جعفر الصادق رحمه الله - 2
يقول جعفر الصادق رحمه الله
لا تصحب خمساً
الكذاب: فإنك منه على غرور، وهو مثل السراب يقرِّب منك البعيد، ويبعد منك القريب
والأحمق: فإنك لست منه على شيء، يريد أن ينفعك فيضر بك
والبخيل: فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه
والجبان: فإنه يسلِّمك ويفر عند الشدة
والفاسق: فإنه يبيعك بأكلة أو أقل منها، قيل: وما أقل منها؟ قال: الطمع فيها ثم لا ينالها" (الغزالي: إحياء علوم الدين، 2، 172)
وجاء في الحديث الشريف
المرء على دين خليله فلينظر أحدكم إلى من يخالل (أبو داود: الأدب، 16/4833)
لا شك أنه ليس لأحد الخيرة في أبيه وأمه، والمحيط الذي يولد فيه. ولكن صداقته مع الآخرين من اختياره، فهو مسؤول عن اختياره هذا. والإنسان يخضع لتأثير أصدقائه في أحواله وأخلاقه، ويؤسِّس شخصيته وطباعه على ضوء هذه التأثيرات، وأكثر الناس يُسَاقون سواء إلى الطريق الصحيح أم نحو السلوك المعوج بتأثيرٍ من أصدقائهم، لهذا فإن تأسيس الصداقة مع أناس مبتلين بضعف أخلاقي وإلقاء المودة إليهم يفسد الحياة المعنوية
ويلفت جعفر الصادق رحمه الله انتباهنا إلى هذه الحقيقة، إذ يحذِّرنا من الاقتراب من ذوي الأخلاق الفاسدة والسلوك المشين والاختلاط بهم، ويستثني من ذلك حالة واحدة وهي مخالطتهم بقصد دعوتهم إلى الإيمان وإبداء النصح والإرشاد إليهم. لأن المخالطة وحال الأنس مع أمثال هؤلاء تساعد على انتشار الخصال السيئة والأهواء النفسية بسهولة، ويكون تأثيرها على حسب ضَعْفِ إيمان الشخص، ومن أكبر مخاطر هؤلاء صفة الكذب
لهذا فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الشريف
إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صدِّيقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب، حتى يكتب عند الله كذاباً" ( البخاري: الأدب، 69)
والصدق صفة عظيمة، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في معرض حديثه عن الحساب يوم القيامة
{هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} (المائدة: 119)
فالصدق صفة ملازمة لشخصية المسلم، لا تفارقه، حتى إن المشركين كانوا يصفون نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام قبل البعثة بـ"الأمين" عوضاً عن اسمه، ويصفونه بالصادق، لأن الأمانة والصدق كانتا من طبيعة شخصيته، وصفتان ملازمتان له في سلوكه
سُئِل النبي عليه الصلاة والسلام: أيكون المؤمن جباناً؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "نعم". فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: "نعم". فقيل له: أيكون المؤمن كذاباً؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "لا". (موطأ الإمام مالك: الكلام، 19. البيهقي، الشعب، 4، 207)
فالمؤمن غير معصوم عن الخطأ والانزلاق نحو المعاصي لطبيعته البشرية، ومع ذلك فإنه مهما تعرض لمواقف صعبة، وجارت عليه الظروف في الحياة، عليه الابتعاد عن الكذب، ولا ينبغي التخلي عن الاستقامة والصدق تحت أي ظرف. لذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يخرج عن الحق وقول الصدق حتى في مزاحه، ولقد بلغ درجة عالية في قول الحق والصدق حتى إنه لمَّا سمع يوماً امرأة تنادي صغيرها قائلة: تعال إلي وانظر ما الذي سوف أعطيك إياه! سألها: "وما أردت أن تعطيه"؟ قالت: سوف أعطيه بعض التمر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام
أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كُتِبَت عليكِ كذبة" ( أبو داود: الأدب، 80/4991؛ الإمام أحمد: مسند، 3، 447)
وينبغي ألا يغيب عن بالنا بأن الرجوع بالعهد، والإخلاف بالوعد، والخداع، والاحتيال، وغيرها من الصفات الذميمة، لا تفسد أخلاق الإنسان فقط، وإنما تؤثر سلباً في إيمانه. وفي ذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام
لا إيمان لمن لا أمانة له" (الإمام أحمد: مسند، 3، 135)
وقد أشارت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها إلى تأثير معصية الكذب في الفساد المعنوي الذي ينجم عنها في حياة الناس، إذ قالت
ما كان خلق أبغض إلى النبي عليه الصلاة والسلام من الكذب، وما اطلع منه على شيء عند أحد من أصحابه فيبخل له من نفسه حتى يعلم أن أحدث توبة" ( ابن سعد: 1، 378)
من معاني كلمة "المؤمن" التي تُطلَق اسماً مشتركاً على جميع مَن يؤمنون بالله الإيحاءُ إلى الناس بالثقة والأمانة، وأن من يتسمى بهذا الاسم هم أهلٌ للصدق والائتمان
وانطلاقاً من هذا الأساس ينبغي ألا يغيب عن بالنا بأننا أمة النبي الذي سُمِّيَ بالصادق الأمين حتى قبل نزول الوحي وتكليفه بمهمة النبوة، وعلينا اتخاذه قدوة لنا في كل القيم الأخلاقية التي كان يمثلها. لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال
المرء مع من أحب" (البخاري: الأدب، 96)
وهذه المعية ليست بالظاهر فقط، وإنما اتباعٌ للمحبوب في العمل والأخلاق. لهذا علينا التذكر دائماً بأننا بوصفنا مؤمنين ممثِّلون للأخلاق النبوية الحميدة التي اتصف بها نبينا عليه الصلاة والسلام، وعلينا السير وفق منهاج هذه الأخلاق الإسلامية لإظهارها وتطبيقها على أرض الواقع. وعلى المرء ألا يكتفي بالالتزام بمبادئ الصدق والاستقامة، وإنما عليه الانتباه في اختيار الأصدقاء والأصحاب ممن يتصفون بهذه الأخلاق الحميدة
أما الصنف الثاني من الناس الذي حذَّرنا جعفر الصادق من مصاحبتهم فهو صنف "الحمقى"، لأن الأحمق يضر بصديقه دون الشعور بذلك، وهو يظن أنه ينفعه. فحال الأحمق تشبه تماماً القصة التي يرويها لنا أحد الأولياء الصالحين: في أحد الأيام خرج رجل بصحبة عيسى عليه السلام، وبينما هم سائرون أبصر الرجلُ بعض العظام على قارعة الطريق، فقال لسيدنا عيسى عليه السلام متوسلاً
يا عيسى، علمني الاسم الأعظم الذي تعرفه حتى أبعث هذه العظام إلى الحياة
فأجابه سيدنا عيسى عليه السلام
إن هذا العمل ليس من شأنك، إن من يحيي العظام ويبعث فيها الحياة بقراءة الاسم الأعظم ينبغي أن يكون صاحب قلب ونفس أصفى من ماء المطر، ومتعبد لله تعالى أكثر من الملائكة. والاسم الأعظم يتطلب فماً لم يذق لقمة من الحرام أو شبهة حرام، وقلباً مخلصاً صافياً من كل شبهة تبعده عن الله عزّ وجل، أي أن يكون هذا الإنسان صاحب نفس طاهرة لم تتلوث بلقمة من حرام، ومطيعاً لربه سبحانه وتعالى بعيداً عن المعاصي والآثام مثل الملائكة. لأن الدعاء لا يُقبَل ممن لا يتمتع بنفس طاهرة
ولنضرب لذلك مثالاً، إنك تستطيع الإمساك بعصا موسى عليه السلام بيديك، ولكن أتملك قوة موسى لتقلب العصا إلى حية... والذي تسألني عنه مثل ذلك، فما تنفعك قراءة الاسم الأعظم إن لم تمتلك نفساً كنفس عيسى؟
