خير أمّة
الحمد لله الذي شرف أمة الإسلام فصنعها على عينه وأخرجها للناس أمة وسطا، والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد، من أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده
وبعد
لقد فخرت هذه الأمة –وحُقَّ لها أن تفخر- بما شهد الله تعالى لها به، حيث يقول سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]
فالأمة المحمدية -بشهادة البارئ سبحانه وتعالى- خيرُ الأمم، غيرَ أنَّ هذه الخيريةَ ليست نابعةً عن مجاملةٍ أو محاباة، وإنما سببها ما ذكره الله تعالى بعد ذلك: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}
فهذا الثناء الرباني على الأمة المحمدية ليس تشريفا فحسب، بل هو تكليف أيضًا، فمناط الخيرية في أمة الإسلام مرتبط بالإيمان بالله تعالى، والاستقامة على شرعه، وهداية الخلق إليه
فمن حقق الشرط تحقق له المشروط وقامت به الصفة؛ كما قال عمر رضي الله عنه: (من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها) تفسير ابن جرير الطبري، 4 / 43
وهذه الخيرية في الأمة إنما تنبع من مجموع أفرادها، فالمسلم الحق هو الذي يمثل الإسلامَ بشخصيته وسيرته، مستظلا بقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33]
وعندما بلَّغ المسلمون هذا الدين العظيم مقتدين برسولهم في أخلاقه وسيرته، نشأت حضارة عظيمة مليئة بالفضائل والقيم في عصر الرسول والخلفاء الراشدين، واستمرت تخبو حينا وتنتعش أحيانا عبر العصور حتى عهد الدولة العثمانية التي كانت حضارة إنسانية فريدة ارتقت في الأخلاق والعلم والأدب، ورعت الحياة الاجتماعية والاقتصادية، نشرت الدين ودافعت عنه، وثبتت على الحق وأعلت رايته، وحافظت على قيم الحضارة الإسلامية الأصيلة وعملت على إحيائها
وكثيرة هي هذه القيم التي تميزت بها الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم السابقة، حتى شرفت بهذا الثناء، ولكننا سنسلط الضوء –في هذه العجالة- على بعض هذه القيم مستشهدين عليها بسلوك بعض من أفرادها
أمة الثبات على الحق والتضحية في سبيله
فالأمة المسلمة أمة ثبتت على دين الله تعالى كما أنزله الله تعالى دون تحريف أو تبديل، وضحَّت في سبيل ذلك بكل غال ونفيس، وليس أدل على هذه الصفة في الأمة من أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فقد بذل في سبيل نصرة دين الله تعالى كل ماله، حتى إذا سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة: "وما أبقيت لأهلك؟" قال: "أبقيت لهم الله ورسوله" (ابو داوود، زكاة، 40)
ولأنه كان يبذل ما يبذله بكل صدق وإخلاص قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا نَفَعَنِي مَالُ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ"، فبكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وقال: هَلْ أَنَا وَمَالِي إِلَّا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (ابن ماجة، المقدمة، 11/94)
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن لأحد من الصحابة أن ينفق كل ماله، خشية أن يقع فريسة الندم فيحبط أجره، إلا لسيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد كان كقلعة إيمان لا تتزحزح، وقال فيه سيدنا علي رضي الله عنه: "كنت كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله الرواجف" (أبو نعيم، معرفة الصحابة، جـ1، ص 264)
وبقي على هذه الحال مدافعًا صلبًا عن الإسلام، لا يتنازل عن أحكام الدين بحال من الأحوال، وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت على الحق في وجه المرتدين، وأظهر في مواجهتهم صلابة وشدة، وقال قولته المشهورة: (والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها)، وبذلك أغلق كل الأبواب أمام تحريف الدين ومنعَ اتساع الفتنة
وهكذا هي الأمة المسلمة ثابتة على الحق، لا تتزحزح عنه قيد شعرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها
أمة القسط والعدل
والأمة المسلمة أمة العدل بين الناس جميعًا، مسلمهم وكافرهم، غنيهم وفقيرهم، بَرِّهم وفاجرهم، ترعى شؤون رعاياها، وتصلح أحوالهم، تأخذ الحق للمظلوم من الظالم، وتنصف المحكوم من الحاكم
وليس في الدنيا أبلغ مثالا على العدل من عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فبعد أن اطمئن قلبه بالإيمان صار مَضْرب المـَثل في العدالة والإيثار والحكمة، فما عاد عمر ذلك الإنسان ذا الطبع الفظ الغليظ القلب، بل صار عُمر الرؤوف، المشغول بما يصلح الأمة، والأمين على كل فرد فيها.
