التصوف - 2

وصولٌ إلى الكمال بالقرآن والسنة

التصوف؛ هو القضاء على الأهواء والرغبات النفسانية

فبناء على خطورة وأهمية الأمر يقول الحق سبحانه وتعالى  في القرآن الكريم بعد قسم متكرر ومتتالٍ سبع مرات

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس: 9 - 10)

إن كلاً من هيمنة ثقافة العولمة، وأشكال الدعاية والإعلان، المثيرة لغرائز وشهوات  النفس، وصيحات الموضة والأزياء التي تدفع إلى التبذير والإسراف بحثاً عن الرفاهية والنَّعيم، والحملات الإعلامية التي تشنها القنوات الفضائية ومواقع الانترنت ووسائل التواصل وما تقدمها من محتويات سلبية جلبت معها اليوم تلوثاً وانحطاطاً معنوياً وروحياً مريعاً. فقد صارت عوالم القلب والعقل لدى الناس في حالة فوضى عارمة، وانقلبت الأمور فيها رأساً على عقب. واختلطت الغاية والوسيلة. فباتت القاعدة الأساسية في المجتمعات، الحياة من أجل الطعام والشراب والاستهلاك، بدل الأكل والشرب من أجل الحياة، وبعبارة أخرى أصبحت القاعدة نعيش لنأكل ونشرب ونستهلك، بدل أن نأكل ونشرب لنعيش. صارت القلوب أسيرة الدنيا، وأمةً لأهواء وشهوات النفس. وأدخلت حالةُ الاضطراب والتذمر  وانعدام القناعة التي سيطرت على الأرواح، الإنسانيةَ في أزمات ومعضلات فردية واجتماعية. وأخيراً جرى تلقين الناس مفهوماً دنيوياً بعيداً عن كافة الهواجس الأخروية، وكأنه ليست هناك آخرة

ولهذه الأسباب فإن التربية التصوفية التي تعني تزكية النفس، وتصفية القلب تتمتع اليوم بأهمية أكبر من أي وقت مضى. لأن التصوف تعليم وتربية وتدريب على الحمد، والشكر، والرضا، والزهد، والاستغناء، والقناعة. إنه إدراك للحقيقة المتمثلة بأن الحياة الأصلية هي حياة الآخرة، وتخليص للقلب من الرغبات والشهوات النفسانية الدنيوية الزائلة

إن كل شيء في التصوف يبدأ بعد حالة الفناء

فمجاهدة التصوف تهدف إلى اقتلاع الوجود، والأنانية، والغرور، والكبر من العالم الداخلي للإنسان ورميها جانباً، والأخذ به إلى إدراك حالة الفناء، والافتقار والعدم، ونكران الذات

كان سلطان العارفين حضرة الشاه نقشبند من كبار الرجال، أي من السادة المشايخ وأرباب العلم. ورغم ذلك ففي السنوات الأولى لانتسابه والتحاقه بالتربية المعنوية كان ينظف الطرقات التي يمر فيها الناس، ويخدم المرضى، والعجزة، وحتى الحيوانات التي تعاني من جروح وإصابات. وبذلك وصل درجة عالية من التواضع وحالة الفناء

وكذلك كان الشيخ خالد البغدادي يُسمى في العلم "شمس الشموس". ولما جاء إلى تكية الشيخ عبد الله الدهلوي لم يخرج الشيخ الدهلوي لاستقباله، فضلاً عن أنه لم يسند إليه في تكيته ومحرابه وحلقته أي وظيفة. وإنما كلفه أولاً بتنظيف بيت الخلاء من أجل القضاء على أنانيته وتحصيل حالة الفناء

والأمر ذاته حدث مع الشيخ عزيز محمود هدائي، فمع أنه كان قاضي مدينة بورصة، فقد مر في تكية الشيخ أُفتادة  بمراحل مشابهة لما ذكر في الأعلى من أجل الوصول إلى الفناء والعدم ونكران الذات. حيث أخذ يبيع الأكباد في أزقة بورصة وهو يرتدي عباءته المزركشة. ونتيجة لهذه المراحل النوعية التي قضى فيها على الغرور والكبر والأنانية صار مرشداً كاملاً يوجه سلاطين العالم. فقد جاء من بعده وحتى الآن عدد لا يُحصى من القضاة ومضوا كما جاؤوا؛ إلا حضرة هدائي، حيث بقي بسبب هذه الخصوصية التي تفرد بها، بقي حياً في القلوب منذ أربعمائة عام ولا يزال

إذاً؛ إن كل شيء في التصوف يبدأ بعد بلوغ حالة الفناء

يقول الشيخ أبو الحسن الخرقاني

إنما يترقى الرجال (الأولياء) بطهارة الباطن (تزكية النفس وتصفية القلب)، لا بكثرة العمل (تذكرة الأولياء، ص، 622)

الصلاة، والصوم وسائر العبادات عظيمة، ولكن تصفية القلب من الكبر والحرص والحسد وغيره من الصفات الذميمة أعظم وأجل. (تذكرة الأولياء، ص، 629)

وفي الحقيقة إنّ السر وراء ارتقاء كل الأولياء وأهل الله هو هذه الحالة من التواضع، والافتقار والعدم، والفناء

وأما الخصلة الذميمة التي يكون تركها أكثر صعوبة ومشقة على النفس فهي: الغرور، والكبر، والأنانية. فقد قال أبو هاشم الصوفي الذي يُعد من المتصوفين الأوائل

إن اقتلاع الكبر المتمكن في القلب أشد وأصعب من حفر الجبال بإبرة

إلا أنه إذا لم يتحقق هذا، فليس من الممكن تحصيل التكامل المعنوي والوصول إلى حالة "الإنسان الكامل" التي هي هدف الدين. إذ جاء في الحديث النبوي الشريف

لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر (مسلم، الإيمان، 147)

وبناءً على ذلك؛ يُعد كل من الغرور، والعجب، والأنانية سرطان الطريق المعنوي. وإن غاية التربية التصوفية هي ترك "الأنا" المتولدة من النفسانية، وختم الأنانية بخاتم الإبطال والإلغاء

وإن الكبر الذي يعني تقديم الأنا وإظهارها علامة جهنم. وأما تبديد الأنا/الأنانية والقضاء عليها ففناءٌ في الحق وتعبير عن الافتقار والانعدام

لما اعترض الشيطان الملعون على أمر الحق سبحانه وتعالى وارتكب خطيئته الأولى وقع أسيراً لغروره، وتكبره، وأنانيته فبدلاً من الاعتراف بذنبه وطلب العفو أصر على خطأه، ولم يندم على ذنبه. وبدلاً من تأنيب نفسه والتوبة، صار ضحية لعناده واستكباره. فحلت عليه لعنة الله سبحانه وتعالى

وارتكب أبونا آدم وأمنا حواء عليهما السلام أول معصية ظهرت لدى البشر، وذلك باتباعهما الشيطان وأكلهما من ثمار الشجرة التي حرمها الله تعالى. إلا أنهما لم يفعلا كما فعل الشيطان، فلم يختلقا الأعذار والذرائع للتغطية على الخطيئة وتبريرها، وإنما سارعا إلى تأنيب نفسيهما والاعتراف بذنبهما وطلب المغفرة بكل صدق وإخلاص

(قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (الأعراف:  23)

حيث أظهرا فضيلة العودة عن الخطأ والاعتراف به، فلجأ إلى رحمة الله تعالى ومغفرته بمشاعر الندم، والخجل، والتذلل. وتابا واستغفرا بإخلاص، ولما قبل الله سبحانه وتعالى  توبتهما صارا مظهراً لنيل اللطف الإلهي

وانطلاقاً من ذلك؛ فإن أعظم مجاهدة في التصوف وضع حد للنفس أمام ربها سبحانه وتعالى  ، وعدم السماح لها بالتمادي. إذ إنّ النفس تُعجب بذاتها حتى عند أداء العبادات، فتنشغل بتقصير وعيوب الآخرين وتستعلي عليهم بطريقة غير مباشرة

يقول الشيخ سعدي الشيرازي  في كتابه كلستان

كنت في صغري مولعاً بالعبادات لدرجة كبيرة. فكنت أقوم في الليالي وأنشغل بالعبادة. وذات ليلة كنت جالساً بجانب والدي، فلم تغمض عيني طوال الليل، ولم أترك القرآن من يدي. وكان هناك من هم نائمون حولنا. فقلت لأبي

لم لا يرفع أحد من هؤلاء رأسه فيتوضأ، ويصلي ركعتين تهجداً؟، إنهم نائمون مثل الأموات. فقطب أبي جبينه وقال

يا بني! ليتك كنت نائماً مثلهم، بدلاً من خوضك في غيبتهم

  وكأن الأب يلقن ابنه سعدي درساً، فيقول: "إن الذين استحقرتهم وإن كانوا محرومين من فيوض وقت السحر، إلا أن الملائكة الكتبة لا تسجل عليهم شيئاً. وأما أنت، فقد كُتب في سجلك معصية ازدرائك بإخوانك في الدين، ومعصية الخوض في غيبتهم

إذاً؛ إن للنفس كما تبين من المثال المتقدم مكائد وحيل لا حصر لها،  والتي تبدو في ظاهرها كأنها حق. فالإنسان الذي يشعر بالاستغناء في نفسه، ويقول "أنا" بمشاعر الاستعلاء والفوقية النفسانية وإن كان مرشداً يخدم في طريق المعنويات، فإنه بعيد عن حقيقة الطريق

إن من شأن قيام بعض المرشدين المعنويين وخاصة في أيامنا هذه بأعمال وتصرفات تنمّ عن الغرور، والأثرة، والأنانية لدرجة الادعاء بقوى وقدرات وسلطة وحصرها بأنفسهم، من شأنه تسميم الطريق الذي يمثلونه، وتلطيخ شفافية ولطافة الطريق المعنوي الذي يسيرون عليه. إذ أن طريق التصوف كما يعبر في المثل "المحكمة ليست ملكاً للقاضي، وكذا ليس حقاً مكتسباً لأحد أبدا

التصوف؛ صحبة الصالحين

يعطي الشيخ سعدي أمثلة عن كيفية سريان الأحوال إلى الآخرين، وتأثيرها في تغيير حياة الشخص المعنوية، فيقول

لقد نال كلب أهل الكهف قطمير شرفاً عظيماً لصحبته الصادقين؛ فورد ذكره في القرآن الكريم. وأما امرأة نوح، وامرأة لوط فقد استحقتا نار جهنم لأنهما كانتا مع الفاسقين بقلبيهما. (ولم يشفع لهما أن زوجيهما كانا من الأنبياء)

ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى  يحث المؤمنين على صحبة عباده الصادقين والصالحين، فيقول

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119)

وإذا لاحظنا هنا فإن الله تعالى لا يقول في هذه الآية الكريمة "كونوا صادقين"، وإنما يقول "كونوا مع الصادقين". لأن من أبسط نتائج صحبة الصادقين أن يصبح الإنسان صادقاً

يقول الشيخ عبيد الله أحرار

إن الأمر الوارد في الآية الكريمة "كونوا مع الصادقين" يفيد المعية والصحبة الدائمة. ولأن الصحبة/المعية ذكرت في الآية بصورة مطلقة، فإنها تدل على الصحبة الفعلية والحكمية معاً. فالصحبة الفعلية هي التواجد المادي الحقيقي في مجالس الصادقين وبحضور قلبي. وأما الصحبة الحكمية فهي تخيل أحوالهم في غيابهم والاندماج معها

فمحبة الصالحين، والإحساس بمعيتهم حتى في غيابهم، والنظر إلى الحياة وحوادثها بمنظارهم يُكسب الإنسان نشاطاً وحيوية معنوية كبيرة. وقد أولي في التصوف أهمية كبيرة للرابطة لملاحظة تحقيقها هذه الفائدة المعنوية

الصحبة/المعية القلبية: الرابطة

الرابطة هي عبارة عن الاحتفاظ بالمحبة حية ونشطة بشكل دائم. وفي الواقع لا يوجد في الكون إنسان بدون رابطة. فكل إنسان مرتبط قلبياً بأحد ما. فالأم والأب مرتبطين بأولادهما، والأولاد مرتبطون بأمهاتهم وآبائهم، والخطيب مرتبط بخطيبته، وهناك رابطة القدوة والمثل الأعلى أيضاً،  حيث يحب الشاب شخصاً فيتخذه مثله

  الأعلى، وهلم جراً. أي إن كانت رابطة المحبة الطبيعية هذه موجودة حتى في الأشياء الدنيوية والفانية، فلا يمكن إذاً التفكير بعدم وجود هذه الرابطة في المعنويات

إن أفضل وأجمل مثال للرابطة بالمعنى التصوفي هو رابطة المحبة التي كانت بين الصحابة الكرام والنبي عليه الصلاة والسلام

فحالة الانعكاس والانصباغ التي ظهرت في أرواح الصحابة الكرام من خلال روابطهم القلبية مع رسول الله عليه الصلاة والسلام أدت إلى سريان أحوال النبي عليه الصلاة والسلام إليهم. ولهذا كان الصحابة الكرام يشعرون بلذة ونشوة عظيمة عندما يقولون له بصدق وإخلاص: "فداك أمي وأبي ونفسي ومالي يا رسول الله!". فكانوا يمنون على أنفسهم بالتضحية بكل شيء في سبيل الله ورسوله

فهم قد نفذوا إلى مضمون وروح الحديث الشريف

المرء مع من أحب (البخاري، الأدب، 96)

فحققوا مع النبي عليه الصلاة والسلام حتى في غيابه الوحدة/الصحبة بالحال، وبالفعل، والمشاعر، والفكر. وببركة هذه الصحبة صاروا مظهراً لألطاف الله سبحانه وتعالى ومكارمه الفريدة

فلما غدر المشركون بالصحابي خُبيب رضي الله عنه ووقع أسيراً بين يديهم، وأرادوا قتله في مكة، كانت له أمنية وحيدة قبل قتله واستشهاده، وهي أن يبعث بسلام مليء بالمحبة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام... ولكن مع من؟! فالكل عدو له، فاتجه بعينيه نحو السماء توجه العاجز، وتضرع قائلاً

اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، اللهم إنه ليس هاهنا أحد يبلغ رسولك السلام عني، فبلغه أنت عني السلام

وفي تلك الأثناء كان النبي عليه الصلاة والسلام جالساً مع أصحابه في المدينة، فقال: "وعليه السلام ورحمة الله

فتعجب الصحابة من ذلك، وقالوا: على من رددت السلام يا رسول الله؟!. فقال عليه الصلاة والسلام

هذا جبريل يقرئني من أخيكم خبيب السلام. (انظر: البخاري، الجهاد، 170، المغازي، 10، 28)

وكان رسول الله قد أرسل عثمان رضي الله عنه إلى مكة سفيراً قبل عقد معاهدة الحديبية مع المشركين. ورغم أن عثماناً أخبرهم أن نيتهم من المجيء هي أداء مناسك العمرة ثم العودة، إلا أن المشركين لم يأذنوا لهم. وفوق ذلك احتبسوه في مكة ووضعوه تحت المراقبة، وقالوا له

إن شئت أن تطوف بالبيت، فطف به

إلا أن ذاك الصحابي الجليل الذي جعل نفسه فداء لله ولرسوله أعطاهم درساً عظيماً في الإخلاص، حيث قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله عليه الصلاة والسلام.(أحمد، 4، 324)

ومن جانب آخر؛ لما وصلت شائعة استشهاد عثمان إلى المؤمنين الذين كانوا ينتظرون في الحديبية، قابل رسول الله عليه الصلاة والسلام إخلاصه بإخلاص أعظم، حيث أخذ من أصحابه عهداً وبيعة على محاربة المشركين إن لزم الأمر. ثم قال بيده اليمنى

"هذه يد عثمان. فضرب بها على يده الأخرى، وقال: هذه لعثمان (أي بيعة عثمان)".(البخاري، أصحاب النبي، 7)  مظهراً بذلك مدى اعتماده عليه

فهكذا كان شعور الصحابة الكرام بمعية رسول الله القلبية معهم حتى في غيابه عنهم. وكأنهم كانوا يعيشون بقلب واحد في أبدان متفرقة

ولا شك أن خير مثال من بين الصحابة في مسألة الرابطة هي الارتباط القلبي لأبي بكر الصديق t  مع رسول الله عليه الصلاة والسلام

فقد كان الصديق رضي الله عنه مرتبطاً ومتعلقاً برسول الله بعشق ومحبة شديدة لا مثيل لها، لدرجة أن ابتسامة من رسول الله عليه الصلاة والسلام كانت تجعله في حالة رضا لو وزعت على الدنيا لكفتهم. وكان مستعداً للتضحية بكل شيءٍ في سبيله. حتى إنّ النبي عليه الصلاة والسلام أثنى ذات مرة على صاحبه الكريم هذا ولاطفه بقوله

ما نفعني مال قَطُّ ما نفعني مال أبي بكر

فبكى هذا الصحابي الجليل الذي كان قمة في الصدق والإخلاص وجعل نفسه وماله فداء لرسول الله، وامتلأت عيناه بالدموع، وقال

"وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟!". (ابن ماجه، المقدمة، 11. وغيره)