إلا أن الرجل الغافل لم يتوقف عند هذا الحد، بل قال لعيسى عليه السلام
يا عيسى، إن لم تكن لي تلك القدرة، فاقرأ أنت على هذه العظام
فازدادت حيرة عيسى عليه السلام أكثر من كلام هذا الأحمق، وقال
أي رب! ما حكمة هذا الإصرار والعناد؟ وما سبب جنوح هذا الأحمق إلى الجدال إلى هذا الحد؟ إنه يسعى إلى إحياء جسد الآخرين بقلبه الميت، والأجدر به أن ينشغل بإحياء قلبه الميت؛ إنها لغفلة وحماقة محيرة
إن أسوأ حماقة في هذه الحياة أمرُ كل إنسان ينظر حوله ويرى بوجه عبوس وبعيد عن التأمل الكونَ والمخلوقات حوله التي تدل بكل وضوح على قدرة الخالق، وتحمل آثار صنع الله عزّ وجل، ثم لا تحمله هذه النظرة إلى الاعتبار والحكمة. ومن أكبر الحماقات المفجعة الغفلةُ عن تجليات عظمة الخالق وقدرته الظاهرة في الكون. فعلى الرغم من التنظيم الدقيق والمتكامل الذي يحيِّر العقول ويُعجِز الخلق عن الإحاطة به، يدَّعي الغافلون عديمو البصيرة بأن هذه الحياة والمخلوقات وُجِدَت بمحض الصدفة، ويرون أنفسهم كائنات عبثية كالحيوانات متحررين من كل مسؤولية أو واجب. ويقول الله عزّ وجل بحق هؤلاء
{لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179)
إن مَثَل هؤلاء الغافلين مَثل مَن يغطي عينَيه بأصابع يده، ثم ينكر بكل بساطة - هارباً من الحقيقة- وجودَ الشمس الساطعة في كبد السماء؛ فقد أعموا بصائرهم بغية إرضاء أهواء أنفسهم، وألقوا بقلوبهم في سجون الظلمات، لذلك فإن عقول الحمقى تفر من الأسئلة الكبرى التي تلح على الإنسان حول الكون والحياة، مثل
مَن خلق هذا الكون؟ وفي مُلك من نعيش؟ ولماذا جئنا إلى هذه الدنيا؟ وإلى أين نسير بعد هذه الحياة؟". فالفرار من التفكير بمثل هذه الأسئلة الكبرى والمصيرية في حياة الإنسان هو دائماً خيارهم الوحيد، إلا أن هذا الفرار وغفلة الإنكار لن تنجيهم من مواجهة الحقائق يوماً ما
ومن الحماقة البحثُ عن الحقيقة في غير مكانها، أي محاولة الوصول إلى السعادة في موارد المهالك والتعاسة، وإجهاد النفس وتعريضها للسوء من غير طائل
ومن الحماقات التي تدعو للشفقة انخداعُ المرء بالمظاهر والمتع الدنيوية الفانية نتيجة شهوات النفس، ثم تفضيلها على الحياة الأبدية في اليوم الآخر. حال هذا الشخص هي كما قال عمر t: "كمثل من باع آخرته بدنيا غيره" أي فقدان رضا الله عزّ وجل ونعيمه الأبدي نتيجة الانخداع بالمنفعة الزائلة من العباد
ولا تورث صحبة من وقع في الحماقات والغفلة إلا الخسارة والمضرة، إذ لا فائدة تُرجَى من الأحمق، فمن الحكمة الحذر من صحبة أمثال هؤلاء
وأما الصنف الثالث من الناس الذي يوصينا جعفر الصادق رحمه الله بالحذر منه في اختيار الأصدقاء والابتعاد عن صحبته فهو صنف "البخلاء
إن أكبر الأخطار على الثروة أمران: الأول "الإسراف"، والآخر "البخل". أما الإسراف؛ فهو مظهر من مظاهر سيطرة النفس من أجل إشباع الرغبات الدنيئة، وأما البخل؛ فهو مظهر من مظاهر الخوف والجبن، إذ هو الوثوق بالمال بدل التوكل والاعتماد على الله في الرزق
وقد بين الله عزّ وجل أن عباده الصالحين الذين رضيَ عنهم بعيدون عن هاتين الصفتَين الذميمتَين في قوله
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان: 67)
ويقول الله عزّ وجل
