مراتب النفس

النفس في معراجها نحو الكمالات التربوية وصولاً إلى القمم المعنوية تمر بمراحل ومراتب، وتنقسم إلى أقسام سبعة هي

النفس الأمارة- النفس اللوامة- النفس الملهمة- النفس المطمئنة- النفس الراضية- النفس المرضية- النفس الكاملة

النفس الأمَّارة

وجاء اسمها من فعلها الدائم بالأمر، فهي كثيرًا ما تأمر الأعضاء بإطاعة الهوى، وإرضاء النزوات، والتمرغ في الشهوات، وتأمر العبد دومًا بكل ما يبعده عن مرضاة الله تعالى

وهذه النفس واحدة من فريق الشيطان وحزبه، عملها الذنوب، وهدفها اللذات، وطريقها الشهوات، ودأبها المعاصي

والعبد الواقع في أسر هذه النفس الأمارة لا يستطيع مقاومتها، ولا يملك سوى الاستسلام، والانقياد التام لرغباتها وميولها وغوايتها

وفي هذه الحالة تكون «النفس الأمارة» أشدَّ خطرًا وأقوى غواية على العبد من إبليس وشياطينه، وهي حقيقة واقعة يؤكدها ابن عطاء الله السكندري بقوله

إن ما يجب أن تكون أشدَّ له خشية هو نفسك التي بين جنبيك، فهي الخصم الذي لا يفارقك، والعدو الذي لا ينفك يحاربك، أما الشيطان فهو قيد الأسر في بعض الأوقات، ألا ترى أن الشياطين حين تُصَفَّد في رمضان لا تمتنع الجنايات من الوقوع، ولا المظالم من الحدوث، ولا الأخلاق من الانحدار، فمنْ المسؤول عن ذلك كله سوى النفس وغوايتها

وقوله تعالى في الآية الكريمة: (...إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ...) إنما هو إيضاح لمرتبة هذه النفس وصفتها

والشاعر «نوئي زاده عطائي» يشبه النفس بالأفعى السامة، لأنها في مثل خطرها ونعومتها، وفي مثل تخفيها وسُمِّيتها، وفي مثل آفاتها المفجعة، وآثارها على العالم المعنوي للإنسان

يقول عطائي في شعره

    كل خلق ذميم صار كالأفعى ورأس الأفاعي النفس الأمارة

والمؤمن الحصيف الواعي الحريص هو الذي يبذل دومًا كل ما في وسعه للنجاة من لدغاتها وسمومها وآفاتها

إن إعلان حالة التأهب القصوى، والاستنفار الدائم لجهاد النفس ومجابهتها هو طريق النجاة، فرُبَّ غفلةِ ساعةٍ تودي بك إلى الخسران حتى قيام الساعة

فمنْ أراد أن يريح فرسه فاته العَدْو، ومنْ أراد أن يغمد سيفه خسر المبارزة، ومنْ أغمد سيف عقله وإرادته في غمد غفلة النفس خسر المعركة الكبرى في الدنيا والآخرة؛ ذلك هو الخسران المبين، ولا ينجو من ذلك سوى عباد الله المخلَصين، أي هؤلاء الذين يستمدون العون والحماية منه سبحانه، مثل سيدنا يوسف عليه السلام، وقصته مع السيدة زليخة في بيت عزيز مصر، ويقص علينا القرآن تفاصيلَ معبرةً عن عجائب قصة يوسف عليه السلام، ذلك الشاب جميل الصورة، نقي السريرة، والأحوال التي تقلبت به خفضًا وارتفاعًا، حتى كانت الفتنة الكبرى التي نسجت خيوطها امرأة العزيز

ويوضِّح المولى سبحانه هذه الحادثة في الآيات الكريمة الآتية

(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(يوسف، 23-24)

لقد تنزلت ألطاف الله بالمدد الإلهي على سيدنا يوسف عليه السلام، فكانت ترياقًا ضد سموم أفاعي النفس الأمارة المتمثلة في زليخة وحبائلها، أما هؤلاء الذين لم تبلغ نفوسهم اللطف، ولم ترقَ درجتهم إلى نوال المدد، فقد ألجأهم الله تعالى إلى الاعتصام بتقواه، واتخاذها مجنَّة ضد سهام النفس وغوائلها

وقد وضع الله تعالى لنا المنهج الرباني الحكيم الذي يقينا الاقتراب من شواطئ بحر المعاصي، فضلاً عن الخوض فيه. فالإسلام -في تشريعاته الوقائية- لا يحرم الزنا فحسب، إنما هو يحرم ويمنع كل ما يؤدي إلى ذلك الطريق، أو يسهل الوصول إليه من الخلوة والنظرة، وغيرها من المقدمات

فإذا عدنا إلى الحادثة الزليخية ومجمع العبر والبلايا اليوسفية، نجد «البلاء العظيم» الذي تعرض له «الكريم ابن الكريم ابن الكريم»، منذ أن كان غلامًا صغيرًا إلى أن صار رجلاً بلغ أشده، وبلغ معه الاختبارُ أشده، ربما كان ذلك هو الثمن الذي يدفعه في الدنيا، ليكون الجزاء في الآخرة أيضًا بالغًا أشده

لقد اجتمعت عناصرُ وعواملُ وخيوطٌ نسجت طولاً وعرضًا نسيجًا محكمًا في لحمته وسداه، وأفضت إلى ابتلاءٍ قلَّ أن نجد في عالم المعنويات له مثيلا: شابٌ يافعُ الشباب نابضٌ بالحياة، جمع من الحُسن ما لم يجمعه إنسي، ونال من انجذاب القلوب إليه ما جعل صفوة النساء يقطعن أيديهن، ووضع في مكانة تجعل المعصية أقرب إليه من شراك نعله ومتناول يديه

وامرأة جمعت مع الحسن الوافر مالًا أوفر، ومع الجاه والشهرة حظًا أكبر، وإلى جانب ذلك كله جاذبية وشهوة أكثر، ثم تدبيرًا وتهيئة للمعصية أشد حنكة

