ماهية القلب
للقلب دورٌ محوري وجوهري في عالمنا المادي وعالمنا الروحي، وهو مركز دائرة التربية، ومحط رحلات الأحاسيس، وميزان تقويم المشاعر
ومن مقاصد الدين تربية الناس والوصول بهم إلى درجة من الرقي المعنوي تتطهر معها قلوبهم، فتدرك عبوديتها للخالق سبحانه، وتعمل وفق هذا الإدراك بعد أن تصل قلوبهم إلى درجة من النضج المعنوي تحيا فيه بذكر الله تعالى، وتقشعر خوفًا منه سبحانه
وإذا كانت الحقائق العلمية قد أظهرت أن الخلية التي ينقطع عنها ضخ الدم لمدة أقصاها أربع ثوانٍ تموت، فما بالنا بالخلية التي ينقطع عنها المدد الرباني والفيوضات الإلهية، أو تلك الخلية التي تنقطع عنها المشاعر الإيمانية وذكر الله تعالى وكل ذلك يضخه القلب؛ فالدم في عالم المادة كالشعور في عالم الروح
فإذا ما اتجهنا إلى العقل وأثره في العالم المادي والمعنوي وجدناه مركز التفكير، ومجمع إصدار الأوامر والإشارات للأعضاء والخلايا، إلا أن أفكاره وأحاسيسه مصدرها القلب
إذًا، فالقلب هو صاحب السلطتين المادية والمعنوية في الجسد والروح حتى على العقل نفسه، فهو الذي يترجم إشارات الحواس ويحولها إلى مشاعر، وهذه المشاعر تدفع العقل إلى اتخاذ قرار تتصرف الأعضاء بموجبه، وبهذا يكون القلب هو المحرك الأساسي لأفعال الإنسان تجاه مواقفه، فالعين ترى حال المرضى، والأذن تسمع أنينهم، واليد تلمس جلودهم، لكن القشعريرة التي تمر من الجلود إلى الجلود تتحرك عبر القلب الذي شعر بالرحمة، فتحولت الإشارات العصبية من العين والأذن واليد إلى العقل، لكنها في العقل تظل مجرد مدركات للعالم الخارجي، وأحاسيس تنقل إليه صورة ذلك العالم، أما مشاعر الرحمة والمحبة أو الغضب والانتقام، أو اتخاذ قرار وتكوين رأي تجاه هذه الأحداث، فالمحرك الأول والأخير له هو القلب الذي يصيغ هذه الإشارات العصبية إلى مشاعر، وهذه الحركات الميكانيكية إلى دفقات شعورية
هذه الحقيقة يمكننا إدراكها بسهولة في كل التصرفات البشرية، والخالق المبدع سبحانه حين خلق القلب، حدد له وظيفته وفق فطرته، وهي أنه بوصلة للحق والحقيقة في دنيا المعنويات. وأيُّ شيء يخالف الفطرة؛ تزيغ به الطرقات، وينحرف عن الغايات، فتنقلب سعادته ثبورًا، وتتحول نعمته شرورًا
لذا؛ فمن الأسس التربوية أن يتجه القلب نحو غايته الفطرية التي خلقه الله تعالى لها، وكل منْ أراد أن يربي فعليه تغذية القلب لمواصلة سيره نحو تلك الغاية، ودعمه في التوجه نحو الهدف ليوافق الإرادة الإلهية
وفي الآية التالية يحذر الحقُّ عباده من ذلك الميل القلبي نحو الدنيا، والانحراف الشعوري عن الغاية، منخدعين بالملذات ومغترين بالشهوات، فيقول عزَّ وجل
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (فاطر، 5)
ويوضح مولانا جلال الدين الرومي -قدس الله سره- ضرورة إلجام الرغبات النفسانية، كي لا يحيد الإنسان عن الغاية الأساسية التي خُلق لأجلها قائلاً
لا تهتمنَّ بتسمين بدنك، فمآله في النهاية إلى التراب، إنما الأصل أن تربِّي قلبك، فالقلب هو منْ سيرتقي، ويصل إلى مراتب الشرف وينال حُسن المآب
قدِّم القليل من الدسم والعسل لبدنك؛ لأن منْ يزيد في تسمينه عن الحد الضروري يقع في الرغبات النفسانية، ويصل إلى الدناءة في نهاية المطاف
ولكن قدِّم للروح الغذاءَ المعنوي، وقدم لها الفكر الناضج، والفهم الدقيق، والغذاء الروحاني، كي تبقى قوية ومقتدرة أينما حلَّت
وينصح لقمان الحكيم ابنه بقصد إيقاظه من الغفلة، فيقول
