عفو نبي الرحمة

إن الله تعالى يحبُّ العفوَ، وقد كتب على نفسه أن يقبل توبة العبد إن ندم على ذنبه بقلبه. والله تعالى يريد من عباده أن يعفوا لأنه يحب العفو. وأحسن الطرق لنيل العفو الإلهي أن يكون العبد عفوًّا

وخير أمثلة العفو نجدها في حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث رحمة للعالمين

ففي الحديبية قبض الصحابة الكرام على جماعة يريدون قتل رسول الله، فعفا عنهم عليه الصلاة والسلام

وقد أوحى اللهُ تعالى إلى رسولَه الكريم فخبَّره عن لبيد المنافق الذي أقدم على سِحر النبي صلى الله عليه وسلم وعمَّن حرَّضوه على ذلك. غير أنه عليه الصلاة والسلام لم يرَ وجه لبيد ولم يعيِّره بفعلته، ولم يعاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيدًا الذي أراد قتله ولا قبيلته بني زريق

فقالت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله فهلَّا، تعني تَنَشَّرْتَ؟، فقال النبي عليه الصلاة والسلام

«أمَّا اللهُ فقد شفاني، وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرًّا»

لقد عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمَّن أساء إليه إساءة عظيمة مع أنه كان قادرًا على معاقبته، ولم يعيِّره بذنبه بكلمة ولا حتى بإشارة. فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحب أن يُساءَ لأي أحد مسلمًا كان أم كافرًا، بل كان يعامل كل امرئ بأدب عظيم وأخلاق حميدة

وقد وضعت امرأةٌ يهودية السم في طعام رسول الله بعد فتح خيبر. فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا وضع لحم الشاة في فيه أن الطعام مسموم. فاعترفت المرأة اليهودية أنها وضعت السم في الطعام، ومع ذلك عفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم

ولمَّا أسلمَ ثمامة بن أثال زعيم قبيلة اليمامة، قطع علاقته التجارية بمشركي مكة. وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة، فلما أضرَّ بهم، كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم، وتحض عليها، وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضرَّ بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلِّيَ بيننا وبين ميرتنا فافعل. فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن خلِّ بين قومي وبين ميرتهم

مع أن أولئك المشركين أنفسهم قد أنزلوا بالمسلمين أشد العذاب لما قاطعوهم في مكة ثلاث سنوات. لكن نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام عفا عنهم على كل ما فعلوه

وبعد فتح خيبر في السنة السابعة للهجرة، بلغه صلى الله عليه وسلم ما فيه أهل مكة من الضر والحاجة والجدب والقحط فبعث إليهم بشعير ذهب، وقيل نوى ذهب... وأخذه أبو سفيان كلَّه وفرَّقه على فقراء قريش، وقال: جزى الله ابن أخي خيراً فإنه وَصُولٌ لرَحِمِه

فرقَّت أفئدة أهل مكة أمام مثل تلك الفضائل العظيمة، وأسلموا جميعًا بعد مدة

وقد عفا النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة حتى عن هند بنت عتبة عندما أسلمت، وهي التي أمرت بقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم ولاكت كبده

إذ قدِمت هند مع نسوة من قريش يردن مبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت قد بدَّلت نقابها متنكرة خوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة. فلما سكتت النسوة، قالت هند

«يا رسول الله، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، لتمسني رحمتك يا محمد، إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة. ثم كشفت عن نقابها فقالت: هند بنت عتبة، فاعفُ عمَّا سلف يا نبيَّ الله عفا الله عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مرحبًا بك". فقالت: والله يا رسول الله، ما كان على الأرض من أهل خباء أحب إليَّ أن يُذلُّوا من أهل خبائك، ولقد أصبحت وما على الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يُعزُّوا من أهل خبائك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وزيادة أيضًا!"»