فقد غَلَّقت الأبواب، وغيبت الحُجَّاب، وهيأت الأسباب، في أيسر معصية تنالها النفس، وأعظم ذنب يقترفه البدن، فقالت المرأة: «هيت لك» في إصرارٍ سبقه إعداد، وأحاطت به تيسيرات، وكلما كانت التيسيرات أكثر كانت الصعوبات على يوسف أكبر، فاشتد عليه البلاء والامتحان، وصَعُبَ عليه الأمر حتى لا يطيقه إنسان، حتى جاءه من الله تعالى مدد وبرهان، ويصف القرآن الموقف قائلاً: «لولا أن رأى برهان ربه، وكان طوق النجاة الذي ألقاه الله تعالى إليه، وحبل السماء الذي تعلق به هو: معاذ الله

«اللجوء إلى الله» هو ملاذ المستجيرين وغوث المستغيثين وطوق النجاة في خضم الحياة، وحبل السماء المنقذ من براثن البلاء؛ لكن منْ يستحق هذا المدد المنقذ، ومنْ الذي يدرك هذا اللجوء المعجز؟

إنهم أهل التقوى؛ الذين قويت لديهم مشاعر مراقبة الله والخوف من سلطانه تعالى، فقاومت مشاعرهم رغبات النفس الأمارة، وتصدت لأوامرها، ونجت من بلواها

ولعل الاختيار الأصعب للشباب مواجهة شهوة امرأة وإغرائها، وقد هُيِّئت الأسباب وأُسدلت الستور

لكن منْ أطفأ نار الشهوة بالتقوى، واستظل في الدنيا بمجنة الأخلاق، كان جزاؤه في الآخرة أن يستظل في ظل عرش الرحمن، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم

رجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله (البخاري، الأذان، 36)

وإذا كان الإغراء والوعد لم يُجدِ مع نبي الله يوسف عليه السلام، فلعل الوعيد والتهديد ينفع معه، فقد تواصل الإغواء، وطال الامتحان، وبعد أن كانت قد هيأت له امرأة العزيز أسباب الغواية فأعرض عنها، وأعدت له أيضًا غياهب السجون، لكن كمالات المقام التربوي وسموه، واكتمال الرعاية الإلهية، وشمول الكنف الرباني، كان السبب الدائم للنجاح والنجاة، وكانت نجاته هذه المرة هروبًا إلى بلاء أقل قسوة وأسهل مراسًا إذ (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِليَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيه)، ثم يكرر اللجوء والاستعاذة بلطف الله وحده، (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، فهو سبحانه صاحب الملاذ الآمن، والركن الركين

*

والتقوى هي القلعة الحصينة، والدرع الواقي، والترياق الشافي من كل آفات النفس الأمارة

وحين تُعرَف النفس على حقيقتها فلن يكون منك إلا الذعر والفرار منها، وها هي الإشارات في قصة سيدنا موسى عليه السلام توضح لنا حقيقة هذه النفس وتجلِّيها

 فلقد كُلِّف سيدنا موسى عليه السلام بالنبوة في طور سيناء، وجاءه عقِب ذلك التكليف الأمر الإلهي

(وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) (القصص، 31)

لقد أظهر الله سبحانه قدرته لموسى عليه السلام في العصا، واستأنس بهذه القدرة، وحين اصطفى الله موسى عليه السلام نبيًا، وتكلَّم معه عن قرب، وألقى عليه بعض التكاليف، خاطبه قائلاً

(وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى) (طه، 17)

فأجابه سيدنا موسى عليه السلام

(قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) (طه، 18)

فأمره الله تعالى

(قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى) (طه، 19)

فاستجاب موسى سريعًا لهذا الأمر الربَّاني

(فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى) (طه،20)

فما كان من موسى عليه السلام إلا أن فرَّ منها

(قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى) (طه، 21)

لقد ذكر سيدنا موسى عليه السلام في كلامه مع رب العالمين، وفي إجابته البديهية عن العصا التي في يمينه أنها من المهمات الدنيوية والعلائق المادية، فأمره الحق تعالى برميها والتخلص منها، وكأنه يأمره أن يخلع من نفسه كل سبب يعتمد عليه من دون الله تعالى، فلا يعتمد على غيره، ولا يتعلق إلا به سبحانه

وسيدنا موسى عليه السلام حين نفذ الأمر الإلهي، وألقى أسباب الدنيا وعلائق النفس أظهر الله تعالى له النفس على حقيقتها حيةً تسعى، وأفعى ضخمة تلقف ما يأفِكون من الأفاعي والحبال، فكان ذعره شديدًا، وهربه بعيدًا، وتجلى الدرس الرباني والمعنى الإشاري في الآيات

«يا موسى، إن تلك الحية هي نفسك، وهي العلائق والأسباب التي تركن إليها من دون الله تعالى، فانظر كيف كانت حقيقتها حين ألقيتها، فإذا هي حية تسعى، وكيف فررت منها فزعًا ومُلئت منها رعبًا

يا موسى، إنك منذ اليوم نبي موحد، فكيف ترتبط بالأسباب، ولا يكون ارتباطك الأعز والأوحد برب الأسباب؟

 كيف تعتمد في عالمك المادي والمعنوي على الأشياء

وكيف يسمح لك أدبك النبوي وسلوكك التوحيدي بأن تعدد أوجه الاستفادة من أشياء ما أنزل الله تعالى بها من سلطان

تذكرُ الأشياءَ ولا توحد رب الأشياء

ثم كيف يكون لك فيها مآرب أخرى؟ بل كيف يكون لك أصلًا اتصال مع أي أشياء أخرى؟

إن أولى خطوات التوحيد تركُ الاعتماد على الأسباب، والتسليمُ المطلق لله تعالى، والتوكل عليه سبحانه حق التوكل

يا موسى، كما ألقيت عصاك، ألقِ كل الأسباب والعلاقات، وتخلصْ من كل الطلبات والرغبات، حينها ترى نفسك على حقيقتها، فتفر منها إلى الله

وقد قيل

منْ سمع بقلبه نداء ربه، ورأى ببصيرته نور جماله، وأدرك سبحات جلاله، فإنه ينخلع من نفسه ودنياه، ومن كل شيء ويلجأ إلى كنف الله، ويأوي إلى فضل وكرم مولاه، ويتجرد من كل أهواء نفسه

*

والإنسان يترك سعادته الحقيقية، ويتنازل عن حياته الأبدية والأخروية -بتأثير النفس الأمارة- في مقابلٍ بخسٍ من اللذة الزائفة الدنيوية الفانية، وهكذا بأقل القليل تغريه على ترك منازل عليين، لتهوي به إلى أسفل سافلين