«يا بُني، إن الدنيا بحر عميق، هلك فيه عالمٌ وخَلق كثير، فاجعل سفينتك فيه الإيمان بالله، واجعل حشوها تقوى الله وطاعته، واجعل شراعها الدين، به تجري توكُّلًا على الله، لعلك تنجو ولعلك لا تنجو» (البيهقي، كتاب الزهد، ص73)
وإذا كان للقلب دور أساسي في حياة البدن وعمل الجسد، فإن دوره أكثر أهمية وأعظم أثرًا في الحياة الروحية، لأن الذي يمنح الإنسان صفة الإنسانية هو روحه لا صورته
فالقلب هو الذي يصل بالإنسان إلى معنى «الإنسانية»، وهو الذي يمده بأسبابها ويرفده بينابيعها، ويحقق فيه معانيها؛ لأنه هو الذي يحمل الأسرار الكونية والتجليات الربانية، ويضم في جوهره الحِكَم الإلهية
وبناءً على هذه الحكمة، يتحقق الإيمان بـ«تصديق القلب» قبل «إقرار اللسان»؛ واللافت للانتباه أن «التصديق الجازم» بالقلب كافٍ أكثر من مجرد الإقرار بالذهن أو الفكر
والإنسان هو جوهر الكون كله، وقد جبله الله تعالى على ما فيه من المتناقضات؛ إذ يحمل في فطرته الخير والشر معًا، كما أن القلب هو جوهر ذلك الإنسان الذي هداه الله النجدين، وهيأه للطبيعتين المتضادتين، للتأثيرات الملائكية وللتدخلات الشيطانية، فالقلب واحد من أكبر ساحات الصراع، وميادين المواجهة بين قطبي الدنيا: الخير والشر، وهو صراع أبدي لا تزال القلوب تضطرب فيه بين النفحات الملائكية والنزغات الشيطانية
هذه النفحات الملائكية هي التي تمنح القلب أحواله الروحانية وسلوكياته الإيمانية، فتروي في أرضه شجرة الإيمان، وتُثمر في رياضه الأخلاق الحميدة، وتلقي ثمارها إلى الناس أعمالاً صالحة، فتحتويهم رأفة ورحمة وخدمة، ثم هي تستمد حياتها من معين لا ينفد، عبادات خاشعة، وذكر تطمئن به وتحيا
أما تلك النزغات الشيطانية فهي التي تصيب القلب بآفات المادة، وتصرفه عن لذة الروح، فتبدله بالعمل الصالح ذنوبًا، وبالأخلاق الحميدة عيوبًا، وبينابيع الإيمان والتقوى غربة ووحشة، وتغريه ليمضي في سبل الشهوات والنزوات بعيدًا عن الله تعالى
أما صد النزغات الشيطانية وطردها من القلب، فلا يكون إلا بالعبادة الخاشعة، وذكر الله تعالى، فترتقي القلوب حتى تتصاغر أمامها المغريات والأهواء، وتتوالى عليها النفحات والتجليات، ويترسخ فيها الإيمان كجذور الشجر؛ حتى ترقى إلى مرتبة تنكشف فيها الأستار، ويتجاوز القلب كل الأسوار، فيطَّلع على الكون من نافذة الكشف والتجليات
فتبدو أسرار عالم اللاهوت المغيب وعالم الناسوت المشاهد واضحةً جليَّةً لصاحب هذا القلب، ويمسي الكون بأسراره كلها كالكتاب المقروء
وليس القلب عضلة إرادية مثل بقية الأعضاء البشرية التي يسيِّرها الناس وفق إرادتهم، ويتحكمون فيها وفق رغبتهم، فالقلب مختلف عنها في تلك الطاعة وذلك التسليم للإرادة البشرية؛ إذ إنه متأثر أكثر بالعوامل الخارجية، وتراه منساقًا إلى الأحاسيس التي يكتسبها من عالم الماديات أكثر من الخواطر والسوانح التي تأتيه من عالم المعنويات في داخله، وكأنه مثل الماء الذي يتخذ شكله ولونه ووضعه من الإناء الموضوع فيه
أما أرباب القلوب- رواد الطريق والسلوك- الساعون إلى دار السلامة، فهم الذين تمكنت قلوبهم من اختيار النفحات الملائكية، والميل إلى الفطرة النقية، والاستسلام للميول الإيجابية في ساحة الصراع الكبرى بين الجانبين، لأنها تملك التركيبة الحيوية الفعالة التي تجعلها في الفريق المنتصر
وتعرض لنا الآيات الكريمة الآتية هذا الموضوع
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة، 119)
(وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأنعام، 68)
(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) (النساء، 140)