فعبر بذلك عن أنه قد جعل نفسه وماله وكل ما يملك فداء لرسول الله، وأنه معه وطوع أمره روحاً وقلباً وجسداً. وذلك لأن قلبه كان قد صار مرآة ناصعة براقة تعكس عالم قلب النبي عليه الصلاة والسلام. وأصبح من خلال ذلك بيت الأسرار النبوية. وقد اكسبه كل شيء يخص فخر الكائنات عليه الصلاة والسلام معنى عميقاً وأهمية عظيمة ومكانةً كبيرةً في قلبه الطاهر. حتى أن أبا بكر صار خير الصحابة فهماً وإدراكاً لمعاني آيات الله تعالى، وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام وأسرار وحكم هذه الأحاديث. فنفذ إلى الكثير من الأسرار والحكم النبوية التي عجز عنها الناس وذلك ببصيرته وفراسته الفريدة. ففي حجة الوداع نزل قول الله تعالى

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3)

ففرح الناس بهذه الآية لاكتمال الدين. إلا أبا بكر أدرك حقيقة وسر هذه الآية، وأنها دعوة من الله تعالى لرسول الله أحب الخلق إلى قلبه من أجل الالتحاق إلى العالم الأبدي. فغرق في الحزن، وتألم من نار الفراق التي ألهبت قلبه

وأحد الأمثلة الأخرى التي تظهر فهمه وإدراكه الدقيق والعميق لأسرار الأمور هو

لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام في أيامه الأخيرة يستطيع الخروج إلى المسجد لاشتداد المرض عليه. فكلف أبا بكر ليصلي بالناس إماماً. وذات مرة خف المرض على النبي عليه الصلاة والسلام فخرج إلى المسجد. فخطب في الصحابة ووعظهم ثم قال

"إن الله خيَّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده.  فاختار ذلك العبد ما عند الله

وما إن بلغت هذه الكلمات  سمْع أبي بكر حتى خيم حزن شديد على قلبه الحساس الرقيق، ثم بدأ يبكي وتسيل الدموع من عينيه المباركتين. فقد أحس أن النبي عليه الصلاة والسلام يودعهم بهذه الخطبة. وبدأ ينوح مثل الناي الذي يئن من ألم الفراق. فقال وهو يجهش بالبكاء: بأبي أنت وأمي يا رسول الله!، بل نفديك بأموالنا، وأنفسنا، وأولادنا!..". (أحمد، 3 ، 91)

لم يستطع أحد من الحاضرين غيره إدراك مشاعر رسول الله عليه الصلاة والسلام العميقة، وأنه في حالة وداع للدنيا. حتى أن الصحابة لم يأبهوا لبكاء أبي بكر ولم يحملوه أي معنى، بل وتعجبوا منه، وقالوا: "انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، ويبكي". (البخاري، الصلاة، 80)

لأنه لم يخطر ببالهم، ولم يدركوا أن العبد المخير ما بين زهرة الدنيا وبين ما عند الله كان النبي عليه الصلاة والسلام

ثم تابع النبي عليه الصلاة والسلام كلامه مواسياً أبا بكر من جهة، ومبيناً مقامه ومكانته للصحابة من جهة أخرى، فقال

ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه بمثلها أو بأفضل منها، ما خلا أبا بكر، فإنّ له عندنا يداً يكافئه الله بها يوم القيامة يا أبا بكر لا تبك، إن أمَنَّ الناس علَّي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته

وقبل انتقال النبي عليه الصلاة والسلام إلى دار البقاء قال

لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر! (البخاري، أصحاب النبي، 3، مناقب الأنصار، 45، الصلاة، 80؛  مسلم، فضائل الصحابة، 2، الترمذي، المناقب، 15)

 إني أرى على باب أبي بكر نوراً (ابن سعد، 2، 227؛ علي المتقي، الكنز، 12، 523/35686؛  ابن عساكر، تاريخ دمشق، 30، 250)

فأغلقت كافة الأبواب إلا باب أبي بكر رضي الله عنه بقي مفتوحاً. وهذا يدل بالمعنى الإشاري على أن باب التقرب المعنوي إلى النبي عليه الصلاة والسلام يُفتح بمحبة، وصدق، وإخلاص، وطاعة وتسليم، وتضحية، وصحبة مماثلة لما كان عليه الصديق رضي الله عنه مع النبي عليه الصلاة والسلام

الذي في اليمن معي

إذا حصلت المعية الظاهرية إلى جانب المعية القلبية مع الأولياء فذلك" نور على نور. إلا أن المعية الظاهرية الجافة ليست مقبولة في التربية التصوفية. لأن هناك الكثير ممن يلازمون مرشداً كاملاً ويجالسونه كتفاً إلى كتف، إلا أنهم بسبب غفلتهم لا يأخذون منه أي نصيب من الأحاسيس المعنوية

وبالمقابل؛ فإن هناك الكثير من المريدين  المخلصين الذين يقطنون في بلاد بعيدة وقصية بإمكانهم نيل نصيب وافر من المعنويات من خلال ارتباطهم القلبي بمرشديهم، وما يكنونه لهم من مشاعر المحبة والاحترام والإجلال، والشوق

وقد قال كبار الرجال والأولياء "الذي في اليمن معي، والذي بجانبي في اليمن. ولهذا فإن الأمر المهم هو الرابطة بغض النظر عن المكان الذي نكون فيه، أي عدم التفريط بإحساس المعية القلبية

وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً

إن أولى الناس بي المتقون، من كانوا وحيث كانوا. (أحمد، 5، 235؛ الهيثمي، مجمع الزوائد، بيروت، 1988، 9، 22)

لقد جرى من قِبل البعض وخاصة في القرن التاسع عشر توجيه انتقادات شديدة للرابطة التي هي منهج وأسلوب مهم في التربية الصوفية، وأُظهر الأمر وكأنه مسألة إيمان وكفر. والحال أن الرابطة – كما أسلفنا من قبل – أمر نفسي طبيعي وبغاية البساطة. فليس للرابطة التي تُفهم وتُطبق هكذا أي جانب يخدش بالاعتقاد

والحاصل؛ إن الرابطة هي عبارة عن حفظ المريد محبة مرشده حية وغضة في قلبه بشكل دائم، والعمل على تقليد أعماله الصالحة وأحواله الحسنة. إذ أن محبة الصالحين مؤثرة وذات فائدة بقدر إرشاداتهم ومواعظهم

التصوف منهج السيرة، وليس منهج الصورة

يجب – بحكم العلاقة - أن نتناول بشأن الاستفادة المعنوية من الأولياء والصالحين موضوع الصور بشكل مختصر

نشاهد اليوم وبحكم وفرة الإمكانات والوسائل التقنية انتشاراً واسعاً لظاهرة التصوير. فقد تحول كل مكان إلى ما يشبه استديو تصوير، وصار كل إنسان مصوراً.  وإذا وضعنا الأوقات والأماكن العادية جانباً، فإننا نشاهد وبكل أسف انشغال الناس المفرط والمتجاوز لكل الحدود  بالتقاط الصور، وتصوير مقاطع الفيديو قد امتد إلى أوقات وميادين لها خصوصية حساسة وهي العبادات، حيث تجد هذا الأمر حتى أثناء الطواف بالكعبة، والوقوف في عرفة، و زيارة الروضة الشريفة

إن هذا الأمر من قبيل الأعمال العبثية التي من شأنها الإخلال بفيوض العبادة وروحانيتها، وإفسادها

ومع الأسف فإن الأمر ذاته يحدث في المجالس المعنوية أيضاً. ففي حين أن المعية القلبية في المجالس المعنوية تستوجب التركيز على الفائدة المعنوية بالتفكر، والتأمل والغوص في المشاعر الباطنية، فإننا نشاهد – ربما بحسن نية وبهدف الاحتفاظ بذكرى معنوية – وبكثرة انكباباً على التقاط الصور وتصوير مقاطع الفيديو. فليس من الصواب إيلاء هذا الأمر أهمية أكبر من حجمه وحده. فكما أن الدواء عند تجاوز الجرعات المحددة يتحول إلى سمّ مميت بدل تحقيق الشفاء؛ فإن هذه الأمور كذلك يمكن أن تلحق ضرراً بمعنويات الشخص إذا زادت عن حدها

وينبغي أن نتذكر أن الكاميرات الإلهية تصور وتسجل بطبيعة الحال كل لحظة من لحظات حياتنا. وسوف تُعرض هذه التسجيلات أمام أعيننا في الآخرة

كما أسلفنا من قبل فإن الأمر المهم في معية الصالحين والرابطة ليست المعية الظاهرية، والشكلية، والصورية، وإنما المهم هو المعية القلبية والروحية

يقول حضرة سامي أفندي

ليس في الرابطة حاجة إلى التفكر بصورة المرشد. وإنما تجب المحبة فقط. وبطبيعة الحال فإن الإنسان يستحضر محبوبه أمام عينيه (قلبه) على الدوام. (محمود سامي رمضان أوغلو، المصاحبة، ج 6، ص، 151، منشورات الأرقم، اسطنبول، 1982)

إن الصورة تحبس تخيل وتصور الإنسان بإمكانية الانتقال إلى الأبدية والمجرد ضمن حيز المادي وبحدوده. وعدا عن ذلك فإن أحكام الإسلام بشأن الصور معروفة ولا تخفى على أحد.  وإن صور الناس هي جانبهم الظرفي. وأما الشيء المهم فهو مظروف الإنسان، أي عالم القلب. وإن منهج التصوف هو منهج السيرة وليس منهج الصورة. فالمقصود من صحبة الصالحين والصادقين هي الصحبة مع سيرهم أكثر من صورهم. فالصور الأساسية التي لها فائدة هي الانعكاسات التي تكون في العالم الداخلي، هي الذكريات والانطباعات التي تبقى في القلوب

نسأل الله عز وجل أن يرزقنا جميعاً نصيباً من فيض قلوب أحبائه، ويوفقنا للتخلق بأخلاقهم، ويجعل لنا قلباً سليماً ذاكراً، ومتفكراً وشاكراً


التصوف - 3

وصولٌ إلى الكمال بالقرآن والسنة

عدم الغلو بالمحبة

إن رأسمال الارتقاء المعنوي الأساسي في التصوف هو المحبة، وإن مظهر المحبة مراعاة الآداب. وإن رأسمال الارتباط القلبي بالمرشدين الكاملين، أي رأس المال الأصلي للرابطة هو المحبة أيضاً. بيد أن المبالغة في هذه المحبة، كما في كل أمر تقود الإنسان إلى طرق واتجاهات خاطئة. ولهذا فإن الأمر الخاطئ في الرابطة هو الغلو في محبة الإنسان، والوصول بها إلى مستوى المحبة الإلهية. فالمبالغة المفرطة في إجلال الإنسان الذي يُتخذ مرشداً معنوياً مع إضفاء طابع الألوهية عليه، وإظهار الاحترام له والارتباط به بشكل متجاوز للحدود الطبيعية لدرجة التعصب إشارةٌ إلى الانزلاق إلى أحوال وسلوكيات وتصرفات لم يقرها القرآن والسنة. وهذه الحالة  نسأل الله حفظنا منها تضر بالإنسان ولا تعود عليه بالنفع، بل وتحيد به عن الطريق

يجب أن لا يغيب عن بالنا أبداً أنّ المرشد بالنسبة للمريد بمثابة "واسطة" لا أكثر. وإن المبالغة والغلو بمحبة الواسطة، وجعلها "غاية" بذاتها، فتح لباب الشرك، ومن شأن الذين ينزلقون إلى هذا النوع من الغلو والمبالغة، تقوية موقف معارضي التصوف من جهة، والإضرار باستقامة الطريق الذي ينتسبون إليه من جهة أخرى، وهذه كارثة عظيمة

لقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أكثر الصحابة محبة لرسول الله عليه الصلاة والسلام ، إلا أنه جعل هذه المحبة وسيلة للاعتدال، والتأني، والاستقامة، وينبغي أن تُتخذ حالته الآتية مثالاً نموذجياً في المجال الذي نتحدث عنه لجميع أهل التصوف

كانت وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام حدثاً أليماً وثقيلاً للغاية على الصحابة الكرام، فقد أصيب الجميع بحيرة شديدة، وحتى أنهم اهتاجوا واضطربوا، لأنهم فقدوا من أحبوه أكثر من أنفسهم، فقدوا رسول الله عليه الصلاة والسلام ، لأنهم لن يروا بعدها وجهه الشريف، الذي يشع نوراً، ولن يجدوا من يواسيهم. وكان من بين الصحابة من قال بعد وفاته عليه الصلاة والسلام: لا أريد عيناً لا تراه، وأذناً لا تسمع صوته، وحياة  لا وجود له فيها. وبدأ الصحابة الكرام بالبكاء في المسجد. وبينما كانت القلوب تئن من ألم وحزن تعجز الكلمات عن وصفه، قام عمر رضي الله عنه صاحب الرأي السديد، وبدأ بالكلام وقد احتد وغضب غضباً شديداً  فقال

لا أسمعن أحداً يقول: إن محمداً قد مات، من قال أن محمداً قد مات، ضربت بسيفي عنقه، إن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يمت ولكن إنما عرج بروحه كما عرج بروح موسى.  وما زال عمر يتكلم حتى أزبد شدقاه. ولما سمع أبو بكر الصديق رضي الله عنه بهذا الخبر الأليم ركب حصانه وجاء إلى المدينة. فدخل عليه، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى، وقال

مات والله رسول الله! (إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)(البقرة: 156) ، بأبي أنت وأمي! والله لا يجمع الله عليك الموتتين. لقد مت الموتة التي لا تموت بعدها

ثم أعاد الغطاء على وجهه الشريف وهو يقول

طبت حياً وطبت ميتاً

ثم خرج أبو بكر إلى الناس في المسجد وعمر ما يزال يتكلم أن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يمت، فقال له

اجلس يا عمر

فأبى عمر أن يجلس. فكلمه أبو بكر مرتين أو ثلاثاً. فلما أبى عمر أن يجلس قام أبو بكر بكل ثبات فتشهد. فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال

أما بعد! فمن كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات. ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت

قال تعالى

(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: الآية، 144)

ولما سمع الناس كلام أبي بكر وهذه الآية، أيقنوا أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد مات. لقد كانت الحيرة والدهشة والاضطراب قد بلغت بهم مبلغاً عظيماً، فكانوا بحالة وكأنهم لم يسمعوا بهذه الآية، ولم يعلموا بنزولها حتى تلاها أبو بكر

فيقول عمر رضي الله عنه

إنها لفي كتاب الله! والله ما شعرت أنها في كتاب الله. والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى والله ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد مات".  (عبد الرزاق، 5، 436؛ ابن سعد، 2، 266 - 272؛ البخاري، المغازي، 83؛ الهيثمي، 9، 32)

فكما تبين مما تقدم، رغم أن أبا بكر رضي الله عنه كان أشد الناس حباً، وإجلالاً وتعظيماً واحتراماً للني عليه الصلاة والسلام ، إلا أن هذه المحبة الفريدة التي لا مثيل لها، لم تصبح يوماً ما سبباً لا ضطرابه وخروجه عن طوره، ولم تدفعه لأي سلوك أو عمل مخالف لحقائق الشرع، بل على العكس، فقد صارت معيار استقامة ترشد المضطربين والمنحرفين عن جادة الحق، وتهديهم إلى الصواب

الإفراط والتعصب

إن العبارات التي يتفوه بها بعض المريدين المجذوبين من شدة اهتياجهم، وفرط تحمسهم كقولهم: "أي شيء يتمناه شيخي فإن الله سوف يحققه له حتماً...". والتي يخرجون بها المحبة، والاحترام، والارتباط عن حدودها الطبيعية واللائقة، أبرز مثال على الإفراط والتعصب، إذ أن النبي عليه الصلاة والسلام ورغم أنه حبيب الله لم تُقبل كل أدعيته. حيث يقول عليه الصلاة والسلام

سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني

ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي: أن لا يُهلك أمتي بالسَّنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها" (مسلم، الفتن، 20/2890)

إذاً، إن ربنا تعالى إن شاء استجاب الدعاء، وإن شاء رده، حتى ولو كان دعاء الأنبياء. وبناء على ذلك، فإن العبد مهما كان مقامه ومرتبته المعنوية عالية، فإن أعماله وأدعيته بحاجة إلى قبول الله تعالى لها

فيجب أن نعلم جيداً أن هذا المعيار  طالما كان يسري بحق الأنبياء، فإنه يشمل الناس جميعاً من بعدهم مهما كانت مرتبتهم حتى لو كانوا من كبار الأولياء. وعلى ذلك، فلا يمكن القول أن العبد الصالح والولي، إذا دعا فإنه دعاءه مقبول حتماً، أو رقى مريضاً فإنه سيشفى قطعاً. وذلك لأن مثل هذه الأمور تتطلب لكي تتحقق النتيجة المرجوة منها: إخلاص الطرفين من جانب، ومن جانب آخر يجب أن تتوافق مع التقدير والمراد الإلهي. وهناك أمر آخر، وهو أن الأنبياء وكذلك الأولياء مكرمون بمشارب وتصرفات ومعجزات وكرامات مختلفة عن بعضها. ومن ثم فإن الصفة أو الخاصية المتميزة والبارزة لدى أحدهم، لا يمكن أن تظهر بالمستوى ذاته لدى الآخرين. ولذلك فإنه ليس من الصواب توقع ذات التصرفات من الجميع. وبكل الأحوال فإن وظيفتهم الأصلية، ليست القيام بمثل هذه التصرفات والخوارق، وإنما وظيفتهم إرشاد القلوب ووعظها