لقد عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هند وكثيرين غيرها إعظامًا وإجلالًا لكلمة التوحيد

وقد سأل نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم أهل مكة الذين كانوا يرقبون مصيرهم بعد الفتح

«ماذا تقولون وماذا تظنون؟» قالوا: نقول خيرًا ونظن خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإني أقول كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

وفي خطاب آخر قال

«اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله قريشًا»

وقد بايع أهل مكة النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وتعهدوا له بإطاعة أوامر الله ورسوله ما استطاعوا

فعن أبي العباس رضي الله عنه أنه قال

«لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في الفتح، قال لي: "يا عباس أين ابنا أخيك [أبي لهب] عتبة ومعتب لا أراهما؟" قلت: يا رسول الله، تنحَّيا فيمن تنحَّى من مشركي قريش، فقال لي:"اذهب إليهما وأتني بهما"»

قال العباس: فركبت إليهما بعُرَنَة، فأتيتهما، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكما، فركبا معي سريعين حتى قدِمَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهما إلى الإسلام، فأسلمَا، وبايعَا، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بأيديهما، وانطلق بهما يمشي بينهما حتى أتى بهما المُلتَزَم، وهو ما بين باب الكعبة والحجر الأسود، فدعا ساعة، ثم انصرف والسرور يُرَى في وجهه، قال العباس: فقلت له: سرَّك الله يا رسول الله، فإني أرى في وجهك السرور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم

"نعم إني استوهبت ابنَي عمي هذين ربي، فوهبهما لي"

لقد كان أبو لهب وابنَاه ألدَّ أعداء رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذ أساؤوا إلى رسول الله كثيرًا. غير أن رسول الله عليه الصلاة والسلام عفا عن ابنَيه عندما نطقَا بكلمة التوحيد. ولو عاش أبو لهب وآمن بالله سبحانه وتعالى، لعفا عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام بلا ريب، ولَسُرَّ سرورًا عظيمًا بإسلامه. غير أن قدرَ الله تعالى يبقى مجهولًا يفوق حدود إدراكنا

وكان عكرمة بن أبي جهل من أعداء الإسلام البارزين. وبعد فتح مكة هربَ إلى اليمن، ثم أحضرته زوجته إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقد أسلمَ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم برضا

«مرحبًا بالراكب المهاجر». وعفا عمَّا ارتكبه من ظلم للمسلمين

وكان هبَّار بن الأسود من أشدِّ أعداء المسلمين، ولمَّا هاجرت زينب بنتُ النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، ضربها بالرمح وكانت حبلى فسقطت، وأسقطت هناك ما في بطنها، وكان سقوطها ذلك سببًا في وفاتها فيما بعد

ولم يقتصر هبَّار على هذا الجرم فحسب، بل جارَ على المسلمين كثيرًا. ولمَّا فُتِحَت مكة هرب ولم يُقبَض عليه. وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بالمدينة في أصحابه إذ طلع هبَّار بن الأسود، وقد جاء مُقِرًّا بالإسلام. فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعفا عنه. ومنع أصحابه من تحقيره والتعرض له

فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو الله سبحانه وتعالى أن يغفر لأمته

*

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنًا حيًّا، إذ كان يعفو دون تردد عن كل جرم ارتُكِب بحقِّه. أما إن كان الجرم بحق الناس، فلم يكن يهدأ حتى تُردَّ الحقوق لأهلها، ويأخذ كل ذي حقٍّ حقَّه

فلمَّا كلَّم أسامةُ رضي الله عنه -وكان أحبَّ الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم- سيدَنَا محمدًا في امرأة قد سرقت وكانت من أسرة مشهورة، احمرَّ وجهه عليه الصلاة والسلام وقال

«والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة فعلت ذلك لقطعتُ يدها»

إن صفحة الغضب في كتاب الحياة صفحة مظلمة، والسبيل للخلاص من هذا الخطر العظيم استعمال سلاح الصبر والأخوة أمام هذه الفورة المنفِّرة، والالتجاء إلى السكينة دون إفساد الاعتدال والتوازن