هذا الإنسان المبتلى بالنفس الأمارة يركبه العناد، فيتنكب طريق الحق، ويعميه الكبر عن النظر إلى سبيل النجاة، وتشغله سفاسف الأمور عن معاليها، فيشغله الزور عن الذكر، ويلهيه اللهو عن التسبيح، ويستغرقه الكذب والنميمة والأفعال الذميمة عن لطف الذكر وطيب الكلام والأفعال العِظام

فهل يترك الجنةَ إلا جاهلٌ، وهل يعمى عن جمال الله تعالى إلا غافل، وهل يتنازل عن السعادة الأبدية إلا إنسان خُتم على قلبه وسمعه وبصره

إنها النفس الأمارة التي تسيطر فيها الروح الحيوانية على الروح السلطانية، وتتحكم الصفة الحيوانية بالنفس حتى تفقد الصفة الإنسانية

ويقول المولى عزَّ وجل في هؤلاء

(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف، 179)

إن هذه هي صفات أهل الغفلة، الذين تحجرت مشاعرهم فلا يقدِّرون حقيقة الأشياء، ولا يرونها على طبيعتها، فيسوغون لأنفسهم سدورهم في غيهم، متعللين بتأجيل التوبة وتأخير العذاب، أَلْبَسَ عليهم الشيطان مفاهيم الأشياء، وقلَّب لهم الأمور، فكأن الإمهال إهمال، وكأن الرحمة إغفال، وكأن الآية تِلو الآية، والفرصة تلو الفرصة، تأييد على الباطل، وتغييب أبعد لغفلة الغافل؛ حتى استمرؤوا الذنوب، واستلذوا المعاصي، واستصغروا الكبائر، وتهاونوا وتناسوا ظُلمة المصائر

 وما أعظم تحذير الله تعالى عباده حين يقول

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (لقمان، 33)

 ومن مساوئ النفس الأمارة أنها تعبث بمشاعر الإنسان فتشوه مفاهيمه، وتُضعف عقله ومداركه، فهو في غفلة شديدة عن السعي الحثيث نحو الآخرة، يعبُر صحراء الدنيا بلا زاد ولا راحلة، يأوي إلى واحة غنَّاء في طريقه فلا هو يتزود منها ولا يستعد لما هو مُقدِم عليه، فلا هو بالخير يتزود، ولا عن الشر ينتهي

وفوق ذلك كله إذا تصادف أن قام أحدهم بخير ما مهما كان قليلاً، فهو في عينيه كبير، وفي موازينه كثير، لا يزال يكبر في نفسه حتى يشغله عن غيره من الخيرات، وإذا اتفق أن شعر ببعض الندم على منكر ما، فلا تزال به نفسه الأمارة تطمئنه وتواسيه حتى يتلاشى تأثير الندم، ويفقد الإنسان قدرته على التغيير في السلوك نحو الأقوم، ويفقد قدرته على التوجيه في الطريق نحو الخير

إن المؤمن في هذه المرحلة كمريض بحاجةٍ إلى دواء ليتخلص من النفس الأمارة، وينتقل إلى النفس اللوَّامة، ولذلك كان من أهم الأصول الضرورية في التداوي المعنوي محاسبتُه لذاتِه محاسبةً دقيقة. ويجب على العبد أن يعرف أن الله -صاحب العظمة والجلالة- مطَّلعٌ على كل شيء، فيعزم على التوبة، ويفكِّر في الأسئلة التي ستُوجَّه إليه في القبر، والحساب يوم الحشر، والعذاب الشديد في سقر، ويجب على العبد أثناء التوبة أن يُخلِص ويشعر بالندامة، ولا يناجي الحقَ تعالى بلسانه فقط، بل يناجيه بالقلب أيضًا

فالندم حين يعض القلب ويسكب فيه مرارته، يُخرج منه حبَّ المعصية والإصرارَ عليها، فتكون التوبة نصوحة صافية، وليست شعلة من النار تهيج فجأة ثم ما تلبث أن تخمد، وحين تبرد حرارتها يبحث القلب عن معصية يروي بها ظمأه إلى الذنوب واللذة الشهوانية ولسان حاله يقول

رمضان وَلَّى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ

فهى توبة زائفة مؤقتة، وهي توبة المنافقين المستهزئين بمقام التواب، غير المدركين لعظمة الغفور الرحيم

أما التوبة الحقيقية فهي التي يروي بذرتها الندمُ، ويشيد بنيانها تركُ الإصرار، وينمي فروعها التعهد بعدم العودة، وينبت ثمرها ترك المعصية أبدًا

وفي طريق التوبة والتخلص من النفس الأمارة، يجب على العبد أن يجاهد ساعيًا في معرفة كلمة التوحيد، والتعمق في روحها، وإدراك حقيقة معانيها، وتنفيذ متطلبات القول، وما وراءه من فعل، والفعل المطلوب في الأساس -تنفيذًا لكلمة التوحيد- هو مراعاة الأحكام الشرعية الضرورية على أقل تقدير

وبمجرد قول «لا إله» يجب أن تنفي من قلبك -كما نفيت بلسانك- كل الأغيار من دون الله تعالى، وكل معبود للشهوة سواه، فتنفي كل أوثان الهوى، وتحطم كل أصنام الرغبات، وتمحو آثارَ كلِّ تعلقٍ بغير ذاته سبحانه، وتنفي كل توجُّه وقصد لغير جلاله تعالى

ثم بعد أن تنظف قلبك من كل تماثيل الشرك، تنطلق كلمة «إلا الله»، ومعها تثبِّت حقيقتها في جوهر قلبك، فيكون القلب هو عرشه وحده، لا يدنو من مكانه شيء من رغبات النفس، فلا يكون في قلبك إلا الله، حينها يرتقي إيمان العبد من التقليد إلى التحقيق، وتنتقل أعماله الصالحة من التمثيل إلى التوثيق؛ ليبلغ في النهاية إلى كمالات الطريق

وكان من دعاء محمد أسعد أفندي

جعلنا الله آمرين للنفس الأمارة ونائلين للنفس المطمئنة بمقتضى مقولة: (الحُرُّ منْ كان أميرًا على نفسه) وجعلَنا من المستحقين لمقام خطابه الجميل حين قال

(فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي) آمين

النفس اللوَّامة

يدرك المسلم أن الله عفوٌّ غفور مهما ارتكب العبد من المعاصي، فهو يركن إلى هذا الغفران، أما إذا أراد التوبة بصدق، وشعر بالندم يحرق الأعماق، وجاهد نفسه للإقلاع عن الذنوب؛ عندها ينتقل المرء من حالة النفس الأمارة إلى حالة النفس اللوامة

واللوم في اللغة يعني المؤاخذة والتقريع، والنفس اللوامة هي التي يغالبها الشعور بالندم على ما قصرت في جنب الله تعالى، وما أهملت من حقوق وواجبات، وهي النفس التي تلاقي تعذيب الضمير في كل حين على انحرافها عن منهج الله وعدم التزامها بأوامره ونواهيه سبحانه

هذا اللوم والندم هو المقدمة الأولى الأساسية للتوبة، والمدخل إلى المغفرة، والخطوة الأولى نحو طريق الهداية، والبعد عن طريق الغفلة، والانتصار -المؤقت- على الرغبة في اقتراف الذنب

ويحدث الندم بعد الوقوع في الذنب مباشرة، عندما تتخلص الروح السلطانية من أسر الروح الحيوانية، فيلوم العبد نفسه، ويعيب عليها معصيتها، ثم يشرع في الاستغفار

وتبدأ بوادر الإفاقة من الغفلة، فتجد في قلبك بعضًا من نور، فتسرك حسناتك، وتحزنك سيئاتك، ثم لا تجد ميلاً قويًا للشهوات، ولا اندفاعًا نحو الرغبات، بل سعيًا من النفس لمجاهدة الإفراط في السيئات، والبعد عن المعاصي

وهذه حالة الخاضع لأمر الله تعالى على الدوام، المكثر من الأعمال الصالحات، المخلص فيها لوجه الله تعالى

لكن ذلك الإخلاص منقوص غير تام، فلم تصل أنفسهم بعد إلى حالة النضج والطمأنينة، ولا أرواحهم إلى حالة السكينة التي يلهمها إياها الفيض الرباني، فهم رغم عملهم لوجه الله تعالى يرغبون أن يطَّلع الناس على تلك الأعمال، وأن يشتهروا بتلك الأحوال، وهم بذلك ما زالوا يحملون بعض طبائع السوء للنفس الأمارة، فتلومهم النفس اللوامة

وقد ورد في القرآن الكريم اسم هذه النفس حين أقسم المولى عزَّ وجل

(وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة، 2)

هذا الاسم «اللوامة» ليس مجرد كلمة ينطقها اللسان؛ إنما هو فعل وشعور تدور رحاه في الجنان ليؤدي إلى النتيجة المطلوبة، وهو عبور الحد الفاصل والدقيق بين «النفس الأمارة»، و «النفس اللوامة»، وإلا منعك الكبر من لوم نفسك لومًا حقيقيًا، فبقيت تحت حكم النفس الأمارة

يقول المولى سبحانه في الآية الكريمة

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق، 16)

لذا؛ يجب على الإنسان أن يكون شديد الحيطة والحذر من وساوس هذه النفس ومداخلها، وألا يأمن جانبها، وألا يتهاون في مراقبة أفعالها، فهي تُفسد من حيث تُظهر الإصلاح، فتراها تُظهر التواضع المصطنع أحيانا؛ لأنها تريده، وتحب أن تُحمد عليه، فقد أصابها الرياء، وفارقها الإخلاص، وانزوت فطرتها، فتوارى «التواضع»، وجاء الفخر بالتواضع

ويستطيع المرء أن ينجو من هذه الوساوس، ويغلق أمام وساوس النفس تلك المداخل إذا هو أخضع نفسه للتربية المعنوية، وآنسها بصحبة الصالحين، ومتابعة المرشدين، عندها يتحقق الثبات على التوبة، والتطهر من خبائث الأفعال

ولكن تبقى هناك في القلب بعض العادات، وفي الروح بعض الآفات، وعليك أن تواصل الجهاد والانتقال من مرحلة إلى أخرى أعلى منها، وأن تتجاوز مرحلة النفس اللوامة إلى غيرها

والمرحلة التي تلي مرحلة النفس اللوامة هي «النفس الـمُلهَمة»، لكن التجاوز إلى هذه المرحلة يحتاج إلى أحد الأصول المهمة في التربية المعنوية، وهو ما يسمى «الرابطة»، إنه الارتباط القلبي الدائم مع المرشد الكامل، فالمرشد الذي أخذت عليه عهدك وأسلمت إليه قيدك، عليك أن تلتصق به كالرضيع مع أمه

تتطلب مرحلة النفس الملهمة الالتزام التام بالأوامر الإلهية، والحذر التام في كل السلوكيات والأحوال، ومداومة حساب النفس ومحاكمتها على كل صغيرة وكبيرة، وتجديد التوبة في كل حين، ثم السعي بتدرج للتخلص من آفات قلبك وعيوب نفسك ومذمات أخلاقك، فتتعرف على أكثر طباعك سوءًا، وتبدأ صادقًا في التخلص منها والتحلي بضدها رويدًا رويدًا، وسيساعدك في ذلك أن تنظر إلى إخوانك المؤمنين لتراهم بمرآة نفسك، وتعلم أنهم أيضًا يرونك بالمرآة نفسها، فالمؤمن مرآة أخيه، فإذا أحببت أن يروك كما تراهم، أو إذا خجلت ونفرت، فستعلم كم هي مسيئة تلك العيوب إليك، وكم هي مشوهة لصورتك، وكم هي بغيضة إليك وإليهم، فتهجرها مليًا، وبعون الله الله تتنزه عنها و تتبرأ منها

والذكر الدائم لله عزَّ وجل هو أحد معارج الوصول لهذه النفس الملهمة، مع اليقظة التامة في مواجهة المعاصي، والسعي قدمًا لأن تملأ قلبك بنور الله عزَّ وجل ومحبته

