في الآية الكريمة
(إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (فاطر، 18)
والتزكي في هذه الآية يحمل أيضًا معنى الصلاة الخاشعة والعبادات الخالصة للّّه، وقبله تحذير بالخشية، وإنذار بالمراقبة، كما تلقي الآية المسؤولية عليك وحدك، وتلزمك طائرك في عنقك، فتزكيتك لا تنفع أحدًا سوى نفسك، وعملك الصالح لا يفيد أحدًا سواك
وتوضح آية (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) أنَّ من يصل إلى العلم الحقيقي، ترتعد فرائصه خشية من الله تعالى، أما من لا يعرف ربَّه، ولا يخشاه، فقلبه ميِّت، ولا يؤثر التنبيه ولا النصيحة في مثل هؤلاء الأشخاص، والآية السبعون من سورة يس تفيد المعنى نفسه (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا...)، وهذا يعني وجوب الخشية في الباطن، والصلاة الصحيحة في الظاهر
والآية التالية تبيِّن أن من يتطهر من الذنوب، فجزاؤه الجنة والدرجات الرفيعة
(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى . جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) (طه، 75-76)
أَوَتدري أيها العبد المخلص ما جزاء الحب الخالص، وما هو رد المحبوب على حبيبه الوفي؟ إنه جزاء أعظم من الجنة، وأرفع من الفردوس الأعلى، وأحسن من الحسنى، فمن تعلق قلبُه بالله وحده، ولم ينشغل بسواه سبحانه، وأخلص الحب له، والشغف به، والسكون الدائم إليه، والركون والتوكل الحق عليه؛ كان جزاؤه من الله يوم القيامة النعمة العظمى بالنظر إلى وجه الله تعالى، والتمتع بجماله، والانبهار بجلاله، فلا كلمات تعبر عن مقدار الجزاء، ولا بلاغة تومئ إلى عظمة الأجر
وما من امرئ يتوجه إلى الله تعالى حق التوجه بإرادته واختياره، إلا انقطعت جميع أفكاره بغير الله عزَّ وجل وزالت همومه، وتبدأ معرفة الله تعالى بإدراك حقيقة النفس بعد تزكيتها، وهذا هو المعنى الحقيقي لعبارة «من عرف نفسه، عرف ربه
لكن من الذي يُعَرِّفك نفسك؟ ومن الذي يقودها إلى الفلاح؟ ومن الذي تأمن فيه علمه وتجربته وتقواه وقدرته على القيادة؟ وأين نجد هؤلاء النورانيين في دنيا الظلام، وأين نجد أهل الحق في عالم الأوهام؟
إنهم هاهنا؛ أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، سواء من كان منهم حيًا، أو من انتقل إلى كنف ربه، ولنا في سيرتهم ومآثرهم امتداد نور الهداية، وطوق النجاة في بحر الغواية
وهم كثير قد لا يفطن بعض الناس إليهم، لكن التاريخ لا يغفل ذكرهم، من هؤلاء السلاطين في دنيا الظاهر والباطن، السلطان سليم الأول، وهذا الموقف ذو الدلالة العظيمة
يعود السلطان سليم فاتح مصر والشام من فتوحاته المظفرة، وقبل دخول عاصمته -إسطنبول- يعلم بالحشود الهائلة من شعبه تستعد لاستقباله في فرحة عارمة، تملؤهم مشاعر الفخر والفرح بسلطانهم الفاتح وجيشه المظفر، فإذا بالسلطان الذي هزم الجيوش وأزال العروش يخشى على نفسه من الهزيمة أمام جحافل الفخر والعجب والغرور، فيأمر على الفور جيشه بالتوقف خارج المدينة عند سفوح (شامليجه) ويلجأ إلى مرشده ومربيه «حسن جان» قائلاً
