ماهية النفس
عندما خلق الله تعالى سيدنا آدم أبًا للبشر كرَّمه وكرَّم نسله وذريته، فجعلهم من أفضل المخلوقات؛ لذا فقد شاءت العناية الإلهية أن تجعل العمل والطاعة سببًا لدخول آدم وبنيه الجنة، فاستقرارهم في الجنة يكون جزاءً لما عملوا في الدنيا منَّةً من الله تعالى وكرمًا منه سبحانه، وقد تحققت هذه الإرادة الإلهية كما جاء في القرآن الكريم، فقد كان الزلل البشري الذي وقع فيه سيدنا وأبونا آدم عليه السلام هو السبب الظاهري للخروج من الموطن الأصلي لبني آدم، ونزولهم إلى دنيا الاختبار وعالم الامتحان، وكان عليهم للعودة إلى الجنة والموطن الأصلي أن يتجاوزوا الكثير من الصعوبات، ويقدموا الكثير من التضحيات
وعلى غير المنهج الرباني في المخلوقات، جَبَل الله تعالى الإنسان جِبِلَّة مغايرة، فلم يفطره على الخير المحض، ولم يخلقه على الشر المحض؛ بل هداه النجدين، وأعطاه النقيضين
ولأن الإنسان هو أكرم المخلوقات وأشرفها، فقد ترك الله تعالى له حرية الاختيار، وتحديد المكانة التي يرنو إليها من أقصى اليمن إلى أقصى الشمال، فإما أن يهوي إلى أسفل سافلين، وإما أن يرقى إلى أعلى عليين، فيحدد هو بنفسه درجته، إما أن يكون كالأنعام أو أَضل، وإما أن يكون كالملائكة بل أجلَّ، وذلك وفق إرادته واستعداده، وما تهديه إليه فطرته خيرًا أو شرًا
ويتوقف اختياره والمكانة التي يتبوؤها على نتيجة الحرب الضروس التي تدور رحاها في جوانحه بين نوازع الخير ونوازع الشر، هذه النوازع تمثل جيشين متحاربين في فطرة نفس واحدة، الميول السلبية من ناحية، والميول الإيجابية من ناحية أخرى؛ كلٌّ يجهز عُدته وعَتاده، ويحمل على الآخر ويجلب عليه بخيله ورجله
ومنشأ هذه الميول -كما يرى الفكر الصوفي- يعود إلى ما يسمى «الروح الحيوانية»، و«الروح السلطانية»، فما هما هاتان الروحان؟
الروح الحيوانية: هي تلك القوة الحيوية التي تسري في جسد الإنسان، فتحفظ حياته، وتمده بعوامل البقاء، وهي التي نسميها «النفس» أو «الروح»، وهي المسؤولة عن العمليات الحيوية لاستمرار حياة الإنسان، إراديًا ولا إراديًا، في يقظته ونومه وحتى في حالة غيابه عن الوعي، كالتنفس وعمل المخ وسريان الدم ونبضات القلب، وغيرها من النواحي البيولوجية
هذه الروح هي التي تنتهي بنهاية الحياة، والتي تخرج مع الموت، ومركزها إما في الرأس والدماغ، وإما في الصدر والقلب؛ أما انتشارها ففي كل أعضاء الجسد وخلاياه، ومع كل قطرة دم تسري فيه، وهي الروح الحيوانية المرتبطة بعالم الخَلق والجسد
لذا فهي المسؤولة بشكل ما عن الحركات والسلوكيات والأفعال، ومن الضروري أن تخضع - هذه الروح الحيوانية- إلى التربية والإصلاح حتى لا يكون اتجاه الإنسان ونوازعه إلى الميول السلبية وحدها
الروح السلطانية: هي تلك النفخة الإلهية التي بثها الله تعالى من روحه في الإنسان، فميزته عن سائر مخلوقات الكون، هذه الروح الآتية من عالم الغيب هي التي تتحكم في العالم القلبي للإنسان، وفي أعماله الصالحة، وهي تسكن الجسد البشري إلى حين أيضًا؛ لكنها لا تنتهي بنهايته كما هو الحال في الروح الحيوانية، إنما تغادر الجسد، وتنتهي ولايتها عليه بمجرد موته وفنائه