 النفس الـمُلهَمة

وهي المرتبة الثالثة من مراتب النفس، والمرحلة التي تصل إليها بعد النفس اللوامة، وذلك حين تغلب عليك التوبة من الذنوب، ويصبح ديدنك الاستغفار من المعاصي، وتجاهد للصدود عنها والحذر منها، وينصرف قلبك عن سبيلها منشغلاً بجهاد نفسك تحت مظلة الإرشاد المعنوي، وفي أُنسِ الصحبة الصالحة مدعومًا بكنف وحماية الرابطة

وفي هذه المرحلة يكون العبد قد وصل من الإخلاص إلى درجة تجعله متوجهًا إلى الله تعالى، واضعًا رضاه سبحانه نصب عينيه، منشغلاً عن مراءاة الناس، متعلقًا قلبه بربه، متغافلًا عما سواه تعالى، وبفضل لطف الله وفيوضاته يصبح قلبه فرقانًا بين الخير والشر، ومجنَّة ضد الهوى، وماءً يطفئ نار الشهوة، ونسيمًا يلطف حرارة الرغبات، ويصفو القلب لتتجلى فيه حقائق الإيمان

وقد جاءت كلمة «مُلهَمة» التي تصف مرتبة النفس هذه من القرآن الكريم حين قال الله تعالى

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس، 7-8)

أي إن النفس الـمُلهَمة هي النفس التي تتلقى الإلهام، والعبد الذي يعيش بهذه النفس ينكشف له قليل من المعرفة والكشوفات والحقائق من لدنه تعالى، وذلك ببركة مراعاته الأوامر والنواهي الإلهية على أفضل وجه، فيتوجه حينئذ العبد بالعشق إلى عالم الأرواح، ويصل إلى النضج الذي يُمكِّنه من نيل بعض النسمات والإلهامات الربانية، بيد أن فهمها وتمييزها -أرحمانية هي أم لا- يتطلب الخضوع المطلق لمرشدٍ معنوي

وينبغي الحذر الشديد هنا أيضًا، فالنفس التي أصابتها الهزيمة، والروح الحيوانية التي طُردت من سلطانها، لن تستسلم بسهولة، ولن تترك الروح السلطانية تستمتع بالانتصار، وتتذوق حلاوة الكمال؛ بل تناوش وتحاور وتراوغ، ولا تنفك تدبِّر حيلها ودسائسها الخفية، حتى لا يهنأ العبد بكمال التسليم والتوكل على الله تعالى، وحتى لا يتحقق له الكمال الظاهري والفعلي في الباطن

وبالتالي؛ لا تزال الطبائع السيئة تجد لأقدامها موطنًا في النفس، ولا تزال الأخلاق الخبيثة تجد لآفاتها أثرًا في القلب، مع أنها لا تكون متجذرة، فتجد أثرًا للوساوس وضيق القلب والأوهام والشهوات، وشيئًا من القلق وعدم ثبات للطمأنينة، ولا تجد سعادة التسليم الكامل لله تعالى

ولا يزال طول الأمل يداعب الإنسان، ولا تزال هموم العيش والمعيشة تشغله، والقلق على المستقبل والخوف على الرزق يشاغله، ولم تركن النفس تمامًا إلى فضيلة التوكل، ولم تستوعب تمامًا معاني اسم الله الرزاق

إذًا، فالتسليم لله تعالى، والتوكل عليه سبحانه لما يتحقق بتمامه في القلب، والرضا بقضائه عزَّ وجل لما يترسخ في المشاعر؛ بل يكون فقط تقليدًا ظاهريًا

إذ إن نجاح العبد في هذه المرحلة هو نجاح صغير، متمثل في هزيمة الروح الحيوانية، وترك رغبات النفس وتأديبها بعض الشيء، ولمَّا تأتِ بعدُ مراحل غرس الطبائع الجميلة والأخلاق الحميدة واستنباتها

وهنا تكون نجاحات الرياضة والمجاهدة في «ترك» ما تُسر به النفس، لكن هذا الترك لابد أن يتبعه فعل، وهو «ذكر الله»، وذكر الله تعالى يجب أن تُراعى آدابه وتُسلك دروبه بالإرشاد المعنوي والهداية الربانية من لدن أولياء الله

فلن يستقر الذكر في القلب ويصفو، والقلب لا زال مأخوذًا بهموم الدنيا وشواغلها. إنما يصفو الذكر حين يكون الذكر للتلذذ، والتسبيح مفعمًا بالعشق الإلهي، والتكبير ممتلئًا بالوجد، وليس ذكرًا يهدف منه إلى التداوي فقط، والتخلص من العيوب

وإذا كان الذكر للحب وبالحب، فحينها يطَّلع العبد عبر الإلهام الربَّاني على أسرار الكون، ويتعجب من مظاهر القدرة الإلهية أمامه ويندهش منها، ويصل قلبه إلى الاطمئنان، ويبدأ بإدراك قول الله تعالى في الآية الكريمة

(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل، 125)

وحين ينال العبد من ربه ذاك النوال، ويمسه من لطفه سبحانه ذاك الجمال تنضح كلماته بالحكمة، وتتألق كلماته بالموعظة

وكلما توغلت أكثر في هذا الدرب، وكلما نوَّرت بالذكر جنبات القلب، وكلما صرت مهيئًا لفيوضات الرب؛ تصاغرت في نفسك الروح الحيوانية، وازدادت سيطرة الروح السلطانية، وتصاغرت لديك الميول السفلية، وصرت أكثر تواضعًا وقناعة وكرمًا، وقويت عندك روح المسامحة وسعة الصبر وقوة التحمل

بيد أن إحدى آفات هذه المرتبة هو ظن المرء أنه «صار شخصًا أفضل»، وهذا ما قد يجرُّه إلى الكِبر والعُجب إذا ما أصابته الغفلة، لهذا يجب على المؤمن في مرتبة النفس الـمُلهَمة أن يعلم دائمًا أنه تحت المراقبة الإلهية، ويرتكز في أحواله وسلوكه على مشاعر التواضع وإدراك فنائه، وينبغي له أن يتفكر في الموت وعدم الغفلة عن التفكير في الآخرة

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف

«أكثروا ذكر الموت فإنه يمحِّص الذنوب، ويزهد في الدنيا، فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه، وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم» (السيوطي، الجامع الصغير، جـ1، 47)

وينبغي على السالك الذي وصلت نفسه إلى هذه المرتبة أن يحيا بمقتضى نصيحة سيدنا عمر رضي الله عنه حين قال

حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن لكم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر، وإنما يخِفُّ الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا

النفس المطمئنَّة

هي النفس التي اطمأن فيها الإيمان ورسخ اليقين، فسكنت بتقواها وقويت بأخلاقها، وتطهرت من أمراضها، وسمت بالذكر روحها، بالامتناع عن نواهي الشرع، والامتثال لأوامر الحق

في هذه المرحلة والمرتبة تمت عملية التخلية بإخلاء النفس والقلب والروح من كل الآفات والأمراض والأغراض، وإغلاق منافذ الوساوس ومواضع الدسائس، ليصبح المجال بعد ذلك طاهرًا مهيئاً لعملية التحلية، فتترسخ محاسن الأخلاق، ويكون المرء جديرًا بأن يتخلق بأخلاق سيد الخلق، وأسوة البشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصير حليته الصبر، ووسامه التوكل، وقلادته الرضا، وتاجه التسليم لله سبحانه

والنفس المطمئنة هي نفس أهل التقوى واليقين، وهي مرتبة أهل الله العارفين، الذين انشغلت بذكر الله قلوبُهم، واطلعت على بواطن أحكام الشرع عقولهم

يقول الإمام الرباني قدس الله سره

«إن العبودية والعبادات هي محض تقليد، لكن حين يصل المرء إلى مرتبة النفس المطمئنة يغدو التقليد تحقيقًا»

ويقول شيخنا سامي أفندي

«إن دخول الإسلام بالمعنى الحقيقي منوطٌ بالتخلص من النفس الأمَّارة، واتباع أوامر الله تعالى، وبناءً على ذلك، تُطلق كلمة (الإسلام المجازي) على الإسلام الذي يُصدِّقه القلب فقط قبل الوصول إلى النفس المطمئنة، وتُطلق كلمة (الإيمان الحقيقي) على الإيمان بعد أن تصل النفس إلى مقام النفس المطمئنة

أما الترقي في العبودية إلى مستوى التحقق، فهو الوصول إلى «مرتبة الحقيقة» الموجودة في تسلسل الشريعة، والطريقة، والحقيقة، والمعرفة

وكلما ارتقى العبد في طريق السلوك والمجاهدات ازدادت الأعباء الملقاة على كاهله، ولم تنفعه المبررات التي يتعلل بها عند الكبوات، فإذا وصل إلى سن الرشد في الطريقة بعد أن يُكمل السير والسلوك، وتنتهي مرحلة الطفولة المعصومة التي لا يُؤاخذ فيها على عيوبه، ولا يُلام على هفواته؛ حينها يصير مسؤولاً مؤاخذًا على أصول الشريعة وآداب الطريقة، وهنا تقف مسؤوليته عند حدود درجته، ولا يُحاسب على آداب الحقيقة إلا بعد أن يخطو خطوته الأخيرة في مرحلة «النفس المطمئنة» عبر الحقيقة»، ويكون قد وصل إلى سن الرشد فيها، ليُحاسب بمقتضى آدابها

وتختلف موازين الأخطاء باختلاف الدرجات، وكما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فإن بعض المباحات في «الشريعة» تُعد ذنوبًا في «الطريقة»، وبعض الهفوات في الطريقة تعد كبائر في «الحقيقة» لدى العارفين

وإذا ضربنا لذلك مثلاً نقول

الإسراف في الطعام لدى الشريعة هو الأكل بعد الشبع

أما الإسراف في الطعام لدى الطريقة فهو الأكل حتى الشبع

والإسراف في الطعام لدى أهل المعرفة فهو -إضافة لما سبق- ألا يرى العبد التجليات الإلهية في النِعَم

وعلى ذلك يمكنك قياس مدى دقة الموازين، وتضخم المسؤوليات مع الرقي في الدرجات

وحين تبلغ النفس المطمئنة عين الحقيقة، وتستروح برد اليقين وراحة السكينة بنوال عناية الله تعالى وتوفيقه بعد أن تخلصت من هموم الدنيا، ومآسي القلب، وجواذب الروح، تنطلق مرفرفة في سماء الوجد لتنال حظها من منحة «الإلهام» والكشف

ففي هذه المرتبة تنزاح ستائر الغفلة عن بصيرة القلب، وتنحسر أغطية الشك عن بصيرة العقل، فيرى كلاهما بعين اليقين حقائق الحكمة، بعد تمام التسليم لله تعالى والاستسلام لقضائه وقدره والاطمئنان لرضائه، ونرى العبد يقبل من التكاليف الدينية والأوامر الإلهية ما ثقل وما غمض بلا أدنى ريبة، ويقوم بها دون أدنى تقصير، وعلى أفضل وجه ولو اضطرته الظروف أن يواجه العالم كله بتكاليف إيمانه وحقائق يقينه، كمثل نوح عليه السلام عندما كان يصنع السفينة في قلب الصحراء منفذًا أمر ربه في يقين لا يدانيه ريب رغم سخرية الناظر، واستحالة الأمر الإلهي في عيون الناس، لكن أهل اليقين ينظرون من نافذة الحقيقة إلى العالمين المادي والمعنوي، فيرون ما لا يراه المبصرون

وأمثال هؤلاء لا يضرهم كيد الكائدين، ولا أذى المسرفين، ولا سخرية المجادلين، فإذا رسخ في القلب اليقين، لن تزحزحه مكائد العالمين

وهاهم سحرة فرعون يأتون في صلف المتكبرين، عونًا للسلطان على أهل الإيمان، يطلبون نوال الدنيا وعطايا أهلها، لكنهم يرون الحقائق جلية، والآيات بينة

وكأن هول المعجزة يسارع في العبور بهم من مرحلة إلى مرحلة في السير والسلوك، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، فيترسخ في قلوبهم اليقين، فيؤمنون ولا يأبهون بما دون ذلك من فوات نعيم الدنيا، وإقبال عقابها الأليم، ويكون الرد الحاسم البليغ على تهديدات فرعون

(قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ. وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) (الأعراف، 125-126)

فاستحقوا بذلك الثناء والنداء الإلهي

(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (الفجر، 27)

هذا الثناء الرباني لم تنله الأنفس الأدنى درجة؛ لا النفس الأمارة، ولا النفس اللوامة، إنما نالته النفس التي اطمأن بالإيمان قلبها، وسكنت باليقين روحها

