تواضع نبي الرحمة
إن المديح والثناء منبعُ الغرور، ومن عِلل طغيان المرء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لصحابته
«...قولوا عبد الله ورسوله»
مع أنه أشرف الخلق، وهو الذي أثنى عليه الله جلَّ وعلا
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصِرُّ على أن يذكُرَ صحابتُه لفظَ: «عبدُه» كما في قولهم:«أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله»، كي لا تقع أمته في الضلال الذي وقعت فيه الأمم السابقة حينما ألَّهت البشر، ويقول
«لا ترفعوني فوق حقي، فإن الله تعالى اتخذني عبدًا قبل أن يتخذني رسولًا»
والحق أن أولئك الذين ألَّهوا بوذا وكريشنا ، ولم يترددوا في جعل سيدنا عيسى ابنًا لله -وحاشا أن يكون له ابن-، وأولئك الذين عبدوا فرعون ونمرود، وأشقياء الناس الذين سجدوا للحيوانات أو عبدوا القوى الطبيعية مثل النار والماء والهواء، كلهم لو أدركوا حقيقة نبيِّنا محمد حقَّ الأدراك، لرأوا فيه «إلهًا» بلا ريب
لذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول عن نفسه
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}
وكان عليه الصلاة والسلام يوضِّح عجزه الدائم في حضرة المولى سبحانه وتعالى، إذ قال
«لن يُنجِّيَ أحدًا منكم عملُه»
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟
قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة»
أي إنه ما لم يتنزَّل عليه رحمة الله تعالى ومغفرته وكرمه وفضله، فلن يدخل الجنة، ولن ينجو بأعماله الصالحة
فما أعظم هذا التنبيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنبيهٌ يحمل بين طيَّاته شعورًا بالعبودية لله والتواضع والاستقامة والصدق
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أنه قال
«كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، يكثر الذكر، ويُقصِر الخطبة، ويطيل الصلاة، ولا يأنف، ولا يستكبر أن يذهب مع المسكين والضعيف حتى يفرغ من حاجته»
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال
«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، ولقد كان يوم خيبر ويوم قريظة على حمار خِطَامه حبل من ليف، عليه إكافُ ليف»
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه، فيدخل الغريب فلا يعرف النبي إن لم يسأَل عنه
ولما سُئِلَت عائشة رضي الله عنها، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في البيت، قالت
«كان يكون في مهنة أهله، فإذا سمع الأذان خرج»
«كان بشرًا من البشر يَفْلِي ثوبه، ويحلُبُ شاته، ويخدم نفسه»
«كان يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم»
*
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرَ مثال للفطرة الحسنة في الإنسان بصدق معاملاته وتواضعه، فلم يكن سلوكه سلوكًا شكليًّا متصنعًا، بل كان أساسه الخِصال والشمائل الحميدة الكامنة في قلبه الطاهر المُطهَّر الذي لا مثيل له
يقول عدي بن حاتم
«قام النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه، إذ لقيَتْه امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته، فوقف لها طويلًا تكلمه في حاجتها، فقلت في نفسي: والله ما هذا بمَلِك، ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بي بيته، تناول وسادة من أدم محشوة ليفًا، فقذفها إلي، فقال: اجلس على هذه، قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: بل أنت، فجلست عليها، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم بالأرض، فقلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال: "إيه يا عدي بن حاتم! ألم تك ركوسيًّا ؟" قلت: بلى. قال: "أولم تكن تسير في قومك بالمرباع ؟" قلت: بلى، قال: "فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك"، قلت: أجل والله، وعرفت أنه نبي مرسل، يُعَلَّمُ ما يَجْهل »
فكلُّ هذه الوقائع والأحداث توضِّح خير توضيح شخصيةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم السامية وجِبِلَّته الطيبة
وعن عامر بن ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف بالبيت، فانقطع شسع نعله، فأخرج رجل شسعًا من نعله ، فذهب يشده في نعل النبي صلى الله عليه وسلم فانتزعها وقال: «هذه أَثَرَة، ولا أحب الأَثَرَة»
ولم يكن نبي الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يهدي الناس وينير لهم طريق السعادة السرمدية يرجو أي منافع دنيوية، بل كان يستغني عن أمور الدنيا كلها