وكلاهما موجود في الإنسان -الروح الحيوانية والروح السلطانية- فأيهما كانت له الغلبة والسيطرة والتوجيه، كان توجه الإنسان وعمله، فإما أن تخلد به الروح الحيوانية إلى الأرض وطينها وشياطينها، وإما أن تصعد به الروح السلطانية إلى السماء وأفلاكها وأملاكها
وكل ذلك معلق بإرادة الإنسان وقدرته على السيطرة والتوظيف والقيادة، وذلك بقدر معلوم، وهو مناط التكليف، ومبعث الثواب والعقاب والحساب
وفي هذا المعترك الدنيوي الذي يدور الإنسان في رحاه، ويحاول أن يجتاز عقباته، يجد أن أكبر تلك العقبات هي النفس، وليست النفس في ذاتها، إنما فيما تجر إليه من كبوات، وما تتبعه من شهوات
أما جوهر النفس وكنهها فهو جوهرة ثمينة، ومعدن نفيس إذا نفى عنها الإنسانُ خَبَثَها بالمجاهدة، وعمل على تجليتها وتلميعها بالسلوك، وهذبها وشذبها كالجواهري، فأبدى جمالها، ووضعها في موضعها الذي تستحقه بالعمل الصالح؛ وكل ذلك عبر التربية المعنوية
أيها الإنسان إنك تجني ما زرعت، فمن جاهد وَجَد، ومَن زرع حَصَد، ومن سلك بلغ، ومن تَزَكَّى تَرَقَّى
هَب أنك مغترب سعيًا وراء المال، فهل تضيع الوقت وتبخل بالجهد الذي يمنحك المال، طبعا لا، فما بالك بغربة الدنيا التي تجمع منها مال الآخرة
يقول البوصيري في البردة
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
والنفس كذلك مثل الفرس القوي، فإما أن تلجمه وتتحكم في قوته، فيقطع بك الطريق إلى غايتك، وتكون قوته في خدمتك؛ وإما أن يهيم بك جامحا، تسيل به الأباطح، فلا يصل إلى غاية، ولا تستقر به نهاية، إلا هلاكًا أو هاوية
والفرس لجامه التربية، وسرجه الاتباع والانقياد، وترويضه المجاهدة والسلوك
والفيصل في مسألة النفس هو التربية، فمن أخضعها للتربية فقد زَكَّاها، ومن تركها لهواها فقد دَسَّاها
والنفس التي تحملها بين جنبيك مثل الفرس الذي يحملك، كلما كان ضامرا كان سباقًا، وكلما أجهدته قطع بك أبعد المسافات، وكلما حفزته على تخطي العقبات قويت سواعده، وبلغ الغاية، وإنما تكون عظمة النتيجة وكبر الجائزة على قدر العرق المصبوب، والجهد المبذول
لكن ذلك كله منوط بمن يروِّض الفرس، وليس بالفارس وحده، فليس اللجام هو الذي يكبح جماح الفرس، وليس السرج هو الذي يسهِّل قيادته، إنما هو الـمُرَوِّض الذي يعرف طبعه، ويدرك فنون سياسته وقيادته، ويدرك أسباب جموحه ونفوره، ويعالج كبواته، ويجيد التحكم بزمامه
والنفس كالفرس في احتياجها لمن يروضها ويسوسها، ويعرف طبائعها، ويدرك أساليب علاجها، ويهديها سبيلها لتبلغ غايتها، وتحتاج أيضًا لمن يساعدها على القيام من كبواتها، وعلى تجاوز عثراتها، ومواصلة الطريق رغم العقبات، والبلوغ إلى أقصى الغايات وأرفع الدرجات
إنه المرشد المعنوي الذي يقود نفسك في طريقها، ويسوسها في سلوكها، وينقذها من غفلتها، ويملأ فراغها، ويكفيها من حرمانها، ويطلعها على حقائق النفس والكون