ثم تواصل هذه النفس جهادها، وتضع مِقْوَدها ولجامها في يمين طاعة الله، وتستسلم لقضائه سبحانه، لتنعم بالوصال مع الله، وتحظى بالدنو من جنابه تعالى، فترتقي في الدرجات، وتداني الكمالات، وتصعد إلى مراتب النفس الراضية، والنفس المرضية، والنفس الكاملة

النفس الراضية

هي النفس التي وصلت إلى حالة الفناء في إرادة الله تعالى، فتلاشت إرادتها أمام إرادته، وفنيت مشيئتها أمام مشيئته، وتوجهت إليه سبحانه بكل كيانها، فلم يبقَ لها توجه ولا رغبة لأحد سواه جل في علاه، فخضعت لحُكمه، وقنعت بحكمته، ورحبت بقدره، وفرحت بقضائه

ويقول الحق تعالى مخاطبًا هذه النفس

(ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) (الفجر، 28)

وكلمة «راضية» في الآية تشير إلى مسمى هذه النفس ومقامها

ذلك الرضا يعني أن تصبر النفسُ على كل ما يختبرها اللهُ تعالى به من امتحانات، وأن تخوض ما قسمه لها من ابتلاءات، وأن ترضى بمراد الله لها من مصائب وملمَّات مهما كثرت وتنوعت، يقول سبحانه

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة، 155)

تُعدِّد الآيةُ أصنافًا وجوانب ومراحلَ من البلايا والرزايا، ثم هي تبشر الصابرين، ولكن الدخول في زمرة الصابرين يتطلب الانتساب إلى زمرة الذين ارتقوا بالنفس، فترضى بما اُبتليتَ مهما بلغ البلاء، ولا تشكو من الرزايا مهما كان القضاء، ولا تتذمر مهما عاندتك الدنيا وتقلبت بك الأنواءُ؛ بل تُبدي التسليمَ والرضا التام، وكأنك تبصر ما وراء القضاء من حِكمة، وما وراء الحكمة من إرادة إلهية

وخير مثال نذكره عن الصبر والرضا هو سيدنا جعفر الصادق رضي الله عنه، فقد مات بين يديه ولدٌ صغيرٌ له من غصة اعترته، فبكى، لكنه تذكر النعمة في هذا الوقت، وقال: «لئن أخذتَ لقد أبقيتَ، ولئن ابتليتَ لقد عافيتَ» ثم حمله إلى النساء فصرخن حين رأينه، فأقسم عليهن ألا يصرخن، ثم أخرجه إلى الدفن وهو يقول: «سبحان منْ يقبض أولادنا ولا نزداد له إلا حباً»، ويقول بعد أن واراه التراب

إنا قوم نسأل الله تعالى ما نحب فيمنْ نحب فيعطينا، فإذا أنزل ما نكره فيمنْ نحبُّ رضينا

ما أشد الابتلاء هنا! وما أعظم الصبر! ثم ما أرقى الرضا! وما أتم التسليم! إنه ابتلاء يناسب سمو المقام وعلو المرحلة، وهي حقيقة وناموس كوني، فكلما ارتقى المرء في الدرجات زادت وقست عليه الابتلاءات، وهو ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث التالي

عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، أي النَّاس أشدُّ بلاءً؟

قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينُه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتُلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة» (الترمذي، الزهد، 57)

وما يساعد العبد على هذا الصبر، وذلك الرضا؛ هو أن يتجاوز عقبة النفس، فيرضى من ربه كلَّ شيء، لأنه في الأصل يرضى بربه، ويقبل بالتالي كل ما أتى من جانبه سبحانه؛ لأنه يدرك أن المحنة تأتي في أعقابها بمنحة، والاثنان متلازمان، فالمكافآت الكبرى تأتي بعد مجاهدة كبرى، وللطريق المعنوي غرائب وتقلباتٌ وأحوال

في هذه المرحلة -النفس الراضية- يستوي في عين العبد الخير والشر، ويستوي في قلبه الغم والسرور، ولأنه يوقن أن كل شيء هو بقدَر الله تعالى، فإن السعادة والأسى عنده سيان، فكلاهما عطية الرحمن

وتلك أبيات الشاعر الصوفي تعبّر عن هذه الحالة

كل شيء من الله جميل أكان وردًا أو شوكًا

أو تاجًــا أو كفنًـا أو قهـرًا أو لطفًــا

إنها ليست كلمات تُقال، ولا مبالغات شعراء يقولون ما لا يفعلون، إنها حقائقُ أحوالِ نفسٍ جاهدت، ونتيجةُ سلوكِ من سار في الطريق وواجه مصاعبه، واعتاد على متاعبه حتى وصل إلى ذلك المقام بعدما أدى مطالبه؛ لذا فالواجب على المرء ألا ينطق بمثل هذه الكلمات هباءً ولا تقليدًا، فقد يأخذ الله تعالى قدرك من لسانك فيعرضك لاختبار المقام وابتلاء المرحلة للتحقق من حقيقة ما تقول، وعندما تجد الاختبار شديد الصعوبة بعكس نطق الكلماتِ شديدة السهولة يكون الإخفاق كذلك أقرب إلى الواقع من النطق والمنطق

أما منْ وصل إلى مقام النفس الراضية حقًا، فإنه يبدأ في الاطلاع على الأسرار الإلهية، ولأنه يدرك معنى الوحدانية بعمق، فإنه يرى الكمالات في العالم الروحاني، وينال شرف تجليات أسماء الله تعالى وصفاته، ويصير هو مصدرًا للنور، وينبوعًا للخير، ونبراسًا للحق، وفيضًا من الأخلاق الحُسنى والشمائل الفُضلى

والنفس الراضية تتبع أوامر الله تعالى بكل سكينة، وتنتهي عن نواهيه بكل طمأنينة، وتؤدي العبادات بكل إخلاص وتفانٍ، لذا فهي تتكاسل أحيانًا في أداء تلك العبادات، لماذا؟

لأن القصد من وراء العبادات التي تُتعب الإنسان الارتقاء في المراتب، أو نيل الكرامات والكشوفات، أو ما شابهها من مقاصد جليلة، ولكن إذا ما كانت غاية الإنسان من السعي هي الحصول على مثل هذه الكرامات، فإنه يغلق الطريق أمامه بنفسه، وتذهب جهوده كلها هباءً، وفي هذه الحالة تظهر المتاعب والمشقات التي تُنسي الإنسان الذكر والفكر، ولذلك لا ينبغي الأمل إلا من أجل رضا الله تعالى من بداية السير والسلوك إلى نهايته