والإرادة في ساحة الصراع تبدأ عملها أولاً بالتمييز بين الفريقين، وإلقاء نظرة فاحصة عليها حتى تتعرف على قوى الخير وأياديها البيضاء، وتتعرف على قوى الشر وأياديها الملوثة، ثم تختار إلى أي الجانبين تميل، ومع أيهما تمضي، فتقرر مصيرها، وتحدد غايتها، وتختار الرفيق في الطريق، ولا تستسلم لمنْ يسوقها إلى جهنم وعذاب الحريق، فالقلوب في طبعها الهوائي المستسلم للمؤثرات، والمنقاد للشهوات مثل أرجوحة الأطفال التي لا تستقر في أي من الجانبين، ومثل نواس الساعة لا يزال يروح ويجيء يمنةً ويَسرةً طالما الساعة تعمل، والعمر يمر، ولا يتوقف تأرجح القلوب إلا مع نهاية العمر والحياة
وإذا ما رجعنا إلى الأصل اللغوي لكلمة «القلب» وجدنا المعاجم العربية تقول إن «قلب الشيء ضده، وتغيير الشكل واللون»، مما يؤكد على التغيير والتقلب، وهو خصوصية تميز بها القلب عن سائر أعضاء الجسد رغم أنه العضو المركزي في البدن
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم
«مثَل القلب كمثَلُ ريشةٍ بأرضٍ فلاةٍ تقلبها الرياح»
وتوضِّح الحادثة التالية التي جرت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم حالة «التغير» في القلب خير توضيح
فعن حنظلة الأسيدي -وكان من كُتَّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: لقيني أبو بكر، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟، قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله، ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنا نراهم رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟» قلت: يا رسول الله نكون عندك، تذكِّرنا بالنار والجنة، حتى كأنا نراهم رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي من الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» ثلاث مرات. (مسلم، التوبة، 12-13)
وفي الحديث دلالة واضحة على ضرورة التوفيق بين العالمين المادي والمعنوي، فعليك أن تؤدي العبادات أداءً تستشعر معه معاني الآخرة وأسرارها، كما عليك أن تؤدي من مشاغل الدنيا ما يقيم أودك، ويصلح شأنك، وتستمر به الحياة
وهو إشارة نبوية إلى تأكيد المعنى اللغوي للقلب من حيث «التلوُّن» والانتقال من حال إلى حال
ومن الأهداف الأساسية والأولية للتصوف أن تُستبدل حالة «التمكين» بحالة «التلوُّن» بحيث يتمكن القلب من «الاستقرار على استقامته» ببركة الذكر والصحبة
ولعل من أظهر الأمثلة على ثبات القلب وتمكينه من الحق وثباته على الاستقامة والتصديق، هو موقف سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه إبان حادث الإسراء والمعراج، فلم يسرِ إليه تردد، ولم يساوره أدنى شك؛ بل كان تصديقه يقينًا، وثباته على فكرته متينًا، واستقرار الإيمان في قلبه مكينًا
وهاهم رؤوس الفتنة وزعماء الكفر يصولون في ساحات مكة بين أهل الإيمان، كما تصول نزغات الشيطان في ساحات القلب، ينشرون الشك والتكذيب، ويخاطبون الصحابة رضوان الله عليهم -وعلى رأسهم أبو بكر الصديق- مستهزئين قائلين: هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم أنَّه قد جاء هذه اللَّيلة بيت المقدس وصلَّى فيه ورجع إلى مكَّة؟
وكما كانت صولتهم أقوى عنفوانًا، كانت وقفة أبي بكر رضي الله عنه أثبت إيمانًا، وكان ثبات القلب البكري أقوى من زلزلة التشكيك المكي، وجاءهم الرد الـمُسكت الصادم
«والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك! فوالله إنه ليخبرني أن الخبر يأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه» (ابن هشام، السيرة، جـ 2، 31)