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ (البقرة: 268)
فالبخيل يسعى إلى جمع الأموال وتكديسها لنقص إيمانه وتوكله على الله عزّ وجل في موضوع الرزق، فالأرزاق مقسَّمة ومقدَّرة من الله تعالى، فيعتمد دائماً على ما لديه من الأموال لتجنب الفاقة والعوز. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في سورة الهمزة حيث يقول الله عزّ وجل
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ. يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ. كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ. نَارُ اللهِ المُوقَدَةُ. الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} (الهمزة: 1-7)
إن البخيل يرى ماله ضمانة لوجوده، لذلك فإنه لا يتوانى في التخلي عن أصدقائه في الشدة والضيق خوفاً من الإنفاق عليهم وفقدان ماله، أي إنه يقبل فقدان صديقه والتخلي عنه بكل سهولة في سبيل الحفاظ على ماله، لأن البخيل محروم من القيم السامية التي لا تُقدَّر بثمن، مثل الوفاء، والرحمة، والصداقة، والإخلاص
والبخل صفة ذميمة، فهو مرتبط بكل الخصال السيئة وفي النهاية يورد الإنسان موارد التهلكة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام
البخل شجرة من شجر النار أغصانها متدليات في الدنيا، من أخذ بغصنٍ منها قاده ذلك الغصن إلى النار (البيهقي: شعب الإيمان، 7، 435)
وأما الصنف الرابع الذي أوصانا جعفر الصادق بالحذر من مصاحبتهم فهو صنف "الجبناء"، لأن الجبان يتمتع بشخصية ضعيفة، وإذا ما تعرض لموقف صعب فإما يلوذ بالفرار ويترك صديقه لمصيره، أو يسلمه لعدوه. ومثل هذه الصفات المذمومة غير منسجمة مع الأخلاق الإسلامية، ولا مع حقوق الأخوة الدينية، حيث يقول النبي عليه الصلاة والسلام
المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه" (البخاري: المظالم، 3؛ مسلم: البر، 58)
والمسلم الذي يتمتع بإيمان سليم لا يخشى أحداً إلا الله عزّ وجل، وبذلك فإنه ينجو من العبودية للعباد
ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام القدوة والمثل الأعلى لأمته في كل شأن، كان يستعيذ بالله عزّ وجل في دعائه من الخوف والجبن، وكان عليه الصلاة والسلام يمشي في مقدمة الجيش في كل غزواته، فيُعلِّم أصحابه معنى الشجاعة والإقدام
وقد روى لنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحد مواقف النبي عليه الصلاة والسلام الكثيرة والذي يبيِّن إقدامه وشجاعته التي لا مثيل لها في ميدان المعركة، حيث يقول علي رضي الله عنه
لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله عليه الصلاة والسلام وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً" (الإمام أحمد: مسند، 1، 86)
ونورد في هذا الموضوع مثالاً عن شجاعة الصحابة النابعة من إيمانهم الراسخ، والذي هو أحد الأمثلة التي لا تحصى عن شجاعة الصحابة، إنه الصحابي عبد الله بن أم مكتوم الذي تولى رفع الراية في معركة القادسية. (القرطبي: عبس، 1 - 4)
عندما حان موعد خروج الجيش إلى القتال، أراد ذلك الصحابي الجليل بإيمانه العميق الانضمام إلى الجيش والاشتراك في القتال، إلا أنه t كان أعمى العين، ولما سمع بإعفائه من الخروج والقتال بسبب عينيه، حزن هذا الصحابي الجليل. فأجابَ الذين أخبروه بإعفائه من الاشتراك في القتال بجواب بالغ الروعة إذ قال