وقد يكون توسل العبد خلال الدعاء بالأنبياء والعباد الصالحين الذين يحبهم الله جل جلاله، أكثر جلباً للرحمة الإلهية، ولكن يجب عند التوسل بأحباء الله في الدعاء الطلب من الله وحده، وليس من هؤلاء، لأن الفاعل المطلق هو الله تعالى وحده

حيث يقول الحق جل حلاله

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ الله هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة:  104)

 وكذلك تُعد العبارات التي يقولها البعض في غيبة الصالحين أو عند زيارة قبورهم مثل "يا فلان! اشفني! حقق لي حاجتي في كذا!". والتي تتضمن طلباً مباشراً منهم، تُعد خطأً كبيراً لدرجة يمكن أن تقود صاحبها إلى أبواب الشرك. فيجب الحذر كل الحذر، من هذه العبارات وأمثالها، والتي من شأنها الإخلال بعقيدة التوحيد البالغة الحساسية والدقة. يجب وبكل حزم، اجتناب كل عبارة من شأنها أن تعطي انطباعاً بأن هناك من يمتلك التصرف المطلق سواء في حل المشكلات المادية أوالمعنوية، أو في إدارة وتدبير شؤون الكون غير الله تعالى. وتوضح الحادثة الآتية وبكل جلاء حقيقة ارتباط كل التصرفات بمشيئة الله تعالى

ظل أبو طالب، سنوات طويلة يتولى حماية النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين، ويدافع عنهم بشدة ويقدم التضحيات في سبيل ذلك. وكان النبي عليه الصلاة والسلام شديد الرغبة بإيمان عمه ويدعوه بإصرار، وكان أبو طالب يقول أمام هذا الإصرار

 (أعلم أنك على حق. ولكن إن آمنت تعيرني نساء قريش!). فهو لم يقر بالحقيقة التي استقرت في وجدانه واستيقنها قلبه؛ لتغلب العصبية القبلية عليه، وكان آخر ما قاله أبو طالب لرسول الله عندما حضرته الوفاة

- أموت على دين عبد المطلب، والله يا ابن أخي لولا أن تكون سبة عليك وعلى أهل بيتك من بعدي، يرون أني قلتها جزعاً حين نزل بي الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها!..". (البخاري، الجنائز، 81، مناقب الأنصار، 40؛ ابن سعد، 1، 122 - 123)

فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام:  أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك.  وغادر دار عمه حزيناً

وبسبب قول النبي عليه الصلاة والسلام لعمه: "لأستغفرن لك!" وحزنه وكدره الشديد على عمه، نزلت الآية القرآنية

(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)

 إذاً حتى جهود الأنبياء، ليست كافية لوحدها من أجل هداية إنسان ما إلى الطريق القويم، حيث أن الله تعالى إن شاء طرح بركة التأثير في هذه الجهود، وأوصلها إلى النتيجة المبتغاة، وإن شاء تركها دون تأثير ونتيجة

يُطلع الله أحداً على كل الأمور

يمكن لبعض المريدين أن يجنحوا نتيجة إفراطهم في حبهم لمرشديهم ومشايخهم واهتياج مشاعرهم إلى تصورات وأفكار منحرفة، مثل قول أحدهم: "إن مرشدي يعلم كل شيءٍ!". لا شك أن هذا الأمر تربية ناقصة، إذ أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجيب أحياناً على مسائل يُسأل عنها بقوله: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" (انظر: مسلم، الإيمان، 1)

ويقول الشيخ سعدي في كتابه كلستان

سأل رجل النبي يعقوب عليه السلام فقال

يا من قلبه منير ، أيها النبي العاقل! لقد شممت رائحة قميص يوسف عندما كا ن قادماً من مصر، فلم لم تره عندما ألقي في الجبّ وهو قريب منك؟

فأجاب يعقوب عليه السلام

"إن ما نناله من كشوفات إلهية مثل لمعات البرق. لهذا فإن الحقائق تصبح أحياناً عياناً أمامنا، وأحياناً تُحجب". أي إذا رفع الله الحجاب فإن العبد يشاهد ما وراءه، ولكن إن أسدل الحجاب فإن الإنسان لا يرى حتى الحفرة التي أمامه. بمعنى أن العبد عاجر مهما كان مقامه المعنوي، وبحاجة دائمة إلى لطف الله تعالى

كل عبد خطّاء

كذلك، يمكن أن يجنح بعض المريدين نتيجة الإفراط في محبة مرشديهم إلى أفكار منحرفة أخرى، مثل قولهم "إن مرشدي لا يخطئ أبداً. ولا شك أن هذا الأمر أيضاً تلقٍ خاطئ

إذ أنه حتى أبو بكر رضي الله عنه الذي يُعد خير البشر بعد الرسل، كما جاء في الكثير من الروايات، قد قدم في هذا الشأن معياراً بغاية الروعة، وذلك في خطبته التي ألقاها بعد اختياره خليفة على المسلمين، حيث قال

أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم وليست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم!.." (ابن سعد، 3، 182- 183؛ السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص، 69، 71- 72؛ حميد الله، نبي الإسلام، 2، 1181)

فإن كان أفضل وخير رجل في الأمة يقول مثل هذا الكلام، فيجب إذاً أن نفكر بما ينبغي أن يقوله من يجب عليهم الاقتداء به. وكذلك كان مظهر جان جانان الذي يُعد من كبار المرشدين الكاملين، حيث كان شديد الحرص على أن تكون كل أموره وأعماله مطابقة للسنة النبوية. ومع ذلك كان يبدي تواضعاً شديداً بقوله

من رأى منا أمراً يخالف أحكام الإسلام فليسرع إلى تنبيهنا! (عبد الله الدهلوي، المقامات المظهرية، ص، 43)

لا تغترن يا ابن آدم

كذلك يمكن أن نصادف لدى بعض الناس بسبب إفراطهم في محبة الطريقة التي ينتسبون إليها انحرافات واهتياجات، قد تحولت إلى هذيان لا أصل له، ولا سند، وبشكل لا يتوافق مع أسس وأصول الشريعة أبداً، وذلك من قبيل ادعائهم: "أنه حتى أكثر عاصٍ من طريقتهم سوف يشفع لأربعين إنساناً، وأن الذين يتمسكون بثوب مرشدهم في الآخرة سوف يدخلون الجنة مباشرة

لنبين أولاً الأمر الآتي: إن الشفاعة حق، فإن شاء ربنا تعالى أكرم من يشاء من عباده بها. إلا أن شفاعة الناس لبعضهم، ومسألة من سوف يشفع لمن في الآخرة فإنها أمر لا يعلم به إلا ربنا تعالى. فقد جاء في القرآن الكريم

(... مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ...) (البقرة:  255)

وبالتالي فإن النظر بشأن الخلاص الأبدي إلى مشاعر المحبة، والاحترام، والانتساب تجاه العباد الصالحين وإلى الشعور بحسن الظن بهم وكأنها مرتبةٌ قطعيةٌ النص الشرعي، يُلحق الضررَ بالشخص معنوياً

ومن أهم الأمور التي تخفق وترتجف لها قلوب أولياء الله الرقيقة والحساسة أيضاً، هو خوفهم من أن يحاسبوا أمام الله تعالى بسبب ما يدور على لسان الناس من إطراءات ومدائح مفرطة بحقهم. ولهذا فإن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا مدحه أحدٌ توجه في الحال إلى الله وقال

اللهم أنت أعلم مني بنفسي، وأعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون" (السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص، 104)

وبسبب الخوف والهاجس ذاته أوصى الشيخ خالد البغدادي بعدم كتابة أي عبارات تتضمن مدحاً وثناء وإطراء عليه على شاهد قبره

إذاً؛ فأهل التصوف الحقيقيين هم هؤلاء المؤمنون الذين ترتجف قلوبهم لشدة حساسيتهم تجاه مثل هذه الأمور وخوفهم منها

وينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا أبداً أن النصارى قد أفسدوا عقيدة التوحيد بسبب إفراطهم في تقديس نبيهم، فجعلوه شريكاً لله تعالى. وبناء على ذلك فقد حذر رسول الله عليه الصلاة والسلام أمته من الوقوع في مثل هذا الإفراط، فقال

لا تطروني، كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله، ورسوله" (البخاري، الأنبياء، 48)

يا أيها الناس، لا ترفعوني فوق قدري، فإن الله اتخذني عبداً قبل أن يتخذني نبياً" (الحاكم، 3، 197/4825، الهيثمي، 9، 21)

وينبغي أن لا ننسى أن كل عبد ما عدا الأنبياء والرسل عاجز وخطاء. وحتى الأنبياء يتعرضون للزلات بحسب طبيعتهم البشرية. ولكن تُصحح زلاتهم باعتبارهم محاطون بالعناية والتأييد الإلهي. وإحدى حكم هذا الأمر هي تذكير الأنبياء بأنهم هم أيضاً عاجزون، ومن جهة أخرى تحذير أممهم وأتباعهم من الإفراط في تقديسهم ورفع قدرهم لدرجة إضفاء الألوهية عليهم

ومحبة الأولياء والصالحين واحترامهم وإجلالهم مطلوبةً، إلا أنه من الضرورة بمكان مراعاة الحدود الشرعية في احترامهم وتقديرهم. وإلا فإن المتجاوزين لهذه الحدود يلحقون الضرر باستقامتهم من جهة، ومن جهة أخرى يلطخون صفاء الطريق المعنوي الذي ينتسبون إليه ويسيئون إليه

لقد ظهر ويظهر بين الحين والآخر استغلاليون وانتهازيون في ميدان التصوف كما هو الحال في كل ميدان. وقد نجد اليوم أيضاً من يخرج علينا سواء بسبب الأنانية أو بمرض نفسي فيطرح بحثاً عن الشهرة والمكانة ادعاءاتٍ كبيرة بعيدة تماماً عن روح التصوف الحقيقي، مثل قول أحدهم: أنا قطب الزمان، أنا الغوث

إن أول من انتقد وعلى مر التاريخ مثل هذا الصنف من الانتهازيين والمستغلين هم أهل التصوف الحقيقيون. وعلينا أن نعلم أننا لم نأت إلى عالم الامتحان لنُطري ونمتدح بعضنا البعض. وإنما أُرسلنا إلى هذه الدنيا لندين جميعنا بالعبودية التامة لربنا سبحانه وتعالى مدركين افتقارنا، وفناءنا وعجزنا. فأعلى وأجل مرتبة في هذا العالم الفاني هي العبودية للحق سبحانه وتعالى. فجميعنا بأخطائنا وصوابنا عبيد عاجزون. وليس لنا بشأن عاقبتنا ونجاتنا إلا الالتجاء إلى رحمة ربنا ومغفرته، وعنايته بعد بذل كل ما نقدر عليه من جهود وطاقات

التصوف؛ هو جعل القلب في توازنٍ بين الخوف والرجاء

ينبغي أن نتخذ جميعنا الدرس والعبرة المستنبطة من الحادثة الآتية التي جرت في عصر السعادة دستوراً مهماً لحياتنا

كان عثمان بن مظعون رضي الله عنه صحابياً جليلاً مشهوراً بالزهد والتعبد. وقد توفي رضي الله عنه بالمدينة في دار امرأة تدعى أم العلاء. فقالت المرأة: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك: لقد أكرمك الله

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: وما يدريك أن الله قد أكرمه؟

فقالت المرأة:  بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟

فقال النبي عليه الصلاة والسلام

أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري، وأنا رسول الله، ما يفعل بي

فقالت أم العلاء

فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً (البخاري، التعبير، 27)

فما لأحد ضمان عدا الأنبياء والرسل والمبشرين أن يموت على الإيمان. فقد تحدث القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، عن أناس تعرضوا للعذاب الإلهي، ولم يبق بينهم وبين الجنة إلا شبر، وبالمقابل نال أناس الرحمة الإلهية وقد فصل بينهم وبين النار شبر ومن جملة هؤلاء بلعام بن باعوراء  الذي بعد أن بلغ مقاماً عالياً صار فيه يطلع على اللوح المحفوظ ويقرأه، تعرض للخسران الأبدي لغلبة النفس عليه

وكذلك قارون. فقد كان قارون صاحب زهد وتقوى، ونال الكثير من كرم الله تعالى وإحسانه. وكان فوق ذلك أفضل من يقرأ التوراة ويفسرها، ولكن وعوضاً عن أن تقربه الخزائنُ المليئة ذهباً وفضة إلى الله تعالى، وقد كان امتحن بها، صارت سبباً في ابتعاده عنه. وفي النهاية خُسفت الأرض به وبداره وبالخزائن التي كان يستقوي ويستعلي بها، وكان من المهلكين

وقال خالد البغدادي

النزع الأخير مجهول (من سينجو فيه). إذ كم من الفساق والفجار صاروا أولياء، وكم من الصالحين وأصحاب الورى صاروا في أسفل سافلين..." (أسعد صاحب، بغية الواجد، ص، 120- 121، رقم: 16)  وكان يتضرع في الكثير من مكتوباته أن يرزقه الله تعالى خاتمة على الإيمان. أي أنه ليس في الطريق المعنوي مكان للغرور والتراخي والتهاون بدعوى "بلوغ الكمال"، أو التوهم بعلو المرتبة ورفعة القدر. بل على العكس، إذ أن الأساس في هذا الطريق هو الشعور الدائم بالتقصير والنقص، وبذل أقصى الجهود لتدارك هذا التقصير. فقد

قال العارفون: لا عرفان مثل معرفة المرء نقصه

وكان الأنبياء والرسل الذين نالوا الضمان الإلهي بشأن الآخرة دائمي الالتجاء إلى الله تعالى، والتضرع إليه وهم يتقلبون بين مشاعر "الخوف والرجاء"، وكان خليل الرحمن سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي ابتلي في ماله، ونفسه، وأولاده، يتضرع قائلاً

(وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) (الشعراء:  87)

وكان حبيب الله نبينا عليه الصلاة والسلام يقوم الليل حتى تتورم قدماه، ويستغفر ويتضرع إلى الله والدموع تنهمر من عينيه حتى تبتل لحيته، ومكان سجوده رغم أنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر

وكذلك الصحابة "العشرة المبشرون بالجنة"، فلم يتكل أحدهم إلى هذه البشارة ويُشعر نفسه بالأمان، وإنما كانوا يقومون بواجب عبوديتهم على أكمل وجه دون أدنى تهاون، ولم يصبهم أدنى غرور أو تراخي في العبادة. لقد عاشوا حياة عبودية نموذجية، فكان الواحد منهم مثالاً لعلو الهمة، وشدة العزيمة ورقة القلب وكثرة التعبد

تُعد الحادثة الآتية أجمل مثال على الحساسية القلبية لدى الصحابة الكرام

كان سلمان رضي الله عنه شخصية فريدة ومثالية في سائر أحواله وتقلباته، وخاصة في تضحياته وجهوده العظيمة التي كان يبذلها في سبيل الله تعالى، حتى أن الأنصار والمهاجرين اختلفوا عليه، حيث أن كل فريق كان ينسبه إليه بقوله: سلمان منا

فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام حلاً للخلاف بين الطرفين من جهة، ومن جهة أخرى تكريماً لسلمان رضي الله عنه: "سلمان منا آل البيت" (ابن هشام، 3، 241؛ ابن سعد، 4، 83 ؛ الحاكم، 3، 691/6541؛ الهيثمي، 6، 130)

وعلى الرغم من هذا التكريم واللفتة النبوية، فقد عاش ذاك الصحابي المبارك، حياة بمنتهى التواضع، فكان قلبه يخفق ويرتجف دائماً خشية من الآخرة

فقد جاءه رجلان فسلما عليه وحيياه، ثم قالا:  أنت سلمان الفارسي؟

قال: نعم. فقالا: أنت صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟

فقال سلمان: لا أدري.  فارتابا وقالا

لعله ليس الذي نريده

قال لهما سلمان رضي الله عنه

أنا صاحبكما الذي تريدان، إني قد رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام وجالسته، فإنما صاحبه من دخل معه الجنة

فهؤلاء هم الصحابة، حيث لم يكونوا صحابة بالاسم والقول فحسب، وإنما كانوا صحابة فعلاً وقولاً وعملاً، صحابة قلباً وقالباً. فقد كانوا طائعين لرسول الله ومقتدين به في كل أحوالهم

ومع ذلك لم يشعروا أنهم ناجون يوم القيامة، وإنما دائماً كانوا في حالة سعي وتعبد. وينبغي أن يكون حالهم هذا نموذجاً يُحتذى به لجميع المؤمنين

إذ إن القيمة المعنوية للشخص سوف تتحدد بالمعنى الحقيقي في الآخرة. ولهذا فإن واجب العبد هو الاستمرار بالعبودية بحالة من الفناء والافتقار والعجز

وعلينا أيضاً أن نضع نصب أعيننا النفس الأخير ونجهد لعيش حياة متوافقة بكل لحظاتها مع الكتاب والسنة، وأن لا يفارق تضرع يوسف عليه السلام ألسنتنا والمتمثل بقوله

(تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف: 101)

وعلينا أن نتذكر دائماً أنه مهما كانت مراتبنا ومقاماتنا فإننا عاجزون عن تحديد مصير وعاقبة أحد، سواء في ذلك نحن أو من سوانا. فنحن في هذا الأمر بحاجة دائمة إلى رحمة ربنا، ومغفرته، وعنايته

نسأل الله تعالى أن يكرمنا جميعنا بعاقبة حسنة آمين


التصوف والأدب

 يتبادر إلى الذهن أن الأدب لصيق الصلة بالتصوف، وهذا حق، فالتصوف مجاله عالم القلب والروح والمشاعر، وهي الساحات نفسها التي يعمل فيها الأدب عمله، يصدر عنها، ويخاطبها، ويزدهر بها، ويؤثر فيها، أي إن كلاهما يؤثر في الآخر ويُثريه، وهو ما حدث بالفعل مع الأدب التركي الذي ارتقى قممًا شامخة من الرقي الفني، وترسخت أقدامه في مجالات أعمق من الشعور الإنساني، وامتدت آفاقه وآثاره إلى الكثير من مجالات الفكر

وقد تفاعل الأدب وتشكل وتطور مع ما تميزت به أساليب الحياة الصوفية، فمثلاً هناك ما يسمى «أدب التكايا»، الذي أنتج صورًا مميزة من الأنواع الأدبية، مثل الشعر الغنائي والشعر التعليمي، وأنواعًا أخرى بسيطة سلسة عكست القيم الصوفية، وعبرت عنها، وصارت قوالب لها توصلها في صورتها الراقية إلى جمهور عريض من المريدين، فكان منها نوع يُدعى «التوحيد» وهو الذي يبين معنى التوحيد، ويتناول ذات الله تعالى وصفاته وأسماءه، ونوع آخر يُدعى «المناجاة» وهو يشمل التوجه إلى الله تعالى ودعاءه ومناجاته وذكره تعالى بلهفة وشوق، ونوع ثالث يُدعى «النعت» وهو مختص بالمدائح النبوية، وذكر صفات النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه، وحبه، والشوق له

وكان لهذه الأنواع الأدبية دور كبير ومؤثر في دعم القيم الصوفية نشرًا وتقوية وتشجيعًا ومواساة، فهي تنشرها بين العامة والخاصة على نطاق أوسع، وتمس حبات القلوب بأدوات أوقع، وتعالج المشاعر الإنسانية بالعلاج الأنجع، وترتقي بها إلى درجات أرفع، وتجمع الناس على حالة شعورية جماعية من الأخوة والتكاتف والمحبة، وتضرب في ذلك الأمثلة الأروع، كل ذلك في أشكال من البلاغة والأدب المبدع

وها هو ذا شعر «يونس أمره» ما زال يقدم للناس المواساة والطمأنينة منذ أن قاله مع كارثة الاجتياح المغولي قبل سبعة قرون

وغيره من الأولياء ذوي الإنتاج الشعري والأدبي أمثال: الشيخ أحمد اليسوي، والولي حاجي بيرام، وأشرف أوغلو الرومي، وعزيز محمود هدائي، قدس الله سرهم جميعًا، فقد نقلوا التصوف ومعانيه وقيمه من الخاصة إلى العامة، وجعلوها متاحة للجميع، يفهمونها ويدركون معانيها، ويتفيؤون ظلالها، ويلجؤون إليها

ولا نُغفل هنا «أدب الديوان» ببحوره وأوزانه وعَروضه، فقد أثراه شعراء الصوفية بقصائد ودواوين خالدة، ما زالت نبعًا ثرًا يحتذيها الشعراء، ويتغنى بها المنشدون إلى يومنا هذا، إضافة إلى الأعمال الأدبية النثرية الأخرى

كل نوع من هذه الأنواع الأدبية الصوفية يأخذك إلى عالم مختلف من المشاعر والأحاسيس

 ففي «التوحيد» تأخذك الروح الجياشة إلى آفاق رحيبة من معاني الأسماء والصفات، وتسمو بك إلى حالة من العشق الإلهي المتماهي في ذاته سبحانه، وتلك هي قصائد التوحيد التي كتبها المتصوفة تحلق بك في فضاء إيماني شاسع وبعيد، تنال فيه فيوضات لم تدركها من قبل

 وفي قصائد «النعت» تحيا معاني الوله والعشق للرسول النبي صلى الله عليه وسلم، والاشتياق إلى رؤيته والتغني بسيرته وسنته، فتبدو هذه القصائد وكأنها لوحاتٌ رائعةٌ نُقِشت على جدران الأفئدة، وها هو الشاعر «فضولي» في إحدى قصائد النعت، وهي «قصيدة الماء» يقول معبرًا عن الاشتياق للحبيب النبي صلى الله عليه وسلم

يقضي الماء عمره كي يصل إلى غبار قدميه

جاريًا بلا هدف من صخرة إلى أخرى سعيًا إليه

 وهناك مجموعة من الشعراء مثل

مولانا جلال الدين الرومي، وفضولي، ونائيلي، ونابي، ونحيفي، والشيخ غالب، وشعراء عظماء آخرون كتبوا مؤلفات نبعت من قلبٍ يهيم بالنشوة الصوفية

ومع اقتران الأدب الراقي بالمشاعر الصوفية السامية، ومشاعرها العميقة أنتج لنا التقاء هذين العملاقين محتوىً ضخمًا في ثرائه وعمقه، ينهل منه القاصي والداني، ويشبع رغبات الجميع على اختلاف الأذواق والأمزجة والأفهام والمشاعر

وقد أوضح نهاد سامي بانارلي المختص في تاريخ الأدب هذه الحقيقة بقوله

 «التصوف هو من أوجد الأدب التركي وطوَّره وارتقى به»

ولعلَّ الشاعر «نديم» المعروف بميوله الدنيوية قد كسب شهرته حين برع في أدب «النعت»، وكذلك الشاعر «توفيق فكرت» العلماني اشتهر في الساحة الأدبية بعد أن كتب أشعاراً في أدب «التوحيد»

وهذه هي نتيجةٌ مباشرة لهذا التطور والرقي الذي ارتقى بالأدب التركي إلى العالمية

لم لا، وقد جاء الحديث النبوي مؤيدًا للأدب والشعر، داعمًا لتوجه الشعراء والأدباء في توجيه الناس والدفاع عن الدين، وإلهاب حماس المقاتلين والمجاهدين

 فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرًا في المسجد يقوم عليه قائمًا يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو قالت: ينافح عن رسول الله- ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم

«إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما يفاخر، أو ينافح عن رسول الله» (الترمذي، الأدب، 72؛ أبو داوود، الأدب، 87)

 إن وقوف جبريل عليه السلام مع الشاعر حسان رضي الله عنه في هذا الموضع يُبيِّن أن الحق تعالى يُلهم الشاعر الذي يسير في طريق الله تعالى ويؤيده بتأييده


التصوف والعلوم الإسلامية الأخرى

غاية خلق الله للإنسان، وأساليب تحقيق هذه الغاية قد فصَّلها الدين ويسَّرها، وعلوم الدين التي نشأت وتنامت في رحاب الدين إنما تطورت لأجل توضيح هذه الغاية، فغاية خلق الإنسان وغاية الدين هي العبادة، والعبادة في معناها الإسلامي الشامل تشمل واجبات المسلم تجاه ربه عزَّ وجل، وتجاه مخلوقات ربه، وتجاه كتاب ربه المسطور (القرآن)، وتجاه كتاب ربه المنظور (الكون)، والتصوف هو روح هذه العبادات، وهو القلب الذي يؤديها، والبصيرة التي تدركها، والفهم الراقي الذي يحصِّل معانيها فيحسن أداءها، وهو القواعد الحسية والمعنوية التي تعطي الروح والحياة للقواعد الأكاديمية الجافة لهذه العلوم، سواء كانت علومًا دينية أو علومًا دنيوية، وكلها في النهاية علوم للإنسان ولخدمة الإنسان ولهدايته في درب الحق للوصول إلى الحق

والعبادات -على سبيل المثال- ليست مجرد حركات تؤدَّى، ولا ألفاظًا محفوظة، ولا عادات روتينية فحسب، إنما هي عبادات غايتها الخشوع، ووسيلتها الخشوع، وروحها الخشوع، وهذا الجانب القلبي الأصلي فيها أكدته آيات القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا

حتى الإيمانُ نفسُه من شروطه التصديقُ بالقلب والإقرار بالجوارح بعد الإقرار باللسان، والتصوف هو الذي يهتم بذلك التواصل ما بين الجانبين الظاهري والباطني من أعمال العبادات

ولا سبيل إلى تحصيل حقيقة العلوم الظاهرية دون الاعتماد على المشاعر القلبية بالتوازي مع القواعد والأساليب العقلانية، فالعلم الذي يفتقد الخشوع -كجسد فاقد للروح- علم لا فائدة تُرجى منه، فها هم علماء بني إسرائيل حصَّلوا علمًا جمًّا، لكنه لم يتجاوز عقولهم إلى مشاعرهم ولا إلى قلوبهم، فكانوا كما قال الله تعالى

(كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) (الجمعة، 5)

وقبل أن نورد تفاصيل علاقة التصوف بفروع العلوم الإسلامية، نؤكد على حقيقة أن سبب الجدل الذي يقع أحيانًا بين التصوف والعلم إنما هو لخلل في التواصل بين الجانبين، فإذا تم إصلاح هذا الخلل وجدنا الجانبين في تناغم وتواصل، يكمل أحدهما الآخر

أ. التصوف وعلم الكلام

من نافلة القول أن نذكر تعريف علم الكلام، وهو العلم الذي يتحدث عن ذات الله تعالى وصفاته ووحدانيته، وهو من أعلى العلوم كَعْبًا وأشرفها قَدْرًا، لدوره في إثبات العقائد ومواجهة شبهات المشككين ودحض أباطيلهم، وإقناع الناس -باستخدام المنهج العقلي- بالإسلام وحقائقه

بينما يعتمد التصوف المنهج القلبي في معرفة الله تعالى وتعريف الناس به وبصفاته وكمالاته عزَّ وجل

وثمة تلاقٍ بين علم الكلام والفلسفة في المنهج العقلي إثباتًا للحق ودحضًا للباطل، لكن علم الكلام منضبط بضوابط الشرع، مبنية قواعده على القرآن والسنة، يزاوج بين «العقل» و«النص»

فالعقل يثبت الحقيقة بمنطق السبب والمسبب، أو بمنطق الأعرابي

 «البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، وسماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، أفلا تدل على اللطيف الخبير»

فإذا كان العقل والمنطق يكفيان في إثبات كثير من الحقائق في عالم الشهادة، فثمة مواضع وحقائق لا يكفي فيها المنطق، ولا يقدر عليها العقل وحده، وهو ما يجعلنا في حاجة دائمة وماسة إلى القلب والمشاعر في إدراك وإثبات ما يعجز عنه العقل، مما يجعل للتصوف اليد العليا في الوصول إلى أدلة قاطعة عقلية وقلبية، بأساليب الإلهام والكشف، والتجليات المنضبطة بحدود القرآن والسنة

وليس ثمة تعارض بين التصوف وعلم الكلام؛ بل تكامل وترابط، فعلماء الكلام- كما أسلفنا- ليسوا فلاسفة في اعتماد العقل وحده، بل يمزجون العقل بالنص، والشريعة بالحقيقة

 وتُحدثنا حوادث التاريخ عن كثيرٍ من علماء الكلام الذين اعتمدوا أفكار الصوفية وآراءهم منهاجًا وواقعًا، فعلم الكلام يرتقي بالذهن والحواس إلى درجة من النضج تلبي جزءًا لا يستهان به من حاجات الإنسان

ويأتي ذلك التكامل بين التصوف وعلم الكلام من جهة أن العقل له قدرات محدودة، لاسيما فيما يتعلق بالعلوم الباطنة والغيبيات وما وراء الطبيعة، وعالم الملكوت، فيقف العقل والذهن عند حدوده، ولا يستطيع تجاوزها، وهنا يأتي دور التصوف ودور القلب عبر وسائله الخارقة للطبيعة في المعرفة مثل الكشف والإلهام، والسوانح القلبية والتجلي

ليس ذلك فقط، فحتى الإدراكات العقلية والذهنية لابد أن تمر بالأحاسيس والمشاعر حتى تدرك كنهها وتصل إلى حقيقتها

وما يمكِّن القلب من الوصول إلى درجة مناسبة من الإدراك والكشف هو ذكر الله تعالى، وبهذا الذكر يقود التصوف كل الناس - على اختلاف قدراتهم العقلية - إلى الإيمان المطلق بوجود الله تعالى ووحدانيته

 ويبيِّن فخرُ الدين الرازي   -أحدُ أشهر المفسرين وعلماء الكلام- هذه الحقيقة قائلًا

  «مهما بدت طرق علم الكلام غير كافية للوصول إلى الحقيقة، فإنها تبقى الخطوة الأولى المهمة للعبور إلى التصوف، فلا يصل المرء إلى درجة الكمال إلا بعد انتقاله من العلوم الشرعية التي تستند إلى الظاهر، إلى العلوم الباطنية التي تستند إلى معرفة حقائق الأحاديث

ب. التصوف والتفسير

إذا كان موضوع علم التفسير هو الإعراب عن المعاني العميقة المركوزة في آيات القرآن الكريم، وإظهار حقائقه ودقائقه، فإن التفسير بذلك يصبح من أهم وسائل التصوف ومن أنجع أدويته وعلاجاته، فالقرآن هو المصدر الأساسي للتصوف

وهدف التصوف هو نفسه هدف القرآن في الرقي بالشعور الإنساني إلى درجة الإيمان، والوصول بالإيمان إلى درجة الإحسان، وتحلية المؤمن في ظاهره وباطنه وسلوكه بصفات الكمال، وإكساب أحاسيسه ومشاعره وقلبه وعباداته ومعاملاته مَلَكة المراقبة الإلهية، والعيش الدائم بذكر الله تعالى

هذا الذكر الذي هو القرآن، جعله المتصوفة دينهم وديدنهم، وقطب دائرة وجودهم، ليلاً ونهارًا، وفي السحر، تلاوة وتفكرًا وتدبرًا؛ هو وِردهم اللساني والعقلي والقلبي. وهم بذلك يعيشون بالقرآن، ويعيشون للقرآن، ويصير القرآن محورَ حياتهم، هؤلاء هم المتصوفون حقًا، الذين ساروا بالقرآن سيرة النبي الذي كان قرآنًا يمشي على الأرض

*

لقد كانت مساهمات أهل التصوف في علم التفسير مساهماتٍ ذاتَ أثر جليل، فقد انتقلوا بهذا العلم نقلة نوعية، وعبروا به من حدود المعاني الظاهرة إلى حدود المعاني الباطنة، ومن المعاني اللغوية إلى المعاني الإشارية، ومن قيود اللغة وحروفها إلى رحابة أعماق المعاني والدلالات

 فمن ضيق الأفق أن نقصر معاني القرآن ونحبسها في إسار الحروف اللغوية والكلمات البشرية ذات المعنى المحدود، فهذه الآيات الإلهية تحتاج إلى طور فوق أطوار العقل لندرك عالمها ورحابة آفاقها؛ لكن ينبغي التنبيه هنا إلى أن هذا العلم -علم التفسير الإشاري- له أيضًا نُظُمه، وثمة أمور لابد من مراعاتها عند تقديم المعنى الإشاري لآيات القرآن الكريم، لعل أهمها أمور ثلاثة

 عدم التناقض بين المعنى الإشاري والمعنى الظاهري

 أن يكون المعنى الإشاري الجديد مطابقًا للكتاب والسنة

  ألا يخرج المعنى الإشاري عن سياق اللفظ واللغة في الآيات

ومن أشهر كتب التفسير الإشاري للقرآن الكريم

    كتاب «حقائق التفسير» لأبي عبد الرحمن السلمي

   كتاب «لطائف الإشارات» للإمام القشيري

   كتاب «روح البيان» لإسماعيل حقي البورصوي

إضافة إلى مؤلفات أخرى لكبار المتصوفة ثرية بهذا النوع من المعاني اللطيفة للتفسير الإشاري؛ مثل: كتب ابن عربي، ومولانا جلال الدين الرومي

وفي الحقيقة، كما أن إدراك ذات الله تعالى وصفاته ضرب من المستحيل، فكذلك إدراك كل مرامي كلام الله غير ممكن عبر الألفاظ البشرية، حتى بالمعاني الإشارية، وكل الذي يمكننا فهمه ونقله هو مجرد حبة رمل من جبل، وقطرة من محيط، وتُعبِّر هذه الآية الكريمة عن هذه الحقيقة أجمل تعبير

(وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لقمان، 27)

ويبيِّن الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن كلامه أعلى وأعمق من كلام البشر، وأن علمه لا حدَّ له، وذلك كي يسعى الناس جاهدين لفهم معاني القرآن الكثيرة، ولتنفتح لهم آفاق رحيبة في الفهم والتصوف، والغوص في المعاني والدلالات، وقد قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن بعض خصائص القرآن الكريم

ولا تنقضي عجائبه (الترمذي، فضائل القرآن، 14)

