عزة المؤمن
إسماعيل لطفي تشكان
وللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (المنافقون، 8)
المعرفة ومقدار الوعي
كثيرة هي معاني كلمة العزة التي يقول القرآن الكريم إنها من صفات الله جل جلاله، ويشير إلى أنها تحتل مكانة هامة في العلاقة بين المؤمنين وغير المؤمنين، فمن هذه المعاني: الشرف والرفعة والقوة والمكانة السامية والانتصار والهيبة. وتُعرَّف عزة المؤمن على أنها شرفه وهيبته. وإذا ما استبدلنا كلمة المؤمن بالمصدر المشتق منه؛ أي الإيمان تصبح الجملة "عزة الإيمان" والعزة بهذا المعنى: "الأصالة النابعة من الإيمان" وهذه هي العزة الحقيقية. وجاء ذلك في الآية الكريمة: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْملْكِ تُؤْتِي الْملْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْملْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ حيث تشير الآية إلى المصدر الحقيقي للعزة، وفي الآية الكريمة التالية: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ إشارة أيضاً إلى المصدر الوحيد للعزة التي يطلبها الإنسان وإلى المكان الذي يجب عليه البحث فيه عن العزة. وفي آية كريمة أخرى موجهة للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ دلالةٌ على أن الادعاءات المغرِضة لا تضر عزة المؤمن
وتدل الآيتان الأخيرتان على أن العزة لله تعالى ولكن هذا لا يعني أن امتلاك البشر لهذه الصفة ومقوماتها أمر مستحيل، بل على العكس إن كل عزة أو شرف أو رفعة يمكن أن يتسم بها الإنسان إنما هي من الله تعالى، ولا يمكن أن تكون هذه الصفات أصيلة لدى شخص إلا إذا وعي هذه الحقيقة. ويتجلى ذلك واضحاً في الآية الكريمة: ﴿ولِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
البعد السلوكي
إن كلمة العزة تعني من جانب آخر المكانة المرموقة للشخص في المجتمع، فكل من يمتلك قوة اقتصادية وتأثيراً اجتماعياً يُعدُّ صاحب عزة (العزة الظاهرية). وفي هذا السياق تستخدم كلمة "العزة" مناقضة لكلمة "المذلة" التي تعني العجز والضعف والانحطاط. ويتجلى ذلك في الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ونجد تعريفاً للصحابة الكرام في الآية التالية: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ فالمعنى الذي عبرت عنه الآية المذكورة أعلاه "أَعِزَّةٍ" يقابلها في الآية الأخرى كلمة "أَشِدَّاءُ". وهذا يعني "أن معاملة الكافرين بوقار وبشيء من القسوة والعنف" إنما هو سلوك تفرضه عزة الإيمان
ونجد إشارة في الآيتين الكريمتين نفسهما إلى أن العزة المنبعثة من إيمان المسلم هي العزة الحقيقية الأصيلة التي تقتضي التعامل بتواضع ورحمة مع المؤمنين، وأي تصرف خارج عن هذا الإطار لا يليق بعزة الإيمان على الإطلاق. ذلك أن إظهار القوة أمام المسلمين أو أمام الضعفاء، والخنوع أمام الأعداء أو الأقوياء ليس بالتصرف الذي يسلكه المسلم أبداً. وقد وصف الشاعر التركي محمد عاكف أرصوي بكثير من الحزن هذه الحالة بأنها "مذلة ما بعدها مذلة" قائلاً
يبدون أسوداً من الخلف ومن الأمام ما هم إلا قطط متملقة
لم يرَ الإسلام البتة قبلنا مذلة كهذه المذلة