فإذا أردت القرب من الله تعالى، فعليك أن تدرك قربه تعالى منك، وأن تعي معنى أنه سبحانه أقرب إليك من حبل الوريد

كذلك؛ إذا أردت رضا الله تعالى فعليك أن ترضى عن الله تعالى، برضاك عن قدره وقضاه، والسعي في طريقه إلى منتهاه، والصبر على لأواء الطريق وابتلاءاته، لأن في ذلك الخلاص والنجاة

ويقول الإمام الرباني عن هذه المرتبة

«الأحوال والمواجيد والعلوم والمعارف التي تحصل للصوفية في أثناء الطريق (السير والسلوك) ليست من المقاصد، بل هي أوهام وخيالات تربى بها أطفال الطريقة، فينبغي أن يجاوز جميع ذلك، وأن يصل إلى مقام الرضا، الذي هو نهاية مقامات السلوك والجذبة، فإن المقصود من طيِّ منازل الطريقة والحقيقة ليس إلا تحصيل الإخلاص المستلزم لحصول مقام الرضا

النفس المرضية

إذا كانت النفس الراضية هي التي رضيت عن الله تعالى، فإن النفس المرضية هي التي رضي الله عنها بعد أن أتمت هي رضاها عن الله تعالى، وقدمت من الأعمال الصالحات ما تنال به رضاه

هذه المرتبة والمرحلة -النفس المرضية- هي التي أتمت العمليتين الأهم في التربية: التخلية، والتحلية، فتخلت عن كل الأخلاق السيئة والطباع الذميمة والآفات المشينة، ثم تحلت بالأخلاق الحسنة والطباع الحميدة، والفضائل والمكرمات

وفيها يجد العبدُ لذة الرأفة والرحمة والعفو، وحلاوة المحبة والكرم، وجمال الخُلق الكريم

وفيها أيضًا تكون محاسبة العبد لنفسه أشد عسرًا، ومراقبته لها أعظم حيطة، وترصُّده لمكائد الشيطان أشد حذرًا، ويقظته لحيل إبليس أكثر وعيًا؛ حتى إنه يحاسب نفسه مع كل طرفة عين، ويراقبها مع كل شهيق، ويحذرها مع كل زفير

وفيها يكون الاستسلام التام لله تعالى، والتسليم الكامل لمشيئته سبحانه؛ حتى يستوي عنده حنو اللطف وقهر الجبروت، طالما كلاهما من عنده سبحانه، فيكون الرضا عن الحالين هو رضاك عن الله، وذلك هو بشرى المؤمن برضا الله تعالى عنه كذلك في عالم الخلود، كما أشارت الآية الكريمة إلى النفس المرضية في قوله تعالى

(ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) (الفجر، 28)

ويؤكد ذلك أيضًا آية أخرى مبينة لحال أهل الرضا

(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (البينة، 8)

ذلك الرضا هو مرتبة «حق اليقين» التي يطَّلع العبدُ فيها على الخفي من الأسرار، وتنكشف عن بصيرته الحقائق المحجوبة عن غير أهلها، فقد أيَّد الله تعالى بقدرته ما لديهم من حواس وبصائر، وصاروا عبادًا ربانيين، وكأن الله تعالى هو أعينهم التي بها يبصرون، وآذانهم التي بها يسمعون، وألسنتهم التي بها يتكلمون، وأيديهم التي بها يبطشون؛ لأن الله عنهم راضٍ، وهم عنه سبحانه راضون

لذا؛ فإن الله تعالى يكرمهم في مقامهم هذا وأحوالهم تلك، فتتذوق أنفسُهم تجليات الكمال التي يشاهدها العبد في مرتبة النفس الراضية، وتجد ألطاف الأخلاق وجمال الخصال، مثل حلاوة الصبر، وراحة التوكل، ورضا التسليم، وسعادة الرضا

وهذه الخصال هي التي عاشها الأنبياء واقعًا وأحوالاً، وها هو سيدنا يعقوب عليه السلام يفقد أحب أبنائه، ثم يفقد الآخر، فتبيض عيناه، ويشتد بلاؤه، ثم يصف حاله ومآله، فيحكي عنه القرآن الكريم

(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف، 18)

وها هو سيدنا أيوب عليه السلام مضرب المثل في الابتلاء، لكنه أيضًا كان مضرب المثل في الصبر، وحين طلبت منه زوجته قائلة

لو دعوت الله ليفرج عنك حالك»، أجابها: «لقد وهبني الله تعالى ثمانين عاماً عشتها معافى صحيحًا، وإني لأستحي من الله عزَّ وجل أن لا أطيق الحياة في بلائي المدة التي لبثتها في رخائي

وحين رُمي إبراهيم عليه السلام في النار استقبله جبريل عليه السلام بين المنجنيق والنار، فقال: السلام عليك يا إبراهيم، أنا جبريل، ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، حاجتي إلى الله ربي

وثمة نفس أخرى -غير تلك الأنفس التي عرضناها- في مراتب التزكية التي يمر بها العبد السالك في طريقه، وهي مرتبة النفس الكاملة، أو النفس الصافية، وهي المفوَّضة لأهل الكمال

النفس الكاملة / النفس الصافية

وهي النفس التي بلغت بها التزكية والتربية مرتبة الكمال، وتمام الصفاء، وسموَّ النضج، ويستحصل العبد في هذه المرتبة على كل أسرار المعرفة بلطف الله وعطائه، وإحسانه الإلهي، وليس فقط بالعمل، فتلك المرتبة من أسرار القدر

فصاحب هذه النفس قد وصل إلى «مقام الإرشاد»، وصار متحملاً مسؤولية الإرشاد، ومكلفًا بمتابعة رسالة الأنبياء في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، عبر التأثير فيهم بحاله وسلوكه، ومعالجتهم بنفاذ بصيرته في إدراك داء الشخص ودوائه؛ وهؤلاء المرشدون لا يفقدون الأمل في إصلاح الناس مهما بلغوا من الفسوق، فالطريق إلى الله لا يغلق في وجه أحد