 ويقول مولانا جلال الدين الرومي في معنى الآية

 «من الممكن كتابة ظاهر القرآن الكريم بأُوقية من الحبر، ولكن ليس في الكون شيء يكفي لتوضيح أسراره، حتى لو صارت البحار كلها حبرًا والأشجار كلها أقلامًا»

لقد أوضحت هذه الآية، وكذلك هذا الحديث حقائقَ هائلة، فقد حفل القرآن الكريم بحقائق ومعانٍ لا حصر لها، ثم تناولها بكلمات شديدة الاختصار، أو إشارات عميقة اللطف. إنَّ كلماتِ القرآن وحروفَه هي مجرد بذور تحمل في أعماقها عوالم أخرى لا متناهية من الحيوات والعوالم والثمار والفروع، وهي تحتاج إلى قلب سليم خِصْبٍ يستطيع أن يُنمِّي هذه البذور

ولو أن هذه الحقائق كُتبت بشيء من التفصيل أو التوضيح في القرآن لاحتاج ذلك إلى عدد لا يحصى من المجلدات، لكن اللبيب تكفيه الإشارة

هذه الإشارة هي ما قصده أهل العلم عندما عددوا صفات وشروط العلوم اللازمة التي يجب توافرها فيمن يتصدى للتفسير، وأهمها «العلم الوهبي» أو الموهبة والقدرة الخاصة التي لا تتوافر لأي عالم، فقط توجد لدى العلماء الربانيين، الأتقياء الأنقياء الأولياء، أو بمعنى آخر العلماء العاملين

ويشير قول عيسى بن مريم عليه السلام إلى هذه الحقيقة: «من عمل بما يعلم ورَّثه الله علم ما لم يعلم». (أبو نعيم، الحلية، جـ 10 ، 15)

 وهذا يعني أنه طالما ثمة أمراض قلبية، مثل الكبر والغرور والحسد وحب الدنيا، تمنع من فهم آيات الله تعالى، ولم تُعالج بالتطهير والتربية الصوفية، فلا يمكن لأي امرئ أن يأخذ نصيبه من أسرار القرآن الكريم، وتوضح الآية الكريمة هذا الأمر بصراحة جلية: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (الأعراف، 146)

أي إنه لا ينال أسرار القرآن الكريم إلا من تربى على أخلاق القرآن

ت. التصوف وعلم الحديث والسيرة

 علم الحديث هو العلم الذي يبحث في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخَلقية، وأخلاقه الحميدة

 ويتخذ التصوف -مثل العلوم الإسلامية الأخرى- الحديثَ النبوي المصدر الثاني له بعد القرآن الكريم، والأحاديثُ الشريفةُ مصدرٌ شديد الثراء، فهو يشرح حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما فيها من أبعاد مادية ومعنوية، وقد لعبت دورًا حاسمًا في تكوين التصوف وتطوّره، فالأحاديث الشريفة التي تناولت الأمور القلبية مثل الزهد، والورع، والإحسان، والتواضع، والإيثار، والصبر، والشكر، والتوكل، هي الأساس والمنطلق لأفكار أهل التصوف ومفاهيمهم

إن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتصرفاته المتعلقة بحياته الروحانية في المسائل التي تتعلق بالتصوف، قد قاربَت بين التصوف وعلم الحديث بحيث وصلا إلى حالة من التماهي يصعب الفصل بينهما

 وقد وضَّحنا في العلاقة بين التصوف وعلم التفسير أن غاية أهل التصوف هي التقرب إلى الله تعالى والحياة مع القرآن الكريم، ولأن أهل التصوف يعرفون حق المعرفة أن الوصول إلى محبة الله تعالى تتحقق بالسير على خطى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جعلوا اتِّباعه في كل أمر شعارًا لهم، والسيرَ على منهاجه سبيلَ نجاتهم ووصولهم، وبذلك عاشوا السُّنَّة وحققوا معانيها وحصَّلوا كنوزها

 ويلخِّص الشيخ نقشبند طريقته بأنها على نهج السنة النبوية الشريفة وعلى نهج أصحابه من بعده، فهو يقول

 «إن كل ما حصلنا عليه بلطف الله (من العلوم الباطنة)، كان حصيلة العمل بآيات القرآن الكريم وأحاديث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكي نحصل على نتيجة هذه الأعمال، لا بُدَّ من مراعاة التقوى والقواعد الشرعية، والعمل بعزيمة وفق مناهج أهل السنة والجماعة وتجنب البدع

وهذا العمل بمقتضى منهج أهل السنة، وهذا السير على خطى المصطفى صلى الله عليه وسلم هو توجيهٌ قرآني بالطاعة والاتباع والاهتداء والتأسي؛ لكنه في البداية يحتاج إلى المحبة، ثم هو يتطلب النماذج الحية الواقعية التي تقرب المعاني القلبية إلى الأفهام البشرية، وهو ما تُمدنا به كتب الحديث والسيرة مددًا لا ينقطع، وكذلك كتب التراجم -سِيَر الصحابة والتابعين والصالحين والأولياء- التي تؤرخ لهذا المدد المستمر، وتُواصِل تتبع امتداد هذه الأخلاق علمًا وعملاً وحياة وواقعًا من لدن الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. لقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم هي المعيار في التربية الصوفية التي يرعاها أولياء الله، هذا المعيار هو الدليل الحي والواضح على التطابق المطلق بين المنهاج الصوفي وجوهر المنهاج القرآني والنبوي الشريف

إن التطبيق العملي الواقعي -من لدن أهل التصوف- للسيرة والسنة النبوية، ونقلها من الجانب النظري إلى الجانب الواقعي، هو من تلك الفضائل التي تعكسها حياة أهل التصوف

 ولنذكر هنا بعض الأمثلة

قال الشيخ أبو يزيد البسطامي لأحد طلابه: «قم بنا حتى ننظر إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية وكان رجلًا مقصودًا مشهورًا بالزهد، فمضوا إليه، فلما خرج من بيته ودخل المسجد، رمى ببصاقه تجاه القبلة، فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه، وقال: هذا غير مأمون على أدبٍ من آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يكون مأمونًا على ما يدعيه (من أسرار الحق)

وكان هذا الإمام الرباني معروفًا بشدة اتباعه لسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في كل حركاته وسكناته، وكان هذا الاتباع وصيتَه لكل من يلقاه أو يربيه، وكان يقول

«إن السبب الظاهر والخفي لكل ما يمنحنا الله تعالى إياه من فيوضات وألطاف، وكل ما يمنحه سبحانه للبشر من جزاء وثواب إنما هو اتباعُ سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والسيرُ على خطاه، فهو سيد الأولين والآخرين، وأسوة البشرية إلى يوم الدين، وأما كل شقاء يلقاه الإنسان فسببه خلل في اتباع السنة، وكذلك أنا فكل توفيقي وسعادتي كان ببركة ذلك التأسي والاتباع، وأذكر أني ذات مرة دخلت الخلاء غافلاً بقدمي اليمنى، فحرمت سائر يومي هذا من صفاء روحي

هذا الإمام الرباني طلب من أحد مريديه يومًا أن يحضر بعض زهور القرنفل من الحديقة، فجاءه المريد بست زهرات، فبدت علامات الحزن على الإمام، وقال

 «ما فتئ طلابنا غير مكترثين بحديث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: «إنَّ الله وِتْرٌ يحبُّ الوِتْرَ»، ولذا فمن المستحب أن نطبق هذا الحديث في أمورنا كلها، ماذا يفهم الناس من كلمة مستحب؟ المستحب هو الشيء الذي يحبه الله عزَّ وجل، أي إذا ما أُعطيت الدنيا والآخرة كلها للمرء مقابل عملٍ يحبه الله تعالى، فلا قيمة لهذا العطاء مطلقًا، وبما أننا نتَّبع المستحب بهذا القدْر، فإننا نبدأ بخدِّنا الأيمن قبل الأيسر أثناء غسل وجهنا، لأن التيامن مستحب في كل الأعمال

وكتب الإمام الرباني في إحدى رسائله

«قد شرفنا الله سبحانه وأمثالنا من المفلسين العاجزين المقعدين بدولة اتباع سيد الأولين والآخرين الذي أبرز كمالاته السمائية والصفاتية في طفيل محبته إلى عرضة الظهور، وجعله أفضل جميع الكائنات عليه من الصلوات أفضلها ومن التسليمات أكملها، ورزقنا الاستقامة عليه، فإن ذرة من هذه المتابعة المرضية أفضل من جميع التلذذات الدنيوية والتنعمات الأخروية بمراتب كثيرة، والفضيلة منوطة بمتابعة سنته، والمزية مربوطة بإتيان شريعته عليه وعلى آله الصلاة والسلام والتحية. والنوم في نصف النهار مثلًا الواقع على وجه هذه المتابعة أفضل من إحياء ألوف من الليالي الواقع على غير وجه المتابعة، وكذلك الإفطار في يوم عيد الفطر الذي أمرت الشريعة به أفضل من صيام أبد الآباد الذي لم يؤخذ من الشريعة، وإعطاء حبل بأمر الشارع أفضل من إنفاق جبل من الذهب من قبل نفسه

 ويقول الشيخ موسى أفندي قدس الله سره

«إن الارتقاء الحقيقي هو بمعرفة العبد أنه أمام نظر الله وسمعه، وتطبيق السنة المطهرة»

«والحقيقة التي ينبغي لنا الوقوف عليها بقدم راسخة، وإدراكها تمام الإدراك، أن نجاتنا يوم الدين، وأن سعادتنا في عليين، إنما تكمن في اقتدائنا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمرنا، قولاً وفعلاً وعملاً وحركة وسكونًا، وأن يحمل الدم الجاري في عروقنا سنته إلى كل خلايا جسدنا، فنحيا بها، ونحيا لها، ونحيا عليها

واتباعًا لهذه السنة؛ كان السائرون على طريق الترقي يجمعون الأحاديث للتربية تحت مسمى «كتاب الزهد» حتى قبل أن تقنن مناهج التصوف، وتبرز قواعده كعلم. وكذلك أثرى المتصوفون علمَ الحديث والسيرة بما قدموه من المعاني والإشارات ولطائف الإدراك والاتباع

كما أن كبار المتصوفة وعلماءهم أثروا علوم الحديث بمؤلفاتهم، مثل

الحكيم الترمذي، والقشيري، وابن عربي، والكلاباذي

وثمة علماء متخصصون في الحديث تبنوا المنهج الصوفي في قواعدهم، فها هو الإمام البخاري الذي يُعد صحيحه أصح الكتب المصنفة؛ كان إذا أراد أن يُدوِّن حديثًا في صحائفه، بعد أن يتتبع أسانيده ويتحقق من متنه، نراه يصلي ركعتين حتى يثبت قلبه، ويستكين فؤاده، فيدوِّنه قانعًا مطمئنًا

وها هو الإمام الزاهد المحدِّث الفقيه أحمد بن حنبل، روى ثلاثة أحاديث شريفة تلقاها عن النبي في رؤية منامية

ث. التصوف والفقه

الفقه لغة: المعرفة والفهم والإدراك لدقائق الأشياء، أما اصطلاحًا فقد مر مفهوم الفقه بتطور تاريخي، فبدايةً كان يعني العلوم الدينية والدنيوية، ثم اختص بما يجب على المسلم عمله، وهو التعريف الذي قاله الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان

«معرفة النفس ما لها وما عليها»

وأطلق على علوم العقيدة اسم «الفقه الأكبر» لأنها تعلقت بمعرفة الإنسان لربه سبحانه

ثم توسعت العلوم الفقهية، وتفرعت، فاقتصر الفقه على الأحكام العملية للعبادات، والأمور القضائية للمعاملات، وأحكام الجنايات والعقوبات وغيرها

وفي الجهة الأخرى يتابع التصوف الشروط الباطنية لصحة العبادات والمعاملات، ويتابع الشروط القلبية لصحة السلوكيات، ويُعَدُّ التصوفُ تلك القواعد الباطنية التي تصحح ذلك كله، ولهذا فإن التصوف يُطلق عليه اسم «فقه الباطن»، أو «الفقه الوجداني»؛ لأنه يمثل القاعدة الروحانية لعلم الفقه، وهو كنهه وجوهره

والشريعة تضع للعبادات شروطًا ظاهرية وشروطًا باطنية، فما يتعلق أداؤه بالحركات الجسدية، يتعلق قبوله بالمشاعر القلبية، وعليه فإن قواعد الفقه لا تنفصل عن قواعد التصوف، بل يكمل أحدهما الآخر، وكلُّ منهما يؤدي دوره المنوط به

 ففي الوقت الذي يبحث الفقهاء ويدونون أحكام العبادات، مثل الصلاة والصيام والحج؛ وأحكام المعاملات، والأسرة والمواريث والتجارة والقصاص، يُعطي المتصوفون بالمقابل أهمية لأداء هذه الأحكام جنبًا إلى جنب مع المؤثرات المعنوية، مثل الزهد والتقوى والإخلاص، ويعطي القرآنُ أهمية أكبر للجانب المعنوي من العبادات، ويوجِّه العبد إلى الزهد والتقوى

 وقد كان كثير من المتصوفة، مثل الغزالي، وابن عربي، ومولانا جلال الدين الرومي، علماءَ وفقهاء ضليعين في العلوم الظاهرية، وهناك أيضًا كثير من العلماء في السلسلة النقشبندية، مثل يوسف الهمداني، والشيخ نقشبد، وعلاء الدين العطَّار، ويعقوب الجرخي، ودرويش محمد، والإمام الرباني، وخالد البغدادي، قد وصلوا إلى الذروة في العلوم الظاهرية وأجيزوا فيها، وقد أطلق أهل العلم في السلسلة النقشبندية على هذه الشخصيات اسم «خواجكان» أي «الأساتذة» لأنهم تعلموا في المدارس الدينية

 وتعلُّم علم الظاهر لا يغني عن تعلم علم الباطن، وقد ثبت ذلك عن كثير من العلماء الأكابر المتقدمين والمتأخرين: فمِن الحنفية كابن الهمام، وابن الشلبي، والشرنبلالي، وخير الدين الرملي، وأحمد بن محمد الشريف الحموي المعروف بمحشي الأشباه وأمثالهم؛ ومن الشافعية كسلطان العلماء العز بن عبد السلام، والإمام الغزالي، وتاج الدين السبكي، والسيوطي، وشيخ الإسلام القاضي زكريا الأنصاري، والعلامة الشهاب ابن حجر الهيتمي المكي وأضرابهم؛ ومن المالكية كالعارف أبي الحسن الشاذلي، وخليفته الشيخ أبي العباس المرسي، وخليفته الشيخ ابن عطاء الله الاسكندري، والعارف ابن أبي جمرة، وناصر الدين اللقاني، والشيخ العلامة المحقق العارف أحمد زروق البرلسي وغيرهم؛ ومن الحنابلة كالشيخ عبد القادر الجيلي، وشيخ الإسلام عبد الله الأنصاري الهروي، والشيخ ابن النجار الفتوحي وغيرهم

وثمة علماء مشهورون منتسبون للنقشبندية، مثل السيد الشريف الجرجاني، والملا الجامي، وعبد الحكيم السيالكوتي، وعبد الغني النابلسي، وابن عابدين، وشهاب الدين الآلوسي، وهؤلاء العلماء الأجلَّة بعد التضلع من علوم الظاهر اشتغلوا بتحصيل علوم الباطن وتلقيها عن أهلها بالصحبة والخدمة والسلوك

وثمة كلمة مأثورة عن بعض السلف توضح الكثير من الأمور، وتضع الكثير من القواعد، وتنفي الكثير من الخبَثَ، يقول الإمام مالك

 «من تفقَّه ولم يتصوف فقد تفسَّق، ومن تصوَّف ولم يتفقَّه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقَّق»

ويذكر عبد الخالق غجدواني أن المرء الذي يصل إلى مرتبة فناء النفس هو من يحمل القرآن الكريم بيده اليمنى والأحاديث الشريفة بيده اليسرى، ويسلك سبيل الهداية بنوريهما، وينصح أحد مريديه قائلًا

 «تعلم علم الفقه والحديث، وابتعد عن الجهَّال من المتصوفة»

 فإدراك المعنى الكامل للإسلام والعيش بمقتضاه يتحقق بوحدة العلم والعرفان، والجمع بين الفقه والتصوف، أي بين علوم الظاهر والباطن

أما من يدعي التضاد بين التصوف والفقه، أو يتوهم التعارض بين علوم الظاهر وعلوم الباطن، أو يرى البون شاسعًا بين الأحكام الدينية والتربية الصوفية، فهؤلاء قليلو العلم والعمل، محدودو الإدراك والشعور، أصابهم الجهل أو قيدهم التزمت أو أعمى بصيرتهم وأبصارهم الكِبر، وهو ما أدى -في بعض حقب التاريخ- إلى التشوه الذي أصاب العلاقة بين الجانبين

وخلاصة القول في العلاقة بين التصوف وبقية العلوم الإسلامية أن التصوف جزء لا يتجزأ من تلك العلوم، وهو عضو فيها كسائر أعضاء الجسد الواحد