فكان يحاسب نفسه دائمًا ويقول: «لو هلك حَملٌ من ولد الضأن ضياعًا بشاطئ الفرات خشيت أن يسألني الله عنه
وكان يحمل جراب الطعام في الليل ويدور على بيوت الفقراء والمحتاجين، وكان دائمًا إلى جانب اليتامى والمساكين، وما كان يجد الراحة والسكينة في فؤاده قبل أن يواسي المنكسرة قلوبهم، ويمسح دموعهم، ويزرع الابتسامة في وجوههم
عمر الذي أنصف القبطي من ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه، ما منعه مقام أبيه ولا دينه من أن يأخذ الحق للقبطي منه
عمر الذي قال كلمته المشهورة في وجه الدنيا، معلنا عدل الإسلام ورحمته: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)
أمة الزهد
وهي أيضا الأمة التي حذرها نبيها من الركون إلى الدنيا، والانشغال بمتعها وملذاتها عن نشر دين الله والجهاد في سبيله، فقال عليه الصلاة والسلام: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم) "صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، 5261
ولا نعلم في الأمة نموذجا أدلَّ على هذه المزية من عمر بن عبد العزيز، من جاءته الدنيا راغمة فأعرض عنها، متأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أبي بكر وعمر رضوان الله عليهم
يقول مالك بن دينار رحمه الله: "الناس يقولون: إني زاهد؛ إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها" تاريخ الإسلام (1/831) للذهبي
ويقول ابن عبد الحكم: "لما ولي عمر بن عبد العزيز زهد في الدنيا، ورفض ما كان فيه، وترك ألوان الطعام، فكان لا يهمه من الأكل إلا ما يسد جوعه، ويقيم صلبه، وكانت نفقته وعياله في اليوم درهمين". سيرة عمر لابن عبد الحكم 38
وتصف زوجته فاطمة حاله التي تعكس رقة قلبه: (دخلتُ يومًا عليه وهو جالس في مصلاه واضعًا خده على يده ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مَالَك؟ فقال: ويحك يا فاطمة، قد وليتُ من أمرِ هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت)
وهكذا تكون خير أمة، لا تلتفت إلى الدنيا ولا تنشغل بها عن أمر الله ونهيه، وإقامة دينه وشرعه
أمة الدعوة والهداية
إنها الأمة التي أمرها الله تعالى بنشر الدين وهداية الخلق، والجهاد ضد كل من يقف في وجه ذلك، ولذلك ترك الصحابة الكرام بساتين النخل في المدينة حتى وصلوا إلى الصين، وتوجه المسلمون إلى إسبانيا في خلافة عمر بن عبد العزيز، وفتح عقبة بن نافع القيروان، وكان يدعو الله تعالى بقلب ينبض بالإيمان، فيقول: «يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهدًا في سبيلك
ولذلك كان همُّ العثمانيين إعلاء كلمة الله تعالى، وتعريف الناس بالإسلام، والدعوة للخير والحق، والسعي لنجاة الناس في دار القرار
وهذا ما عبَّر عنه مؤسس الدولة العثمانية عثمان الغازي في نصائحه لابنه أورخان الغازي ولكل من يأتي بعده من رجال الدولة، إذ قال: «واعلم يا بني أن طريقنا الطريق إلى الله، ومقصدنا تبليغ دينه، وليست دعوتنا صراع وحروب لحُكم العالَم، بل لإعلاء كلمة الله
وأما أورخان غازي فقد فضَّل الفتح المعنوي على فتح البلاد، فقال: «المروءة أفضل من الغزوة». وكان يخلِّد الفتوحات بهداية الناس، فيُسكِن أولًا أهل الله والصالحين في البلاد التي يفتحها، فكان عيش هؤلاء وتبليغهم الدين بأحوالهم وسيلة هداية لأهل البلد كلهم
واستمر سلاطين بني عثمان على هذا النهج إلى زمن قريب، فها هو السلطان عبد الحميد الثاني -على ما كان يعانيه من مآزق ومصاعب في إدارة الدولة ومواجهة خصومها- لم يهمل أبدا هداية الخلق ما إن تسنح له الفرصة لذلك، حتى مد نفوذ الخلافة ليشمل العالم كله، فأسس في «بَكينْ» مؤسسة للتدريس الديني كانت تُسمى (الجامعة الحميدية) قامت بفعاليات دينية كبيرة في «بَكينْ» لفترة طويلة، كما أرسل إلى اليابان هيئة علمية عُرفت في تاريخنا باسم (فاجعة أرطغرل) كانت مهمة تلك الهيئة نشر الإسلام في تلك الأماكن، واستفاد من الظلم الواقع على الزنوج في «أمريكا»، فأرسل إليهم رجالا للدعوة بهدف جذبهم إلى العالم الإسلامي، ومن الحقائق التاريخية الثابتة أنه كان عاملا رئيسيًّا في تشكيل الوجود الإسلامي الزنجي الموجود حاليًا
ولا عجب في ذلك فهؤلاء السلاطين تربوا على عين الأئمة الربانيين أمثال مولانا جلال الدين الرومي الذي قال: «علَّمني شمس الدين أدبًا عظيمًا حين قال: (إذا كان في الدنيا مؤمن واحد يشعر بالبرد، فليس لك حق أن تتدفَّأ) ولأنني أعلم أنه ثمة مؤمنون في الأرض يشعرون بالبرد، فلن أشعر بالدفء ما حييت
فالواجب علينا اليوم أن نسير على درب هؤلاء الربانيين، لنعود أهلا لوسام خير الأمم، مستبشرين ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم
«مَثَل أمتي مثل المطر لا يُدرَى أوله خير أم آخره». [الترمذي، الأمثال، 6]
فاللهم أكرِمنا بأن نكون قطرة خير في هذا الغيث المبارك