إنكم ترون حالي، غير أنني أستطيع أن أنفعكم نفعاً عظيمًا لأنني أعمى، ذلك أنني إذا خرجت لم أرَ سيوف العدو، فحملت الراية وتقدمت الجيش. وعندما يراني المسلمون أتقدم إلى جيش العدو من غير خوف ولا وجل، ستزداد عزيمتهم ويكرُّوا على العدو كرَّة رجل واحد
إن الشجاعة الإيمانية للصحابي الجليل عبد الله بن أم مكتوم درسٌ رائع في البطولة والإقدام للمؤمنين المتمتعين بكامل صحتهم وقواهم، أما الجبن فإنه عكس الشجاعة، فهو ضعف يورد الإنسان موارد المذلة والمهانة، ومظاهر هذا الضعف تنعكس على كل أحوال الشخص ومعاملاته؛ فالجبان لا يمكن أن يكون كريماً، لأنه يخاف على ماله من النقصان والوقوع في الفقر إذا ما أقدم على الإنفاق وتقديم الصدقات، لهذا لا خير في صحبة الجبناء لتأثيرهم السلبي في معنويات الإنسان
أما الصنف الخامس والأخير الذي يوصينا جعفر الصادق رحمه الله بالحذر من مصاحبتهم فهو صنف "الفاسقين"، لأن الفاسق أسير نفسه، فهو شخص جذبته المعاصي، واستحكمت بحياته أهواءُ النفس وشهواتها، لذلك فإنه لا يتردد في بيع صاحبه والتخلي عنه مقابل أي منفعة أو شهوة نفسية صغيرة
ويوصي القرآن الكريم بالالتزام بالحذر الشديد تجاه الفاسقين في الآية الآتية
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (الحجرات: 6)
أي إنه لا يُؤمَن من الفتنة والفساد من الأمور التي يخبر بها الفاسق مما يبدو في الظاهر صحيحاً لرعونته ورغباته النفسية، لأن الفاسق لا أخلاق له، معتاد على الكذب، والافتراء، وتحقير الآخرين. ولهذه الأسباب لا يؤمَن النزول إلى البئر بحبل الفاسق، ولا يُؤخذ كلامه بالاعتبار، ولا يُوثَق بشهادته
ومن جهة أخرى، فإن صداقة أهل الكفر مثل الفاسقين لها تأثير سلبي في الإنسان، وتورث القلب القسوة والظلم. وفي الحادثة التي نقلها لنا الإمام الرباني في أحد مكتوباته عبر كبيرة، إذ يقول
لقد زرت يوماً مريضاً، وكان على وشك الموت، وعندما حاولت إصلاح حاله والدعاء له وجدت قلبه غارقاً في ظلمات شديدة، فمهما حاولت وتوسلت لرفع هذه الظلمة عن قلبه لم تزل، وبعد المحاولات والتوسل تبين لي أن هذه الظلمات سرت إلى قلبه من أهل الكفر، وأن أساس هذه المحنة مصاحبة أهل الكفر. وبعد ذلك أدركت أن دفع هذه الظلمات بالتوسل ليس في محله، لأنه لم يبق لإزالة هذه الظلمات إلا عذاب جهنم، وهذا جزاء من يصاحب أهل الكفر ويواليهم
ومعلوم أيضاً، أنه لا يُخلد في نار جهنم مَن كان في قلبه ذرة إيمان، وهذا الإنسان أيضاً سوف ينجو ببركة مقدار الإيمان في قلبه
وبعد ذلك خطر في بالي السؤال الآتي: هل يُصلَّى على مثل هؤلاء الجنازة أم لا؟ فرأيت أن أداء صلاة الجنازة على أمثالهم أمر في محله، لأن هؤلاء الناس من المسلمين. فعلى الرغم من وجود الإيمان فيهم فإنهم يقومون باتباع أهل الكفر في عاداتهم ويقومون بتقديس أيامهم وما إلى ذلك، ومع كل ذلك يجب أداء صلاة الجنازة عليهم، فليس من الصواب أن نجعلهم ضمن زمرة الكفار ولعل تمني نجاة هؤلاء من الخلود في العذاب الأبدي أمرٌ يؤمَل في نهاية المطاف". (الإمام الرباني: المكتوبات، 1، 266)
نسأل الله تعالى أن يُلحِقَنا جميعاً بزمرة عباده الصالحين الذين أحبهم ورضي عنهم بفضله ولطفه وكرمه. آمين