التصوف والعلوم الطبيعية

للوهلة الأولى قد نجد تناقضًا بين التصوف والعلوم الطبيعية، فالعلوم الطبيعية الخاضعة للنتائج المعملية وأبحاث المختبرات بعيدة كل البعد عن العلوم الميتافيزيقية، أما التصوف فهو مغرق فيما وراء الطبيعة

لكن الحقيقة غير ذلك، فكلاهما له هدف واحد، وهو الوصول إلى الحكمةِ من وراء الخَلْق، والعلةِ من وراء الموجودات، وإدراك الأسرار الكامنة في الكائنات، وإشباع شغف الإنسان بالاطلاع الأمثل والأشمل على الكون وخالقه؛ أي الانتقال من عالم المشاهدة إلى عالم الشهود، ومن الـمُلك إلى الملكوت

والعلوم الطبيعية ومكتشفاتها وعالمها المادي هو المرحلة الأولى للوصول إلى عالم الحقيقة، وهو الأدلة الأولى والدائمة على عظمة الخلق وقدرة الخالق

كما أن الإسلام في تعامله مع المخلوقات -عاقلة وغير عاقلة- يهتم بالنواحي الميتافيزيقية كما يهتم بالنواحي الطبيعية، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالرفق ويتعامل به في شأنه كله حتى مع الجمادات، وها هو جذع النخلة الميت يحنُّ إليه، والجمادات في طريقه تسلم عليه

والاكتشافات العلمية كلَّ يوم تقرب المسافة بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، وتوثق الصلة بين الفيزياء والميتافيزيقا، وتنفي كل القواعد الجامدة التي وضعها اللادينيون في العلوم الفيزيائية الطبيعية، فنظرية النشوء والارتقاء وأصل الأنواع محكوم عليها بالإخفاق والقصور من يوم ظهورها، وقانون بقاء المادة وبقاء الكتلة للكيميائي الفرنسي أنطون لافوازييه ذهبت أدراج الرياح بعد تمكن الإنسان من تفتيت الذرة، التي تفتت معها مسلمات قديمة طال النزاع فيها بين العلم والدين حول «قِدَم المادة» وبقائها وفنائها، فأثبت العلم أن ذلك كلَّه مجرد «طاقة»، وأن وجودها «عرضي» مؤقت، وليس بقديم

واكتشاف الجينات وما تحمله من مورثات أو كروموزومات تحتوي على أسرارِ وخصائصِ الشخصية دليلٌ على عظمة الخالق سبحانه، وعلى عظمة كتابه الكريم الذي أشار إلى هذه الحقائق بشكل ميتافيزيقي، ليؤكد لنا الترابط بين العالمين المادي والمعنوي، وليؤكد الصلة بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، ولم يكن التباعد بينهما سوى قصورٍ في العلم، واحتاج اكتشافُ ذلك التقارب أو التواصل إلى مرور الأزمان المتطاولة، واكتشاف حقائق علمية لإدراك حقائق قرآنية معجزة ثابتة وكامنة وراء الألفاظ والتعبيرات القرآنية

لكنَّ المسلمَ الحقيقي مؤمن منذ البداية بعظمة خالقه، كما أنه مقرٌّ بعجز نفسه البشرية عن فهم كل معاني هذه القدرة

وفي القرن التاسع عشر كتب ضياء باشا بيتَين من الحكمة يقول فيهما

سبحان من تحيَّرت في صُنعه العقول

سبحان من بقدرته يُعجِز الفحول

 والمسلم موقن بأن المعجزات الكونية التي يتوالى ظهورها لن تنقطع، وأن تكشُّفها المستمر هو أدلة جديدة ومتجددة تناسب الزمان والمكان والعلوم والأفهام، وأن كل اكتشاف جديد يؤكد عجز الإنسان أمام صُنع الخالق وعظمته، ولا يبقى مفرٌّ له من الاعتراف بالحِكم اللانهائية وراء تلك الصنعة والعظمة، وقد أوضح ضياء باشا هذا العجز البشري خير توضيح حين قال

العقل المحدود لا يطيق ولا يُدرك الغيوب والأسرار

كالميزان الصغير لا يحمل ما ثقل من الأوزان

 وهذا يجعل التصوف مرحلةً متقدمة وتالية للعلوم الطبيعية في بحثه عن أسرار الكون، وسعيه وراء الحكمة الكامنة في الكائنات، وها هو القرآن الكريم يلفت الانتباه في كثير من مواضعه إلى الأسرار والحكم في الكائنات، فقد قال الله عزَّ وجل

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت، 53)

 وتشير كلمة «الآفاق» في الآية الكريمة إلى العالم الخارجي الذي يحيط بالإنسان، أما كلمة «أنفسهم» فهي تشير إلى الحِكَم والعِبَر والأسرار في بنية الإنسان المادية والروحية، ويزيل الله تعالى غفلة العباد، ويستلفت انتباههم بقوله

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج، 46)

(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (الدخان، 38-39)

 ويبين الحق تعالى في آية أخرى -بعد أن أظهر فيض قدرته واستمرارها -أنه قد خلق الإنسان مثل الكائنات الأخرى لغاية

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون، 115)

 ففي كل ذرة من الذرات تجليات رائعة للصنعة الإلهية

 ويمتلك التصوف بفكره ومعنوياته القدرةَ على صياغة تصورٍ كلي شامل يجمع حقائق الكون الطبيعية والميتافيزيقية، ويجعل الإنسان في مركزها، ثم هو يحقق هذا التصور واقعيًا، وينقله من مستوى النظرية إلى مستوى التطبيق عبر أساليبه التربوية المعتمدة أساسًا على «ذكر الله»، ثم الرياضات الروحانية الأخرى

هذه الرياضات التي تمنح العقل والقلب وأدوات الحس قدراتٍ أكبرَ على إدراك العلوم والحكمة من ورائها

ثم إنَّ الكونَ كله في عين المتصوفة ما هو إلا موضع لتجلي وجود الله تعالى وأسمائه وصفاته، وما هذه المخلوقات والموجودات سوى نوع من الإبداع الفني للخالق سبحانه، وإن أبسط المشاهدات التي تتكرر أمام نواظرنا كل يوم بصورة عادية غير ملفتة تحمل في طياتها وظاهرها أعظم المعجزات الناطقة بقدرة الله  تعالى والداعية إلى الإيمان العميق به عزَّ وجل

 فها هي ورقة التوت الخضراء، يأكلها الغزال فيعطينا المسك، وتأكلها دودة القز فتعطينا الحرير

وغيرها، وغيرها من المخلوقات والعطاءات، الورقة واحدة، ولكن الإبداع لا يحصى، فإذا انتقلت إلى غيره من النباتات والأوراق والأعشاب، وجدت الأصل الذي تستمد منه حياتها وغذاءها واحد: الطين والضوء، ثم تختلف ألوانها وأشكالها وطعومها وأريجها، ألا يجعلك ذلك تتوقف مندهشًا أمام إعجاز الله تعالى وقدرته وتجلياته؟

لقد خُلق الكون نتيجة تجلي الأسماء الحسنى، مثلما تجلت في القرآن وفي الإنسان، وما من شيء في الكون خُلق عبثًا، هذا ما يؤمن به أهل التصوف إيمانًا عميقًا

لذا فالتصوف يأخذ بيد العلوم الطبيعية في بحثها عن الحِكمة الظاهرة لله سبحانه في هذا الكون، وهي ذلك التجلي؛ إذ تقف العلوم عاجزة، فلا تدرك تلك الأسرار والحِكم والمعاني، وهنا تلتقي مع التصوف الذي استطاع بالذكر والرياضة الروحانية أن يوسع مداركه، ويطور معارفه القلبية، فيكمل المسيرة في التعرف على الحكمة، وإدراك أسرار التجلي


التصوف والفلسفة

إذا أردنا تعريف الفلسفة بعيدًا عن أصلها اللغوي الذي يعتريه لغط كبير، فإن معناها الاصطلاحي أو المتعارف عليه هو ذلك العلم الذي يسعى إلى وضع أحكام عامة للعلوم كلها، وقواعد كلية للعقل يتوخاها في بحثه عن الحقيقة عبر كل العلوم البشرية الظاهرية

وعليه فإن الفلسفة هي أم العلوم، محرابها العقل، وديدنها القوانين الطبيعية، ورغم سعيها إلى الحكمة عبر محاولة تفسير الأحداث والعلوم، فإن قصورها ناتج من اعتمادها على العقل وحده، والمبالغة في ذلك أحيانًا إلى درجة تصل به إلى القداسة

فإذا رجعنا إلى قيمة العقل ومكانته في الإسلام وجدناه أحد الشروط الأساسية للفرائض والعقائد والعبادات، وهو مناط التكليف؛ إلا أنه ليس المنهاج الأوحد للوصول إلى الحق والحقيقة، بل صنوه الذي لا يفارقه هو «النص»، أو النقل

وهو ما يدفعنا إلى القول بقصور العقل منفردًا عن الإحاطة بحكمة «الشارع»، وإدراك حقيقة «الخلق» و«الخالق» سبحانه

 فما السبيل إذًا إلى مواصلة البحث فيما وراء الطبيعة، والكشف عن الحقائق الميتافيزيقية واستكناه علومها؟

 هنا يأتي دور التصوف؛ حيث يوظف الإمكانات كلها: العقل، والنقل، والقلب، والكشف، ثم هو يتخطى إلى أفق أرحب، فيربي العقل تربية روحية تمنحه إمكانات أعلى في الاستيعاب والإدراك، وكذلك تضبط حركة «الكشف والإلهام» بضوابط «النقل» فلا تقبل قدسية العقل، ولا تقبل أيضًا شطحات الكشف؛ إنما تصهر إمكانات الجميع في بوتقة واحدة تكون نتيجتها مقبولة من الجميع، فكرًا وعقلاً ونقلاً وقلبًا، يقبلها النقل والعقل، ويتقبلها الناس على اختلاف مستويات مداركهم ومشاربهم. أما إذا كان الفتح» أوسع وأعمق، والكشفُ أكثرَ لطفًا ودقةً من أن تدركه العقول، أو تحتمله النصوص ظاهريًا، فثمة قانون صوفي مؤداه أن ما يكشفه الصوفي بقلبه وروحه لا يُجبَر غيرُه على التصديق به؛ هذا القانون يقول

«الكشف دليل لأهل الكشف لا لغيرهم»

لكن المحير في الأمر أن الرغبة الجامحة في الوصول إلى الحقيقة، وفي كشف الغموض، وحب الاستطلاع هي رغبات فطرية مركوزة في الجِبِلَّة الإنسانية، وربما كانت هذه الرغبة هي الدافعَ لحيرة الفلاسفة وتعدد المناهج والمدارس الفلسفية، وربما السبب الآخر في قصور هذه الفلسفات والتيارات الفكرية كلها هو اعتمادها فقط على العقل؛ ذلك العقل الذي يبذل أقصى طاقاته، ويستنفذها في حل مشكلات الفلسفة، والإجابة عن تساؤلاتها الأزلية، لكنه في النهاية يعلن عجزه واستسلامه، ومن ثم يأتي فيلسوف جديد بمنهج جديد وفلسفة جديدة، لا تستطيع هي الأخرى أن تجد الإجابات المطلوبة، لكنها تستطيع فقط أن تنقد وتنقض الإجابات السابقة التي اقترحتها الفلسفات السابقة

كل ذلك التيه الذي يعيشه الإنسان في فلسفته كان سببه عدم إيمانه، فلا دين يمنحه الحقائق الكبرى، ولا إيمان يهدي قلبه وفكره، ولا تقوى تهدهد روحه، وتطفئ ظمأها للحقيقة، إنما الموجود فقط عقل، وعقل بلا هدى

فالعقل وحده غير كاف على الإطلاق، وهو سلاح ذو حدين، قد يقتلك أو يقتل عدوك، هذا العقل يمكنه أن يقودك إلى الخير والبر والصلاح، فترتقي درجات الكمال الإنساني إلى مرتبة {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، وقد يسوقك العقل إلى الغواية والبلايا والرزايا، فتهوى في دركات البهيمية إلى حضيض {بَلْ هُمْ أَضَلُّ}

ولا ينكر أحد عبقرية جنكيز خان أو ذكاء هولاكو، ورغم ذلك لم يحجزهما عقلُهما عن ارتكاب أشنع الجرائم التي ما زالت وصمة عار في جبين الإنسانية، ومع ذلك لم يندى لهم جبين خجلًا مما فعلوه، ولا رف لهم جفن من تأنيب الضمير

إذًا، فالعقل لابد له من هدى، وليس يهدي العقلَ سوى خالقه سبحانه، فإذا ما انضبط العقل بضوابط الشرع، والنص، والنقل، وتربى على منهاج الله تعالى قرآنًا وسنة، وتربية صوفية، كان في ذلك خلاصه من تيه الفلسفة وحيرتها

ولو كانت العقول العظيمة لها القدرة وحدها على تدبير أمر البشرية لاستطاع الفلاسفة أن يوجدوا «المدينة الفاضلة» ولاستطاعوا أن يدلوا الناس على طريق السعادة، أو لأغنوا عن إرسال الأنبياء لهداية البشرية، ولما احتاج الناس إلى «هدى» من السماء ينزل به الوحي

 وقد لاحظ بعض الفلاسفة هذه الحقيقة، واعترفوا بعجز العقل، لذلك بدؤوا بالبحث عن وسائط أخرى يستخدمونها في بحثهم عن الحقيقة، ومن هؤلاء الفلاسفة الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (1859-1941) الذي قبِل «الحدسَ» وسيلة من وسائل الوصول إلى الحقيقة، وكلمة «الحدس» هذه كان أهل الكشف يستخدمونها في الماضي لنشاطاتهم القلبية، وكانت تسمى السوانح القلبية

 ويقول برغسون أنه من الخطأ واللامنطقي رفض الحقائق الميتافيزيقية التي يتلقاها المتدينون حين يصلون إلى مرتبة معنوية محددة بعد تطهير القلب وعبر الرياضات الروحية (الذكر الصوفي وغيره)، لأن هذه الحقائق لا تخضع للتحليل التجريبي مثل الحقائق الفيزيائية، وأوضح أن الحقائق المجردة مثل تلك الموجودة في التجارب الصوفية لا يمكن أن تكون موضوعًا في تجارب المختبرات، وهذا يظهر أن جزءاً صغيرًا من الفلسفة يلائم الفكر الديني، وبالتالي فهو يلائم التصوف

 أما البقية من الفلاسفة فما زال العقلُ محرابهم، وما زالوا يتخبطون في ذلك القفص الحديدي الضيق الذي حبسوا فكرهم فيه، ولم يفتحوا له آفاق الروح والقلب والمشاعر والدين، فصاروا في غيِّهم يترددون ويناقضون

 وعلى النقيض تمامًا نرى العقل الذي غذاه الوحي، وهداه أنبياء الله الذين كانوا جميعا ينهلون من معين واحد، ويصدرون عن أمر واحد، ويدينون بدين واحد، ويؤمنون برب واحد

 ويقول الإمام الغزالي رحمه الله

 «ثم إني لما فرغت من علم الفلسفة وتحصيله وتفهمه وتزييف ما يزيف منه، علمت أن ذلك أيضًا غير وافٍ بكمال الغرض، وأن العقل ليس مستقلًّا بالإحاطة بجميع المطالب، ولا كاشفًا للغطاء عن جميع المعضلات»

 ويوضح نجيب فاضل قيساكوراك موقف الإمام الغزالي بين العقل والمعرفة في أحد مؤلفاته قائلًا:  «إن المفكر الكبير المعروف بـ(حجة الإسلام)... كان مما قاله في المرحلة التي ترك فيها أمور الإدراك العلمية والفكرية كلها، وتوجه إلى المعرفة الحقيقية: وجدت أن كل شيء هو عبارة عن اللجوء إلى روحانية نبي الأنبياء، وسائر ما تبقى ما هو إلا كذب ودجل، ووهم وخيال!.. أما العقل فهو لا شيء... مجرد حدود

 وهذا الرأس العبقري العظيم الذي لم ير العالم مثله قد تراجع عن تساؤلاته كلها، والتجأ إلى روحانية نبي الأنبياء، ووصل إلى اللاحدود

ذلك هو العقل العاجز المحدود، وهذا هو التصوف بعالمه الرحيب اللانهائي، فإذا لم تكن تملك مفاتيح عالم الحقيقة الأبدية، وهي حياة قلبك ومشاعر روحك، فلن يستطيع مفتاح العقل وحده أن يلج بك إلى ذلك العالم المنشود


التصوف والفنون الجميلة

الفن هو انعكاس المشاعر الإنسانية على الأشياء المادية، وتشخيص هذه المشاعر والمعنويات في صورة ملموسة تدركها الحواس سمعًا وبصرًا، ومهما اختلفت وتنوعت هذه الفنون فهي في الأساس نابعة من روح الإنسان المبدع، وكلما رقت هذه المشاعر وتعمقت وسَمَت، انعكست على رقي تلك الفنون وتأثيرها

إن الفنون التي امتزجت مشاربها بينابيع التصوف، واستمدت مشاعرها من رقة قلوب المتصوفة، أبدعت أعمالاً فنية راقية كانت أدلة شاهدة على رقي الحضارة الإسلامية

