تطهير القلب

تحدثنا من قبل عن القلوب وأنواعها وحالاتها، وهاهنا نكمل الحديث عن الشروط الضرورية والصفات الأساسية والمزايا اللازمة لهذه القلوب كي تتدرج في رقيها، فتصير قلوبًا سليمة ومنيبة ومطمئنة، وكي تحارب الآفات وتعالج الأمراض التي قد تصيبها، وكي تتجنب الانزلاق في مهاوي دركات القلوب المختومة بالحرمان. وهذه الشروط هي

أ. الطعام الحلال

ب. الاستغفار والدعاء

ت. قراءة القرآن واتباع أحكامه

ث. الخشوع في العبادة.

ج. إحياء الليل

ح. ذكر الله تعالى ومراقبته

خ. محبة الرسول صلى الله عليه وسلم والإكثار من الصلاة عليه

د. التفكر في الموت

ذ. صحبة الصالحين والصادقين

ر. التحلي بالأخلاق الحميدة

ولْنقف الآن على كل شرط منها نتأمله مليًا، وندرك أهميتَه وعُمْقَ أثره، لنتمكن من العمل بهمة ومثابرة ودقة على تطبيقه

الطعام الحلال

              يقول إبراهيم الدسوقي قدس الله سره

              «يا إخوتي، لن تنالوا الحكمة والمعرفة طالما أنكم تأكلون الحرام»

إن البدن الذي يؤدي العبادات ويقوم بالطاعات يستمد قوته وقدرته من الغذاء المادي والغذاء المعنوي؛ ذلك الغذاء الذي تنعكس طاقته الإيجابية أو السلبية على الجسد وعلى القلب وعلى العبادات والطاعات، فإذا كان الغذاء والطعام حلالاً طيبًا، انعكست الفيوضات والرحمات على البدن والقلب، وإذا كان الغذاء والطعام حرامًا خبيثًا انعكست الغفلة والقسوة والثقل على القلب والجسد وسائر أفعالهما

وثمة ارتباط وثيق بين الحلال الكامن في الطعام والإخلاص والقبول الكامن في العمل الصالح، وعلى سبيل المثال فإن الدعاء لا يُرفع إلا بطعام حلال

وقد وضَّح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر حين قال

«أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم) (المؤمنون، 51) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة،172 ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟» (مسلم، الزكاة، 65؛ الترمذي، تفسير القرآن، 3)

ويقول محمود سامي رمضان أوغلو -قدس الله سره

«إن الشرط الأول في قبول دعاء العبد هو إصلاح القلب باللقمة الحلال، والشرط الأخير هو إخلاص القلب وحضوره، أي التوجه إلى الله تعالى توجُّهًا تامًّا، فإذا لم تكن اللقمة في الفم حلالاً، فمن الصعب أن يكون هذا العبد مخلصًا حاضرًا، متوجهًا لله تعالى، تاركًا لما سواه»

وأولياء الله تعالى يدركون تمام الإدراك مدى خطورة المأكل الحرام، وما يترتب عليه من الأفعال والأقوال، وفي القاعدة التالية تجد مدى الحساسية الراقية في ذلك التحذير، يقولون

«انتبه لما يدخل في فمك حين تأكل، ولما يخرج منه حين تتكلم»

ويضع لنا الهادي الأمين صلى الله عليه وسلم الخطوط الفاصلة للحلال والحرام، ويضع معها الحدود التي تتقي بها الحرام، بل تتوقى مجرد الاقتراب منه، ويضرب لنا مثلاً حيًا مبسطًا ليشرح القضية برمتها، فيقول في الحديث الشريف

«الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مُشبَّهات لا يعلمها كثير من الناس، فمنْ اتَّقى المشبَّهات، استبرأ لدينه وعرضه، ومنْ وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحمى، يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه» (البخاري، الإيمان، 39)

إن القلوب التي أشبعها الحلال، ورواها الرضا برزق الله تعالى، وأقنعها الاستسلام لقضائه، ولم تتطلع إلى ما وراء الحلال من شبهات أو محرمات أو شهوات- تلك القلوب التي حافظت على نقائها الأول، وفطرتها الأجمل- تمسي مهبطًا للفيوضات، وموئلاً للحكمة والتجليات، أما تلك القلوب التي أظلمت أعماقها، واستمرأت الحرام، فتمسي مهبطًا للشياطين وراية لعداوة الحق والدين

ونسوق إليك بعض الأمثلة والقصص التي تدل على مدى حساسية أهل الإيمان والقلوب في معالجة هذه الأمور بدقة متناهية وحذر شديد

عن زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكر غلام يغل عليه، فأتاه ليلة بطعام فتناول منه لقمة، فقال له المملوك: ما لك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة؟ فقال: حملني على ذلك الجوع، من أين جئت بهذا؟ قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت لهم فوعدوني، فلما أن جاء اليوم مررت بهم، فإذا عرس لهم فأعطوني، فقال: أفٍ لك، كدت تهلكني، فأدخل يده في حلقه وجعل يتقيَّأ، وجعلت لا تخرج، فقيل له: إن هذه لا تخرج إلا بالماء، فدعا بعس ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها، فقيل له: يرحمك الله كل هذا من أجل هذه اللقمة؟ فقال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

«كل جسد نبت من سحت، فالنار أولى به»

فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة

وإليك أيضاً دقة وحساسية وحذرًا أشد في التعامل مع الطعام؛ إنه الحديث الذي دار بين سيدنا الخضر عليه السلام وعبد الخالق غجدواني -قدس الله سره- أثناء زيارة الخضر عليه السلام لولي الله هذا