إن الهزيمة لا تعني دائماً فقدان القوة والأصالة والعزة. فمن يتمتع بالقوة والرفعة يمكن له أن يتعرض للهزيمة في بعض الأحيان إلا أن هذه الهزيمة لا تغير الحقيقة، ولا تطغى على الأصالة والعزة الحقيقيتين النابعتين من الإيمان. وهذا ما حدث في غزوة أُحد حيث هُزم المسلمون ظاهرياً فخاطبهم الله تعالى مواسياً ومؤكداً هذه الحقيقة التي لا تتبدل: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وفي آية كريمة أخرى نرى إثباتاً قاطعاً على ذلك بقوله تعالى: وَاللهُ مَعَكُمْ
كما وردت كلمة العزة في آيات أشارت إلى موقف الكافرين والمنافقين من الإسلام حيث بدوا متكبرين ومتغطرسين ومعاندين ومتعجرفين. ومثال على ذلك ما جاء في الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ
السعي من أجل العزة
كل من يلجأ إلى غير الله تعالى ويجعل من المخلوقات إلهاً يطلب منه العزة، يقع في الخطأ ولن يفلح سعيه وهذا ما تؤكده وتعلنه الآية الكريمة: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا﴾ فلا ريب أن السعي للبحث عن العزة والشرف في غير مكانهما سيذهب أدراج الرياح، إلا أن منطق الكفر لا يعي هذه الحقيقة، ويبيِّن حالَ الكافرين قولُهُ تعالى: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ حيث توضح الآية الكريمة أخطاءهم السلوكية والنفسية
إن السعي إلى العزة والتمتع بها أمر جميل بلا ريب، ولكن على أن يتم ذلك بالتوجه إلى الله تعالى صاحب العزة الحقيقية وأن تكون تلك العزة نابعة من الإيمان، وكما قال الشاعر عاكف أرصوي بحزن كبير وبصوت مكلوم: "الإسلام دين العزة" وقال
يا جموع المسلمين! إنما هذا الدين المبين الذي أقررنا به في عالم الأرواح هو دين العزة، دين العظمة، دين السعادة. وليس دين المذلة، ليس دين المسكنة وليس دين البؤس
إذا ما انُتهكنا اليوم، فلأننا نستحق الانتهاك
انظر!.. أين هي عزتنا أين هي أخلاقنا؟
إن الأشخاص والجماعات والحكومات الإسلامية الذين تركوا المسلمين جانباً وبحثوا لأنفسهم عن العزة والمكانة على المستوى العالمي في الأوساط والمجموعات غير المسلمة، قد وقعوا في خطأ كبير يشابه خطأ غير المؤمنين الذين أشارت إليهم الآية الكريمة أعلاه. وهذا التصرف مخالف تماماً للقواعد الأساسية لعزة المؤمن. إن النهج الفكري الذي يليق بالمسلم يتمثل بما قاله المرحوم محمد حميد الله: "إن أخانا المسلم الأكثر إثماً أقرب إلينا من الكافر". والتصرف خلافاً لذلك سيعني ترك المسلمين أصحاب العزة الحقيقية، والتواطؤ مع أعداء الإسلام ضدهم، والتحول إلى المنافقين الذين يسعون إلى محاربة المسلمين وخيانتهم. والآية الكريمة الآتية قد وصفت المنافقين واستهجنت أفعالهم وحذرت منهم: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا
هذه الحقائق دفعت أحد أحباب الله ليجيب مسلماً استوقفه في الطريق طالباً منه الدعاء لأمة محمد بالنجاة، إلى القول: "يا بني أرني أمة محمد أولاً حتى أدعو لها بالنجاة
فهيا أيها المؤمنون... هيا يا إخوتي... هلموا بنا معاً إلى الإسلام من جديد، إلى الإيمان من جديد، إلى العزة من جديد، إلى الهيبة والسعادة... إلى الرحمة والمغفرة
الحواشي: 1) آل عمران، 26. 2) فاطر، 10. 3) يونس، 65. 4) المنافقون، 8. 5) المائدة، 54. 6) الفتح، 29. 7) صفحات، ص. 328. 8) آل عمران، 139. 9) سورة محمد، 35. 10) البقرة، 206. 11) مريم،81. 12) ص، 1-2. 13) محمد عاكف أرصوي، الوعظ والتفسير، ص. 304 (منشورات رئاسة الشؤون الدنية التركية، أنقرة، 2012). 14) النساء، 139