لقد خلق الله تعالى ثلاثة أصناف من مخلوقاته شديدة التباين في فحواها ومبناها
الملائكة، وهم لا يفعلون إلا الخير
الشياطين، وهم لا يقترفون إلا الشر
البشر، وهم في الوسط بين الطرفين، أو هم يجمعون بين النقيضين
ومن ثم يجب على بني الإنسان أن يحافظوا على هذا التوازن، وألا يكونوا متطرفين في الميل؛ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فالفطرة البشرية لا طاقة لها بنورانية وحياة الملائكة، فتصير مثلهم تمامًا، وليست بقدر السوء والظلامية التي عليها الشياطين فتنجذب إليهم بالكلية، إنما يجب على الإنسان الاعتدال بين الإفراط والتفريط، وأن يكون على فطرته التي فطره الله تعالى عليها، وأن يدرك هدفه وغايته، ويعرف أن شغله الشاغل هو «الاستعداد لما بعد الموت»، والاستعداد ليوم الرحيل، والحشد للوقوف بين يدي الله تعالى يوم القيامة، فتكون غايته الدنيوية هي حماية قلبه من نزغات الشيطان، وعمله هو تعريضه للنفحات الرحمانية، فيحافظ على قلبه سليمًا كما كان في أصل خلقته
يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في الحديث
ما من مولود إلا يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه» (البخاري، الجنائز، 80)
وتعني هذه الحقيقة أن البناء الفطري والسليم للقلب هو «الإسلام»، لكن حين يتعرض القلب لتأثيرات سلبية، تفسد بنيته السليمة ويفقد الاستقامة
لكن ثمة قلوب لها من المناعة والقوة والقدرة ما يضعف هذه التأثيرات السلبية فلا تنالها بسوء، تلك هي القلوب المليئة بالتجليات الروحانية، التي جعلت الأخلاق الحميدة شعارها، والأعمال الصالحة لها ديدنها، والأحوال المعنوية غايتها، وانهالت عليها الفيوضات من عالم المعنويات، كما ينهال القطر من السماء، فيجعل الصحراء جنات وأنهارًا. وبهذه الطريقة وحدها ينال العبد سر الاحتفاظ بالأصل الفطري له، والذي هو (أحسن تقويم)
وللقلوب عيون تُرفع عنها الحُجُب، ولا تَظهر في سمائها السُحُب، فترى الحقائق والدقائق، ولا يتوارى عن أبصارها أسرار ولا رقائق، وهي القلوب ذات البصيرة والفراسة في النظر إلى الحادثات والمخلوقات
وأصحاب هذه القلوب المبصرة هم أهل التربية والإرشاد، المجاهدون لكل ما يصرفهم عن سبيل الرشاد والحق
أما منْ فقد مزية الصدق في الإخلاص والسعي، فقد كبا جواده بعيدًا عن مرحلة اليقين، وصُمَّت أُذنه عن كلمات الأولياء والمرسلين، فأقعده عناده عن الطريق، وصده تكبره عن المسير، وهوت به نفسه إلى ظلمات قسوة القلب والضلال؛ بل يحسب نفسه أنه قد أحسن صنعًا، ويشفق على العميان فاقدي الأبصار بينما هو فاقد للبصر والبصيرة
وقد أعطى الله تعالى للإنسان الـمُكلَّف القدرة على الأفعال، والإرادة في الاختيار، والتمكن من فعل الخير أو الشر، والرغبة في الميول الملائكية أو الشيطانية بكل حرية ومحض إرادة
لكن الذي يحدد اختيار الإنسان، ويتحكم في توجيه إرادته هو قلبه، ومدى ميله إلى النزعة الشيطانية أو الملائكية، وعمق تأثر هذا القلب بالمؤثرات الخارجية أو الميول النفسانية، ومستوى استقامته أو انحرافه عن غايته الأخروية
فإذا وقعت القلوب تحت سلطان النفسانية وملأتها الطموحات الشهوانية انعدمت فيها الأخلاق، وران عليها الفسق والنفاق، وغلفها الشرك، واغتالتها الوساوس، فخالفت فطرتها، وضلت طريقها وغايتها، وكانت -وفق التعبير القرآني (أَضَلّ) وأقل وأذل من مرتبة الحيوانات، تحتاج لعلاج طويل، وجهد جهيد في تخفيف علتها، والبرء من أدوائها