فقد قدَّم شيخنا غجدواني رغيفَي خبز للخضر عليه السلام، لكنه لم يأكل منهما، فقال عبد الخالق غجدواني -قدس الله سره

«إن هذا الطعام طعام حلال، فلِمَ لا تأكلون منه؟»

فأجابه الخضر عليه السلام

 «نعم، إنه طعام حلال، ولكن من عَجَنَ العجين لم يكن متوضِّئًا، فليس لي حقٌّ أن آكله»

 لقد تخطى هؤلاء الأطهار الأبرار مرحلة الحلال في الطعام إلى مرحلة الحلال في شعور منْ صنع الطعام، وفي الأحوال التي تحيط بالمسألة كلها؛ رقةً ودقةً ورقيًا

وكان الشيخ نقشبند رحمه الله يفر من ريب الأمور، ويتحرى الحلال في طعامه، ودائمًا يردد في نفسه، ويقرأ على طلابه الحديث الشريف

«العبادة عشرة أجزاء: تسعة منها في طلب الحلال»، ويحث طلابه على العمل بذلك

وحرصًا منه على تحري حلال الطعام، وحلال الحال الذي صنع فيه الطعام كان رحمه الله يزرع بيديه الشعير والمشمش وبعض الخضراوات، وهو على حذر شديد إذ يتوخى الحلال في كل ما يستخدمه للزراعة سواء أكانت الأرض أم الحيوانات أم الآلات، بل حتى البذور والمياه

لذا فقد كان كثير من العلماء حريصين على التوافد إلى مجلسه للتبرك بحلال طعامه

وقد سأل أحد علماء بخارى الشيخَ نقشبند يومًا

 «كيف يحضر القلب في الصلاة؟»

فأجاب الشيخ:  «حضور القلب يبدأ من اللقمة الحلال التي تطعمها وأنت تتفكر في نعم الله عليك، ثم بيقظة القلب عند الوضوء حتى تصل إلى التكبيرة الأولى عندها يبدأ حضور القلب في الصلاة

وقال مرة لأحد طلبته حين اشتكى من فقد روحانيته التي كان فيها

«اذهب وفتش عن لقمتك التي تتناولها أحلال هي أم لا!»، وحين ذهب ذاك الطالب وبحث، اشتبه بقطعة من الحطب في موقد الطعام، فتَاب

وبلغ من حرص الصالحين في مصلحة تحري الحلال في الطعام أنهم كانوا يشترونه من السوق سرًا، وينقلونه إلى بيوتهم خفية، كي يصونوه عن العيون التي تنظر، والنفوس التي ترقب الطعام فتصيبه بأحقادها وحسدها واشتهائها؛ حرصًا من هؤلاء الصالحين على كل لقمة في الطعام الذي يستمدون منه طاقتهم للعبادة، ومصدرهم للحلال

وثمة أمر آخر مهم يُضاف إلى ذلك كله، وهو التوازن في استخدام الحلال، وعدم الإسراف في استعماله، يقول الله تعالى في الآية الكريمة

(وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء، 26-27)

ويوضِّح مولانا جلال الدين الرومي في كتابه (المثنوي) بأسلوب مجازي تأثيرَ اللقمة الحلال في البدن والروح فيقول

«لقد تجلى علينا الإلهام بصورة مختلفة ليلة أمس، لأن بعض اللقيمات المريبة التي نزلت في المعدة سدَّت طريق الإلهام. إن الطعام المشبوه الذي تطلبه النفس يمنعك عن طريق الحق تعالى، فهو كالأشواك التي دخلت في قدميك، لهذا يمسي من لا يتحرى لقمته من العصاة.أيها البدن، إن فيك وردة غاية في الجمال إذا ما حافظت عليها، فستظهر من الروائح الزكية التي تنبعث من تلك الوردة حديقةُ عرفان ومعرفة لا حدَّ لها

ويشير عبد القادر الجيلاني  إلى أهمية اللقمة في تطهير القلب

«انتبه يا بُني! الطعام الحرام يُميت القلب، ثمة لقمة تنير قلبك وأخرى تُظلِمه؛ وثمة لقمة تشغلك بالدنيا وأخرى تشغلك بالآخرة؛ وثمة لقمة تجعلك زاهدًا في الدنيا والآخرة وأخرى توجِّهك إلى خالق الدنيا والآخرة

إن الطعام الحرام يشغلك بالدنيا ويُحبِّب إليك المعاصي، أما الطعام المباح فيشغلك بالآخرة ويُحبِّب إليك الطاعات، ويُقرِّبك من المولى تبارك وتعالى

ولا يمكن معرفة ماهية الطعام وتأثيره إلا بمعرفة الله حين تستقر في القلب، لا في الدفتر والكتاب. والمعرفة الإلهية هي إحسان للقلب من الخالق لا من المخلوق، وهي تتحقق بعد توحيد الله والعمل بأحكامه

ويقول إبراهيم الدسوقي: «يا إخوتي، لا تظنوا أنكم ستنالون شيئًا من الحكمة والمعرفة طالما أنكم تأكلون الحرام

وكم هو مثير الحديث الذي دار بين عبيد الله أحرار والسيد قاسم التبريزي  حول الطعام الحلال؛ يقول شيخنا عبيد الله أحرار

قال لي السيد قاسم يومًا: «يا بُني، هل تعلم لماذا تبدو الحكمة والحقيقة قليلة في زماننا؟ لأن تطهير الباطن في عصرنا قليل جدًا، الكمال هو في تطهير الباطن، وتطهير الباطن يكون بأكل اللقمة الحلال، واللقمة الحلال في عصرنا هذا قليلة جدًا، وكأنه لا يوجد إنسان طاهر الباطن...إذًا، كيف تريد أن تتجلى الأسرار الإلهية في مثل هذه الأحوال؟