وما أعظم تضحية الصحابة الكرام وعفوهم الذي لا نجد له مثيلًا  فيما   يخصهم؛ وكيف لا يكون ذلك حالهم وهم من تربوا بين يدَي رسول الله صلى الله عليه وسلم! والحادثة التالية التي مرَّ بها سيدنا علي رضي الله عنه دليلٌ على ما ذكرناه

في إحدى الغزوات كان سيدنا علي رضي الله عنه يقاتل رجلًا من صناديد الرجال، فطال بينهما القتال، وفي النهاية تمكَّن رضي الله عنه من خصمه وأسقطه جريحاً تحته. ولما هَمَّ بقتله بَصَقَ المُشرِك في وجه سيدنا علي رضي الله عنه والسيف في الهواء يُوشك أن يهوي به. فما كان منه رضي الله عنه إلا أن أرجع سيفه إلى غمده، وانصرف عنه ولم يقتله

فلما سُئِل قال: لقد كنت أقاتله لله فلما بَصَقَ في وجهي، أحسست بأني أريد الانتقام لنفسي فتركته

وقد عبَّر مولانا جلال الدين الرومي عن تلك الحادثة تعبيرًا نابعًا من أعماق قلبه فقال

«قال الرجل: يا علي، قد وضعتَ سيفك الحاد في رقبتي! وكدتَ تقتلني فتركتني وعفوت عني! فلمَ فعلت ذلك؟ ماذا رأيتَ حتى سكنَ ذلك الغضب الذي طرحَني أرضًا؟

يا أيها البطل الذي لا يُقهَر في ساحات الوغى! الطف عليَّ واشرح ليَ شيئًا من حالك! ما هذي الأحوال التي أنت عليها؟

يا علي، قد فهمت الآن أن ذلك من أسرار الحق تعالى. فقتلُ رجل بلا سيف أمرٌ لله تعالى. اشرح لي هذا السر

فقال سيدنا علي رضي الله عنه بعد كلام خصمه

يا رجل، اِعلَم أنَّي أحمل سيفي في سبيل رضا الحق تعالى، لأني عبد الله، لا عبد النفس والهوى والوساوس

لقد عرفتُ نفسي، واستثقلت أن يغلبني بصاقك. وأرجعت سيفي إلى غمده لخشيتي من شر نفسي. لذلك لم التفت إلى ما سوى رضا الله تعالى

إنني مثل السيف المزيَّن بالجواهر مليء بلآلئ التوحيد، أبذل جهدًا في إحياء الناس أكثر من قتلهم في المعارك

لذلك حينما بصقت في وجهي أثناء المبارزة ظهرت حال نفسانية -، ففضَّلتُ إرجاعَ سيفي إلى غمده، لعلَّني بذلك أكون من السعداء الذين يحبون لله ويبغضون لله

وعندما يكون الحديث عن أسير النفس والشهوة، فحاله أسوء من حال العبد والأسير، لأن العبد قد يغدو حرًّا بكلمة من سيده، أما عبد النفس والشهوة فيسكر في لذات فانية يلتذذ بها، ثم يصحو فيجدُ نفسَه في خسران أبدي

لذلك لم أتَّبع هوى نفسي وأمسكت عن قتلك

يا رجل، لا صفة عندي غير صفات الحق تعالى. فإن أردت أن تدخل حِمَى هذه الهداية، هلمَّ إليَّ

اقترب، ليعتقك الله بفضله ورحمته! فرحمته تسبق غضبه

ثم قال سيدنا علي رضي الله عنه لهذا الرجل السعيد الذي تشرَّف بنور الهداية

الآن قد نجوت من الخطر، وعرفت نفسك، وغدوت كالجوهرة النادرة بنور الهداية

يا أيها الرجل الذي تشرَّف بنور الله، الآن أنت أنا، وأنا أنت؛ أي إنك عليٌّ أيضًا. وإن كان الحال كذا، فكيف لا أضمُّ عليًّا إلى صدري؟