إن أبرز سيئات النفس، وأشد جوانبها ظلامًا أن تكون حاجزًا بين العبد وربه، وحجابًا بينه وبين طريق الهدى، فتحرم القلب من الذكر، وتشغله بما سوى الله تعالى، هنا لابد من إعلان الحرب عليها، والاستعداد لقتالها بكل سلاح، ووضع خطة محكمة للتغلب عليها؛ خطة تخضع لأصول وعلم ومعرفة وتجربة، كي تكون النتيجة مضمونة، والنصر أكيدًا، فجهاد النفس -لكل سالك- هو قدر محتوم
لذا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف مخلوقات الكون يقول في الحديث الشريف
«المجاهد من جاهد نفسه»
فهو الجهاد الأكبر والأصعب والأخطر
والهدف من جهاد النفس ليس قتلها، إنما أسرها لتتمكن من قيادها، ولتحسن السيطرة عليها، والتحكم فيها
لأن الأصل ليس إفناء النفس، بل تجنيبها الإفراط، وتربيتها، وتحديد رغباتها وميولها بالأحكام المطابقة للرضا الإلهي، والإمام الغزالي يشبِّه الإنسان في هذا الخصوص بالراكب على دابة، فيقول
النفس مطية الروح، فإذا ما أطلق الإنسانُ لجام النفس وتبِعها فقدَرُه الهلاك، وإذا ما سعى إلى قتل هذه النفس وإفنائها فلن تكون له مطيةٌ يركبها في طريق الحقيقة، لهذا كله، عليك أن تمسك لجام النفس، وتستفيد منها لتكون مطيتك إلى غاياتك
إن مراعاة هذا المعيار في تربية النفس حاجة تقتضيها الأصول النبوية. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان شديد الحسم والوضوح في أمر الثلاثة الذين أرادوا الغلو في مخالفة الفطرة، ومنع النفس عن حاجاتها الأساسية، فرجل أراد الصيام الدائم، ورجل أراد القيام المستمر، ورجل أراد التبتل والانقطاع عن النساء والحياة الأسرية، فجاء البيان النبوي الشافي بأن هذا الغلو مخالف لسيرته وسنته صلى الله عليه وسلم؛ ومناقض كذلك لفطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها
ولا يتوقف خطر النفس على حجبها لطريق الهداية؛ بل خطرُها كذلك أعظم للسالكين في ذلك الطريق، ولعل أعظم تلك المخاطر وأكبر تلك الآفات على الطريق: العُجْب، والكِبْر
فهي تعجب بذاتها، وتتكبر بطاعتها وعبادتها، وتتطاول على الآخرين بمكانتها من الله تعالى. وهو ما يحتاج إلى يقظة دائمة وحماسة مستمرة في المجاهدة، واحتراسٍ دائمٍ من مكائد النفس، فتعيش حياتَك كلَّها وأنت تخشى مكرها، ولا تأمن شرها، ولا تغفل عن دسائسها
فالمعركة حامية الوطيس، لا تنفك تدور رحاها فتطحن بين شقيها من تدركه الغفلة أو يخلد إلى الراحة، أو ينتابه ضعف الإرادة، أو تخبو جذوة الحماسة في صدره وقلبه. فالمؤمن الواعي، والسالك اليقظ هو من يظل متنبهًا لأخطار النفس، وينصب لها دائمًا المحاكمة العادلة الحاسمة التي تكبح جماحها، وتضمن لها الصراط القويم
وبعد ذلك كله لابد أن يمتلك صاحبها وقائدها إرادة قوية لا تخور، وعزيمة ثابتة لا تفتر، عزيمة تَرَبَّت على منهج القرآن، وإرادة عاشت على منهاج السنة، تدرك كيف تحكم، وتعرف كيف تتحكم
لكن كيف يكون ذلك؟ كيف تقود فرسًا جامحًا، وتتحكم بنوازعَ بشريةٍ الشرُّ مطيتُها والشهواتُ فطرتها؟ إن تربية هذه النفس وتزكيتها أمر جِدُّ خطير، فهيا بنا نقف على حقيقة الأمر