«لقد رأيت ألا أدخل المدينة إلا في جنح الظلام، بعد أن تنفض الجموع، ويأوي كلٌّ إلى داره، فإني أخشى أن تهلكنا عبارات المدح والثناء، ويصيب نفوسنا من إعجابهم البلاء»
وبالفعل يلج السلطان وجيشُه عاصمته في ستر الليل، هروبًا من أضواء الانبهار، وخوفًا من تحية الانتصار، لقد كان حذر السلطان على نفوس جيشه أشدَّ من حذره من عتاد أعدائه وجيوشهم، لقد كانت معركة «شامليجه» أشد خطرًا في أعين السلطان وفكره من وقائعه في مرج دابق والريدانية
لقد كانت سلطنته على نفسه أجدر من سلطنته على الدولة والجيش والأعداء
ويوضح بيته الشعري التالي أن الإرشاد على يد أحد الأولياء الصالحين أكثر قيمة من حكم الدنيا وما عليها
ليس الخير في كون المرء سلطانًا على الدنيا
بل الانتساب إلى ولي يوصلك إلى الدرجات العليا
وفي دنيا التصوف وعلم الروحانيات ما يسمى «التفحص الباطني» أو ما يعرف في الأوساط التربوية باسم «محاسبة النفس»، وهو أمر يجب على كل مسلم أن يعتاده، حتى يصبح ديدنه في كل وقت، وعادته في كل مساء حين يخلد إلى النوم، وتنكفئ عنه زخارف الدنيا، فيحادث نفسه ويحاسبها، ويجادلها في أفعالها، ويقرعها على أخطائها، ويزجرها عن إصرارها، حتى تخفَّ أثقالها، وتبرأ من أدرانها
ولنستمع هنا إلى نصيحة الإمام أبي حامد الغزالي بأذن واعية
فإذا أصبح العبد وفرغ من فريضة الصبح، ينبغي أن يُفرِغ قلبَه ساعةً لمشارطة النفس، كما أن التاجر عند تسليم البضاعة إلى الشريك العامل يفرغ المجلس لمشارطته، فيقول للنفس: ما لي بضاعة إلا العمر،فإن فني فقد فني رأس المال، ووقع اليأس عن التجارة وطلب الربح، وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه، وأنسأ في أجلي، وأنعم علي به، ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يومًا واحدًا حتى أعمل فيه صالحًا، فاحسبي أنك قد تُوفِّيْتِ، ثم قد رُدِدتِّ، فإياك ثم إياك أن تضيعي هذا اليوم، فإنَّ كل نفس من الأنفاس جوهرة لا تعدلها قيمة
واعلمي يا نفس أن اليوم والليلة أربعٌ وعشرون ساعة، وقد ورد في الخبر أنه ينشر للعبد بكل يوم وليلة أربع وعشرون خزانة مصفوفة، فيفتح له منها خزانة، فيراها مملوءة نورًا من حسناته التي عملها في تلك الساعة، فيناله من الفرح والسرور والاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار التي هي وسيلته عند الملك الجبار، ما لو وزع على أهل النار لأدهشهم ذلك الفرح عن الإحساس بألم النار، ويفتح له خزانة أخرى سوداء مظلمة يفوح منها نتنها، ويغشاه ظلامها، وهي الساعة التي عصى فيها، فيناله من الهول والفزع، ما لو قُسِّم على أهل الجنة لتنغص عليهم نعيمها، ويفتح له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسره ولا ما يسؤه، وهي الساعة التي نام فيها أو غفل أو اشتغل بشيء من مباحات الدنيا، فيتحسر على خلوها، ويناله من غبن ذلك ما ينال القادر على الربح الكثير والملك الكبير إذا أهمله وتساهل فيه حتى فاته، وناهيك به حسرة وغبنًا
وهكذا تعرض عليه خزائن أوقاته طول عمره، فيقول لنفسه: اجتهدي اليوم في أن تعمري خزانتك، ولا تدعيها فارغة عن كنوزك التي هي أسباب ملكك، ولا تميلي إلى الكسل والدعة والاستراحة، فيفوتك من درجات عليين ما يدركه غيرك
وللنفس التي تجاهد على التزكي والتطهر جنود يساعدونها، وأعوان يؤازرونها، فهذا البدن وجوارحه أمانة منحها الله تعالى للإنسان، وحدد لها مهمتها ووظيفتها، فمن وضعها في غير موضعها واستخدمها لغير أغراضها، فقد ضيع الأمانة، وأهدر الفرصة التي لن تعوض
فالعين تغض بصرها عن المحرماتِ وكلِّ ما يشغلها عن النظر إلى آيات الله تعالى في الكون، فهي التي تُدخل على القلب الشواغل بغير الله
واللسان الذي باستطاعته أن يورد صاحبه المهالك بما يحمله من آفات يجب أن يُمنع من مزالق الشيطان كالغيبة والكذب والزور، والذم والنفاق، ويستخدم فيما يرضي الله تعالى من الذكر والخير
والمعدة وهي بيت الداء ومستودع الطعام، وأصل البِطنة التي تُذهب الفطنة، إذا أُطعمت من حلال فتحت لك بابًا إلى السماء لا يُغلق، وكنت مُستجاب الدعوة
وهكذا كل الأعضاء والجوارح؛ خلق الله لها القدرة على فعل الحلال والمباحات، فمن اكتفى بالحلال، واحترز عن المحرمات، ولم يشغلها بما دون ذلك، كان على الهدي النبوي القائل
«من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»
فمن أنفق جهده وأتعب جوارحه فيما يملأ خزائن حسناته، كان هو الحصيف الذي يستحق الفوز المبين؛ أما من أضاع جهده، وأفنى جوارحه في مباحات لا تغني ولا تسمن من جوع فقد أنفق كنزه فيما لا يجدي، وبعثر خزائنه فيما لا يغني
ولا تغفل -أيها المحاسب نفسه- حين تحاسبها أن تدقق وتمحص في معرفة غايتها، هل تعمل النفس أعمالها لله وحده، أم لحظ النفس وحده؟ هل غرَّها الشيطان، وألبس عليها المفاهيم والظنون، فأحسَّت بالرضا والركون إلى عملها والسداد فيها، فبعدت عن الغاية، وتعكر إخلاصها؟
*
وهناك حالات ثلاثة يمكننا رؤيتها أثناء تزكية النفس وصولاً إلى «القلب السليم»، وهي
حالة أهل التقوى، وهي الحالة التي لا يؤذي القلب فيها أحدًا، فتقيه أخلاقه عن شرور النفس، وتحجزه عن إصابة الناس ببلواها
حالة أهل المحبة، وهي الحالة التي لا ينالهم الأذى من أحد، فلا مديحُ الناس يغرُّهم، ولا الأحوال تغريهم، ويقول الشاعر معبِّرًا عن هذه الحالة
أيها العاشق، غاية كُل عاقل في هذه الدنيا
أن لا يؤذي أحدًا ولا يتأذَّى من أحد
حالة أهل الإخلاص، وهي الحالة التي يضع فيها المسلم رضا ربه نصب عينيه، ويترجح عنده أمر الآخرة، مهما لقي من معارضات منافع الدنيا
وخلاصة ما ذكرناه
لقد جعل الله تعالى النفسَ عائقًا أمام كل إنسان في هذه الدنيا، التي ما هي إلا امتحان أراده الله تعالى، وأمرَ الإنسان بالأوبة إلى خالقه من خلال الانتصار على المصاعب التي تضعها النفس، وجعل النفس أداة بيد البشر فقد تكون وسيلة للخير أو الشر، أي قد تكون بابًا للفوز أو هاوية يلقى فيها الإنسان غيًّا إذا ما أتبع النفس هواها؛ أما بركة تزكية النفس، فأمر عظيم لا يمكن مقارنته بأي شيء في هذه الدنيا
اللّهم اجعلنا ممن يتغلَّبون على أهواء أنفسهم
آمين