ويقدم لنا التاريخ الأدلة الدامغة والكثيرة على ذلك، فالشعوب التي بنت الحضارات الإنسانية المتنوعة، لم تبنها فقط في عالم السياسة أو الاقتصاد أو القوة العسكرية، إنما الحضارات ذات الأثر الأبقى عبر الدهور شاخصة ماثلة للأعين؛ هي الحضارات ذات المعالم الفنية

ولا يتسع المجال هنا لعرض تفصيلي للنماذج الصوفية التي تجلت في فنون الحضارات، ولكننا سوف نعرض هنا باختصار لنماذج من الفنون التي تأثرت بالتصوف، وهي: الموسيقى، والعمارة، والخط

أ. التصوف والموسيقى

الإسلام دين الفطرة، وهو يدعم من هذه الفطرة ما يرتقي بالإنسان إلى السمو الروحي، والموسيقى شأنها شأن المزايا الطبيعية الممنوحة للإنسان، لا يمكن للإسلام أن يرفضها كلها، ولا أن يقبلها كلها، إنما ينتقي منها ما يناسب فطرته، ويرتقي بمشاعره، وتصبح بالفعل فنونًا إبداعية تخدم الروح وتسمو بها، ولا تهوي بالنفس إلى منازل الشهوات

والتصوف استخدم الموسيقى في هذا المضمار الذي يسمو بالروح، ويغذي النفس، وفي الإطار الذي يقع داخل حدود الآداب الإسلامية، وإلا رفضها. والطرب الذي في الموسيقى يوظف لإطراب الروح ودعم حالة الوجد التي تسعى إليها، سواء كان ذلك مصاحبًا لقصائد المدح أم المنظومات الشعرية الصوفية الأخرى، التي تحمل قيم التصوف وآدابه ومعانيه، وتزيد من رغبة المستمع في الإقبال على العبادة والطاعة والذكر لله تعالى، وهي تمنح القلب مشاعر وفيوضات إذا هي وُجدت في ظروف وأحوال خاصة، يراعى فيها المكان والزمان والأنغام والحال؛ كل ذلك يضفي على الحال جوًّا من الروحانية الخاصة التي يستغلها أرباب التربية الصوفية في الوصول بالمستمع إلى حالة شعورية صوفية تجعله مقبلًا على طاعة، مدبرًا عن معصية، متلقيًّا لمعانٍ وقيم، متخليًّا عن أفعال وأفكار، في حالة من الوجد تسمو بروحه إلى عالم أرحب بعيد عن دنيا الشهوات، محلقًّا في آفاق الذكر والتفكر حتى يبلغ ذرى الأجواء الإيمانية

وقد استخدم المتصوفة الموسيقى ذلك الاستخدام على مدار قرون، مع الوسائط الأخرى حتى ظهر على الساحة الفنية نوع جديد خاص يُسمى الموسيقى الصوفية

وثمة خلاف دائر بين القوم في استخدام الموسيقى وسيلةً للتربية، ما بين مؤيد لاستخدام الآلات الوترية ومعارض، وما بين رافض لآلات الضرب وموافق، مستندين إلى الآراء الفقهية وما ورد في السنة النبوية من أدلة وشواهد

وبعيدًا عن الدخول في جدل فقهي وتربوي حول تفاصيل الجواز والمنع في الموسيقى وأنواعها وآلاتها، نقول إن الصوت الجميل الندي تميل إليه الآذان، وتنجذب إليه القلوب، وذلك طبعاً ضمن الالتزام بالآداب الإسلامية والحدود الشرعية، ولا ينكر أحد أن الاستماع لأذان الصلاة من صوت خاشع جميل يجعل الإقبال أشد على صلاة الجماعة في مسجد ما دون غيره، وفي إشارة إلى معاني الجذب المعنوي بالصوت الرخيم اختار النبي صلى الله عليه وسلم مؤذنه بلال بن رباح ليرفع النداء لأشرف أعمال الإسلام؛ الصلاة، رغم أن صاحبي الاقتراح -عبر الرؤيا الصادقة- كانا عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وظل بلال رضي الله عنه صاحب الصوت الرائع مؤذنًا للرسول النبي طوال حياته الكريمة

ومن جهة أخرى؛ لابد لنا من الاعتراف بأن الموسيقى - كوسيط - يمكن استغلالها استغلالاً سيئًا في الشر، فتصبح مزمارًا للشيطان، ودعوة للمعصية وإثارة شهوات النفس، لاسيما في زماننا هذا

وإليك القول الفصل في هذه المسألة

 يقول الشيخ مسافر الخوارزمي وهو أحد مُريدي الشيخ بهاء الدين نقشبند قدس الله سرَّه

 حين دخلت في خدمة سيدنا بهاء الدين كنت مولعًا بالسماع، وفي يوم من الأيام تحدثنا مع جماعة من الإخوان، واتفقنا على أن نُحضر المزامير والدفوف والناي، ثم نؤدي السماع في مجلس سيدنا بهاء الدين لنرى ما رأيه في هذا الموضوع، وجلبنا مجموعة من المنشدين ذوي الصوت الجميل الذي يلطِّف القلوب، فلم يمنعنا سيدنا من ذلك لكنه قال في النهاية

 «إننا لا نفعل هذا، ولكن لا ننكره أيضًا»

 يشير كلام الشيخ نقشبند قدس الله سرَّه هنا إلى ضرورة أخذ الحيطة في هذا المجال لأن ذلك قد يتحول إلى آفة نفسية، لذلك علينا أن ندرك أن الاحتياط في هذا الموضوع مهم جدًّا، لأن الناس في أيامنا هذه لا يحافظون على التوازن والاعتدال، ويرون أن الأمر كله هو عبارة عن موسيقى فيغرقون فيها، ويبتعدون شيئا فشيئا عن جوهر التصوف

 ب. التصوف والعمارة

رغم أن العمارة تعتمد على الهندسة والحساب والحجر والخشب، إلا أنها من أرقى الفنون الجميلة، فهي تحول هذه العلوم الرياضية والمواد الصماء إلى أرقى أنواع الفن وأسمى آيات الجمال حين تمزج علوم الرياضيات والهندسة بالمشاعر القلبية، والمواد الخشبية والحجرية بالذوق الرفيع، فتصير المعاني مجسدة في مباني

لذا كان للعمارة قيمة كبيرة لدى أهل التصوف، وإذا ضربنا على ذلك مثالاً حيًا بواحد من أشهر مساجد العالم الإسلامي، وهو مسجد وكلية السليمانية -في إسطنبول- وحلَّلنا خصائصه المعمارية في إطار المفاهيم الصوفية، يمكن بكل وضوح رؤية انعكاس روح الإسلام فيه، والتمازج الروحاني الباهر بصورة تأخذ الألباب، وبعض الرموز الصوفية التي وُضعت بأسلوب ماهر في هذا المكان، فالقبة المركزية والقبب الصغيرة حولها صممت تصميمًا في غاية الإتقان، ويتدرج المسجد في العلو بدءاً من أرضيته لتصل في النهاية إلى القبة المركزية التي ترمز للوحدة الإلهية «الوحدانية»، أما القبب النصف دائرية والقبب الصغيرة الأخرى المنسجمة مع القبة المركزية فهي تُبرز سرَّ أصل من أصول التصوف وهو: «في الوحدة كثرة، وفي الكثرة وحدة

 إن مسجد السليمانية في الحقيقة يجسِّد لطافة مفهوم الروحانية بصورة غاية في الجمال، حيث إنه يرمز إلى الانتقال من التفرعات الكثيرة إلى «الوحدة» الإلهية، ثم العودة من تلك «الوحدة» إلى التفرعات (الكثيرة) مرة أخرى

 وترمز القبة الكبيرة في هذا المسجد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالقبة التي تعكس تلاوة القرآن الكريم في المسجد الشريف والأدعية فيها على المؤمنين هناك، تُمثِّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تلقَّى الأوامر من المولى عزَّ وجل وبلَّغها لأمته

 أما المنارات السامقة فتبدو وكأنها أيادٍ للمسجد الشريف ترتفع إلى السماء داعيةً الله عزَّ وجل ومبتهلةً إليه

ويبرز في المسجد المركزي تأثير الجو الداخلي على حالة الإنسان الروحانية، ويزور هذا المسجد التاريخي الكثيرون من أديان مختلفة، ويشهدون بتأثرهم بالجو الروحاني الذي يستشعرونه هناك، وتتلقاه أرواحهم في جو من الطمأنينة والسكينة

 وتشير الروايات إلى أن هذا المسجد العظيم -ومساجد أخرى مشابهة- قد بُنيت بناء على أمرٍ أُخذ في عالم الرؤيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تم تشييد هذه الصروح من ناحية العمارة بنيَّة بقائها قائمة إلى يوم القيامة على هيئة متينة ومحكمة قدر الإمكان

لقد التقى في هذا المسجد الفريد الجهدُ العظيم مع العبقرية والدقة، ومُزجت فيه السكينة والأصالة بصورة كاملة، فكانت النتيجة لوحةً إبداعية في قمة التناغم والانسجام

هذا بالنسبة للمساجد، ولكن للتصوف أيضًا دور وبنايات أخرى متعددة، فهناك الزوايا والتكايا والرباطات والخانقاوات، وهي وحدات معمارية مميزة تعطي للمدن الإسلامية مذاقًا خاصًا، ومعنى مميزًا، وهي في انتشارها وكثرة أعدادها -على تنوع مساحاتها- تستشعر فيها الكثير من قيم التصوف، التواضع والبساطة، وإنكار الذات والشعور بالفناء، والبعد عن التكلف والفخامة والرفاهية الممقوتة، فهي مصممة فقط لأداء العبادات والنسك على المنهاج الصوفي، وأركانها وجدرانها مشبعة بتلك القيم التي تعكس معانيها الروحية على أشكالها المعنوية

 ت. التصوف وفن الخط

وفن الخط الذي نعنيه هنا هو فن كتابة القرآن الكريم على أجمل صورة وفقًا لمعايير الجمال، وقد ظهر هذا الفن نتيجة الرغبة في التعبير عن الجمال الشكلي للحروف القرآنية كنوع من التعبير عن سمو جمال القرآن العظيم

هذا الفن لقي الاهتمام الأكبر في الوسط الصوفي، إذ لعبت الخانقاوات والتكايا دورًا شديد الأهمية في رعاية هذا الفن وتطوره واستمراره، حيث كانت دور المتصوفة هي المكان الذي يتعلم فيه الفنانون هذا الفن، ثم يلقنونه لطلابهم

وقد ساعد الجو الروحاني المهيأ في هذه الدور على الإبداع في هذا الفن؛ إذ هو عمل شاق يحتاج إلى صبر وجهد كبيرين للوصول إلى درجة متميزة من الإتقان في الخطوط والنقوش والزخارف، وبقية العناصر التابعة للخط، كما أن الاستسلام للمعلم القدوة في إبداع ذلك النوع يحتاج إلى ثقة، وإلى أناس من أهل التقوى، يكتبون كلام الله تعالى، وهو أشرف الكلام

وهل يمكننا تخيل رجل حاد المزاج سيء الأخلاق يوكل إليه أن يكتب شيئًا في حالته تلك، ستخرج حروفه حينها حادة كمزاجه، سيئة كأخلاقه

لذا؛ فالتصوف هو الضمانة التي تهذب أخلاق مبدعي فن الخط وأمزجتهم وأحوالهم، ويهيئ لهم الجو المناسب لكتابة كلمات الله سبحانه، في تقوى قبل الجمال، وفي ورع قبل التزيين، وفي محبة قبل النقوش، وفي مشاعر وجدانية تلف العملية الإبداعية في رسم المصحف من أولها إلى آخرها

 والحق أن تقوية الروح هي قاعدة لتنشئة العباقرة الكبار في هذا الفن -وفي غيره من الفنون- في كل وقت، وقد ترعرع أساتذة فن الخط الذين هم قدوة في هذا الفن، مثل الشيخ حمد الله، وقره حصاري، ويساري زاده، ومصطفى راقم، والكثير منهم، ووصلوا عبر التربية الروحية في ظل التصوف إلى النضج والإتقان

وها هو واحد من أولئك الفنانين في مجال الخط، ومن المتشربين لأخلاق التصوف، يمزجون التضحية بالعمل، والفن بالتقوى، إنه الخطاط «قره حصاري» الذي قام بكتابة الآيات القرآنية في قبة مسجد السليمانية، فقام هذا الفنان الصوفي بجهد متميز في عمله ذاك، حتى فقد بصره مع آخر حروف أبدعها

وعندما أرادوا افتتاح المسجد بعد إتمام الأعمال فيه، قال السلطان سليمان القانوني معربًا عن امتنانه وإعجابه بالعمل الفني الفذ للمعماري الأشهر سنان: «إنه لشرف عظيم للمعماري سنان أن يبدع هذا المسجد الرائع وينشئه على هذه الصورة المبهرة»

فماذا كان رد المعماري سنان على السلطان، ذلك المعماري الصوفي الذي تعلم القيم الإسلامية الصوفية قبل الفن، وأبدع فيها قبل أن يبدع في العمارة، فكان إنكار الذات والتواضع وإسناد الحق لأهله هو المسيطر على مشاعر يمكن أن يملأها العُجب والغرور

لقد رد على السلطان في أدب جم؛ قائلاً

«سلطاننا العظيم، إن الخطاط قره حصاري هو الأحق بهذا التكريم؛ لقد قدَّم عينيه فداءً لهذا العمل الرائع، فهلَّا منحتموه شرف افتتاح هذا المسجد؟»

فما كان من السلطان إلا أن أمر بأن يقوم قره حصاري بافتتاح هذا المسجد العظيم وسط دموع الإعجاب والانبهار من الحاضرين، دموع الانبهار بالإبداع الفني والخُلُق الصوفي

 ويعود الفضل في تطور فن الخط واستمراريته إلى قواعده الصوفية ومراعاته للمعايير المعنوية، ومن هذا المنطلق كان الإقبال الكبير على كتابة المصحف الشريف والحلية الشريفة، حيث إنه لم يكن باستطاعة كل خطاط أن يكتب القرآن الكريم والحلية الشريفة إلا إذا وصل إلى ذروة فن الخط، وصار ذلك عرفًا متَّبعًا بين الناس، وهكذا بدت هذه المؤلفات القيِّمة، بجاذبيتها المدهشة التي تلاطف الأرواح والأفئدة، وسيلةً تحثُّ الناس على اتباع أمر الله تعالى الذي يقول: اقرأ

 وقد تعلَّم الطلبة هذا الفن بلا مقابل على مدى القرون، لأنه فن يخدم القرآن الكريم بإخلاص، ولم يكن فنًّا مشوبًا بالمنفعة المادية، لذلك عرف كل خطاط زكاة هذا الفن بتعليم غيره

وخلاصة القول في علاقة التصوف بالفنون أن المؤمن الذي يضع نصب عينيه الحديث الشريف: «إن الله جميل يحب الجمال»، ويدرك معناه، هو الذي يعرف قيمة هذه الفنون، ويدرك ما وراءها من المعاني الروحانية والقيم الإسلامية والمشاعر الصوفية

فصناعة الجمال تعبر عن الجمال الداخلي للفنان، وعن طهره القلبي وصفائه الروحي، بعد أن يتخلص من دواعي الغرور والإعجاب بالنفس، ويدرك أنه ينقل بفنِّه صورة من صور إبداع الخالق في كونه، وهو ما يتطلب تربية صوفية عميقة تفجر ينابيع الإبداع في مشاعر هذا الفنان


التضحية مقياس المحبة

الإسلام دين التضحية والفداء

حيث يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ بِأَنَّ لهُمُ الجَنَّةَ

إن وصول هذا الدين الجليل إلى أيامنا هذه هو نتيجة للتضحيات الكبيرة التي بذلت بالمال، والروح، وكل الإمكانات المتاحة الأخرى، والتخلي عن الراحة والمصالح الفردية كل ذلك في سبيل الله تعالى، وإننا اليوم وجهاً لوجه مع امتحان التضحية في سبيل الله تعالى

لأن الله تعالى يقول في آية أخرى

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ 

ويقول النبي ﷺ

(مثل أمتي مثل المطر، لا يُدرى أوله خير أم آخره)

ولذلك فحتى يكون المطر المبارك حاملاً في طيات قطراته الرحمة، ينبغي علينا اليوم التحلي بالغيرة الدينية والقيام بواجب هذا الدين بكل جد ونشاط، أين الضروري والواجب علينا إظهار التضحية في سبيل الله تعالى بأرواحنا، وأموالنا، وأفكارنا، وقوتنا، ووقتنا، وبكل الإمكانات التي تفضل الله تعالى بها علينا. وذلك لأن الرحمة لا تأتي بسهولة، فلكل نعمة مقابل يجب تقديمه. وحتى النعم التي رُزقنا بها مجاناً وبدون جهد منا، لها دين الشكر للمنعم ﷻ

دَين الشكر

إن أكبر نعمة بعد الإيمان أُهديت إلينا هو بعثة سيدنا محمد المصطفى  ﷺ، نبي آخر الزمان الذي جعله الله تعالى خاتمة الرسل والأنبياء الذين بلغ تعدادهم ما يزيد على 124 ألف

وقد قال الله سبحانه وتعالى في هذا الخصوص كي ندرك قيمة وقدر هذا الفضل

لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

فيمكن للمؤمن أن يشعر بفرح استثنائي يغمر قلبه على الدوام بهذا الفضل الكبير، إلا أن عليه التيقظ إلى عظم المسؤولية الملقاة على كاهله والتي تستلزمها هذه النعمة الكبيرة

وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أراد منا بدلاً مقابل إعطائه هذه النعمة لنا، وإننا مجبرون على اتخاذ رسول الله ﷺ قدوة لنا في هذا المجال حيث عاش حياته كلها في تضحية مستمرة للإسلام

وإن كان رسول الله ﷺ رحمة للعالمين، فإن على المسلم أن يكون في حالة دائمة من نشر الرحمة بكلٍّ من يده ولسانه وقلبه. ويجدر بمن تشرّف بالإسلام وبمظهر الإيمان وأصبح من أمة محمد ﷺ متمتعاً بنعم السعادة ومشاعر الشكر، يجدر به بذل جهد كبير لأداء البدل مقابل هذه النعم

ويبين النبي ﷺ واقع الأمر حيث يقول

(المرء مع من أحب)

ولكن مقياس المحبة هو التضحية، فمن يحب النبي ﷺ حقاً ويود صحبته يوم القيامة، فعليه إثبات محبته اليوم بالسير على نهجه والتضحية في سبيله

كيف يمكن تحقيق القرب من الرسول ﷺ؟

لقد قدم النبي ﷺ تضحيات كبيرة في سبيل الخلاص الأبدي للإنسانية جمعاء، وتحمّل محناً ومعاناة كبيرة، وبالرغم من كل ذلك فإنه لم يَشْكُ يوماً من حاله، ولم يتجهّم أبداً، ولم يبال بالجوع إذ ربط الحجارة إلى بطنه، وعلّم أهل الصفة القرآن الكريم

وتذكر أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنه

(ما شبع آل محمد ﷺ، منذ قدم المدينة، من طعام البُرِّ ثلاث ليال تباعاً، حتى قبض)

لو أراد النبي ﷺ لعاش هو وعائلته في شبع وراحة دائمة، ولكنه ﷺ ما إن يحصل على نعمة حتى يوزعها على الفقراء من أصحابه، ويشبع بها بطونهم، عوضاً عن إشباع نفسه

وحتى في أحلك ظروفه المظلمة في الطائف وبعد أن تعرّض لما تعرض له من الظلم والاضطهاد، قال

(يا أرحم الراحمين! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي)

إن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم الذين كان النبي ﷺ أحب إليهم من كل شيء في الدنيا، بذلوا جهوداً كبيرة للاقتداء به في حياتهم بالمشاعر والفكر، والحال والعمل في سبيل نيل صحبته يوم القيامة. وقد رأوا بأم أعينهم تضحيات نبيهم عليه الصلاة والسلام، فجاهدوا أنفسهم على بذل التضحيات مثله كلّ على قدر إمكاناته واستعداده، وقد سطّروا محبتهم لله تعالى ولرسوله بالتضحية والفداء، واعتبروا أصغر رغبة لرسول الله ﷺ نعمة كبيرة لأرواحهم

فأطاعوا الرسول ﷺ بعشق وشوق كبيرين معبرين بقولهم (فداك روحي، ومالي يا رسول الله)

لقد بذلوا أرواحهم وأموالهم بسخاء في سبيل الله ورسوله، واعتبروا ذلك وسيلة سعادتهم الكبرى. وكانوا نموذجاً للاقتداء بالرسول ﷺ الذي عاشوا معه وخاصة بالجهود التي بذلوها في مجال الدعوة والتبليغ

تضحيات التبليغ

عندما قال النبي ﷺ لأصحابه

من يأخذ رسالة التبليغ إلى الملوك؟ هبّ الصحابة جميعاً بشيبهم وشبابهم

وقفوا على أقدامهم قائلين: يا رسول الله! تفضل بهذا الشرف عليّ!

ووضعوا نصب أعينهم بذل شتى أنواع التضحيات في سبيل تلبية أصغر رغبة للنبي عليه الصلاة والسلام، ولم يتذرّعوا بأية معذرة لتجنب التضحية، وطلبوا الخدمة بأرواحهم وأجسادهم

لا شك أن التوجه إلى بلاد بعيدة غريبة بخوض الطرق الجبلية الوعرة، وتحمل مشاق البراري والصحاري المقفرة، ومن ثم المثول أمام الملوك الجبابرة حيث يضرب جلادوهم الرقاب وتتطاير الرؤوس تحت وقع سيوفهم، طلباً لقراءة رسالة رسول الله ﷺ، لا شك أن كل ذلك مغامرة في الموت المحقق. إلا أنهم كانوا يتحلّون بالجسارة الإيمانية ويعبرون عن تضحياتهم في سبيل هذا الدين القويم

وقد كانت اللحظات الأكثر قيمة وأهمية في نظر الصحابة رضوان الله عليهم، هي تلك الأوقات التي يتمكنون فيها من تبليغ رسالة التوحيد إلى الناس

وقد شكر الصحابي الذي أُعطي مهلة ثلاث دقائق قبل تنفيذ الإعدام بحقه، شكر المشركين، وقال

إذاً، مازالت لدي ثلاث دقائق من وقتي من أجل القيام بالتبليغ

لقد انتشر الصحابة الكرام في بقاع الأرض المختلقة تاركين خلفهم بساتين النخيل اللذيذة والرائعة في المدينة المنورة. وقد خرجوا في سبيل تعريف الناس جميعاً بدن الإسلام الحق، خرجوا في رحلات طويلة ومرهقة، دون أن يظهروا التهيب أو يشعروا بالملل والتعب، رغم ظروف السفر الشاقة في تلك الأزمنة، فهذا هو السبب في أن قبور أولاد سيدنا عثمان والعباس رضي الله عنهما في سمرقند، وقبر وهب بن كبشة رضي الله عنه في الصين

لقد أرسل النبي ﷺ الصحابي وهب بن كبشة إلى الصين من أجل القيام بخدمة التبليغ، وكانت المسافة إلى الصين في تلك الفترات ما يقارب مسيرة سنة كاملة، وبعد أن ذهب وهب بن كبشة رضي الله عنه إلى هناك، وأمضى مدة من الزمن في مهمة التبليغ، خرج في طريقه إلى المدينة المنورة على أمل أن يُهدئ حسرة بعده عن رسول الله برؤيته، ويطفئ نار الشوق التي أخذت تلهب قلبه. وبعد رحلته المليئة بالصعاب والمعاناة التي استمرت عاماً كاملاً وصل إلى المدينة المنورة، ولسوء حظه العاثر أن النبي ﷺ كان قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، ولم يستطع رؤيته بعين الدنيا. ولأنه أدرك قدسية مهمة التبليغ عندما ودعه نبينا ﷺ، عاد من جديد إلى الصين لمتابعة مهمته وسلم روحه الطاهرة إلى بارئها وهو في مهمته القدسية

وهذا صحابي آخر وهو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه الذي هاجر إلى بلاد الحبشة، وقضى من عمره ثلاث عشرة سنة وهو يقوم بمهمة التبليغ والإرشاد حتى ينتشر الإسلام ويقوى عوده، وبعد عودته إلى المدينة المنورة بعام خرج في غزوة مؤتة واستشهد فيها رضي الله عنه وأرضاه

لقد وجد الصحابة الكرام الحياة بالقرآن الكريم، ونذروا حياتهم في سبيل تبليغ القرآن وتعاليمه، وفي هذا الشأن، بذلوا جهوداً، وقدموا تضحيات لم يشهد لها مثيل في التاريخ، فقد تعرضوا للتعذيب والضغط والظلم والقهر، وحتى تعرضوا إلى القتل والاغتيال؛ ولكن لم يتنازلوا أو يساوموا على مبادئ عقيدتهم الثابتة والراسخة، وقد هاجروا من بلادهم تاركين وراءهم وطنهم، وممتلكاتهم، وأموالهم في سبيل إحياء دين الله الحق، وقد وصلوا إلى مرحلة من اليقين والاطمئنان الإيماني العالي كانوا مستعدين معها على التضحية بكل شيء في سبيل الله تعالى

وكم تدعو حجة الوداع إلى التفكر والاعتبار، حيث كان يجتمع ما يزيد عن مائة وعشرين ألفاً من الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً. وقد أوقف حوالي مائة ألف من هؤلاء الصحابة حياتهم في سبيل تبليغ دين الله تعالى بالذهاب إلى شتى بقاع الأرض، والعمل على إرشاد الناس بقلوب مشبعة بالأخلاق النبوية الرفيعة، والتعاليم القرآنية الرشيدة، وهكذا، حتى بعد وفاتهم في تلك الأماكن التي تواجدوا فيها أصبحوا وسيلة للرحمة والبركة

وأمامنا واحد آخر من أولئك الصحابة المباركين وهو سيدنا خالد بن زيد أبو أيوب الأنصاري، واحد من الأمثلة على التضحية والفداء التي لا مثيل لها، حيث أنه رضي الله عنه على الرغم من عمره البالغ ما يربو على الثمانين عاماً قد سافر إلى إسطنبول مرتين ووصل أمام أسوارها، وهناك وافته المنية وسلّم الروح إلى بارئها. ومما لا شك فيه أن عزيمته العالية، وجهده الكبير مظهر من مظاهر الشوق إلى صحبة رسول الله ﷺ يوم القيامة ونيل النجاة الأبدية في تلك الدار الآخرة

لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة

لأن الله تعالى يقول في كتابه الكريم

وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ

أي، عندما تكون الفرصة والإمكانية متاحة لكم للحصول على رضا الله تعالى فلا تلتفتوا إلى جاذبية الدنيا الفانية، ولا تنخدعوا بسرابها، وزينتها، ومظاهرها، وراحتها فتقعوا في الغفلة! وإلا فإن آخرتكم سوف تتعرض للتهلكة والخطر! فهذا تحذير من الله تعالى

حيث أن الرواية الآتية التي تبين سبب نزول هذه الآية، فيها عبرة كبيرة

اتجه جيش المسلمين في عصر الخلافة الأموية، نحو مدينة إسطنبول من أجل فتحها وذلك لنيل بشارة الفتح التي بشر بها النبي ﷺ. وكان بين صفوف ذلك الجيش الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري. بينما كان جيش الروم يحارب وقد جعل أسوار المدينة في ظهره، خرج شخص من بين الأنصار واقتحم بحصانه صفوف جيش الروم حتى وصل إلى منتصفه. فقال أحد جنود المسلمين الذي رأى هذا الموقف (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) مستشهداً بهذه الآية الكريمة وأكمل يقول

لا إله إلا الله! انظروا إلى ذاك! يرمي بنفسه إلى التهلكة المحققة!

فقال أبو أيوب الأنصاري بهذا الخصوص

أيها المؤمنون! (لا تفهمن هذه الآية خطأً ) فقد نزلت هذه الآية فينا نحن الأنصار، لقد قلنا إذا أعان الله تعالى نبيه ونصر دينه (فإننا سوف نتجه إلى أموالنا، وننشغل بإصلاحها وتنميتها) فنزلت الآية الكريمة بسبب ذلك

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمحْسِنِينَ

إذاً فإن المقصود من الآية الكريمة: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) هو عدم الانشغال بالبساتين والحقول وغيرها من الشؤون الدنيوية، وإهمال أو ترك بذل الجهود في طريق الحق

وها هو ذا أبو أيوب الأنصاري الذي رعى والْتزم التحذير الإلهي، فاقتدى بالنبي ﷺ في أداء العبودية الخالصة للحق سبحانه وتعالى، وبحرص شديد على أداء دين الشكر على تشريفه بنعمة الإيمان، لم يتكلف جهداً للقيام بواجبه على أكمل وجه حتى النفس الأخير من حياته، وخلال معركته هذه التي انضم وهو في عمرٍ يزيد على الثمانين عاماً وافته المنية، ونال بذلك مرتبة الشهادة

التضحية بالنفس

وعلى النهج ذاته سار شهيد فتح كوسوفو مراد خان الأول الذي قدم التضحيات  بكل إخلاص في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، حيث قال في ميدان المعركة بكل تضرع

(يا رب! لا تجعل هزيمة وهلاك جنودك المؤمنين على أيدي هؤلاء الكافرين! وتفضّل عليهم بنصر يكون عيداً لكل المسلمين! وإن شئت يا رب اجعل عبدك مراد هذا قرباناً لهذا العيد!)

وأما القائد المقدام السلطان محمد الفاتح وجيشه الذي كان مظهراً للإيمان والصدق والذي أشار إليه النبي ﷺ بقوله

"نعم القائد ذلك القائد، ونعم الجيش جيشه" حيث كانوا يتسلّقون أسوار إسطنبول تحت وابلٍ من نيران الروم وكأنهم متجهون إلى عرس، وليسوا مقبلون على الموت، وينادي الواحد منهم (لا تستشهد، فالدور لي اليوم...)، وبذلك كانوا يسطرون أساطير من التضحيات على مر العصور

وخلاصة الكلام، فإن وصول وانتشار ديننا، وأوطاننا التي نعيش فيها إلى هذا اليوم هي نتيجة للبركة التي تفضل الله بها على الجهود والتضحيات التي بذلها المؤمنون المخلصون، والأولياء والعلماء من أهل التقوى والصلاح، والدماء الطاهرة التي قدمها الفاتحون والشهداء

التبليغ بالحال

إن الأسلوب الأكثر تأثيراً من أنشطة التبليغ على مر العصور كان عن طريق الالتزام الفعلي بفضائله، ورقته، وآدابه وتقديمه للناس بلسان الحال الذي يعيشه المسلم، وإن الحادثة التي نوردها هنا خير مثال على ذلك

في أحد الأيام وضع تاجر مسلم كان يمارس تجارة الأقمشة، وضع بضاعته على ظهر سفينة متجهاً إلى إندونيسيا ليتابع تجارته هناك

وكانت الأقمشة الممتازة التي جلبها معه هي من نوع الأقمشة التي يبحث عنها السكان في تلك البلاد، ولأنه كان رجلاً مؤمناً يتمتع بالقناعة التزم بمبدأ (ليكن الربح قليلاً، ولكن يكون طاهراً وحلالاً)، ولذلك فإنه لم يكن يميل إلى "الغبن الفاحش" حيث تُستغل الفرص لبيع البضاعة بأضعاف سعرها، ولم ينجرف نحو الجشع والعمل على تحقيق الغنى بأقصر وقت

وفي أحد الأيام عندما جاء إلى العمل متأخراً، رأى أن عامله قد حقق أرباحاً عالية ببيعه للبضاعة، فجرى الحديث التالي بينه وبين العامل بخصوص الأرباح

التاجر

من أي الأقمشة بعتَ؟

العامل

من تلك الأقمشة يا سيدي

التاجر

وبكم بعتها؟

العامل

بعشرة دراهم

التاجر

كيف ذلك؟ كيف تبيع قماشاً سعره خمسة دراهم بعشرة دراهم؟ لقد ترتب للرجل المسكين حق في ذمتنا، هل تعرف الرجل إن رأيته؟

العامل

أجل، أعرفه

التاجر

إذاً، اذهب بسرعة وأحضر الزبون إلى هنا، يجب عليّ طلب المسامحة منه دونما تأخير

ذهب العامل خلف الرجل حتى وجده وأحضره، وما إن أبصره التاجر صاحب الدكان حتى أسرع إلى طلب المسامحة منه، وأعاد إليه فرق السعر الزائد الذي أخد منه عامله، وأما الرجل فقد وقع في حالة من الحيرة والدهشة لهذه المعاملة الجميلة التي لم يُعامل بها من قبل، وتساءل في نفسه  "سامحني بحقك؟" محاولاً فهم واستيعاب المعنى العميق لهذه الجملة

وأصبحت هذه الحادثة حديث الناس وتناقلتها الألسن في وقت قصير، ولم يمض وقت طويل حتى وصلت الحادثة إلى مسامع الملك، فدعا الملك تاجر الأقمشة إلى قصره، وقال له

إن التصرف الذي قمت به لم نسمع به، ولم نره من قبل! لقد أصبحت حالتك لغزاً بالنسبة إلينا، فهل لك توضيح الأمر لنا؟

فأجاب التاجر بمنتهى الأدب

إنني رجل مسلم، وفي الإسلام الملك لله، والمؤمن مجرد مؤتمن عليه، وإن تحقيق المنفعة بدون وجه حق، والربا، والاستغلال، والغبن الفاحش (بيع البضاعة بأضعاف ثمنها بطريق الاحتيال) وسائر المعاملات التي تضرّ بالمجتمع هي من المحرمات في الإسلام

وأما في هذه البيعة فقد ترتب للرجل حق في ذمتي، ولذلك فقد اختلط ربحي بالحرام، فأردت تصحيح الخطأ فقط

فقال الملك

وما الإسلام؟ وما الذي ينبغي عمله حتى يكون المرء مسلماً؟ وتابع الملك بأسئلةٍ من هذا القبيل

والتاجر يجيب عن كل سؤال بلسان لين، وبأسلوب في غاية اللطف والرقة

فلم يضع الملك الذي سمع بوجود مثل هذا الدين لأول مرة وقد تجسّد أمامه بحالة التاجر العملية، لم يضع وقتاً كثيراً حتى تشرّف بالإسلام، وخلال وقت قصير دخل كل شعبه في الإسلام

وها هي إندونيسيا اليوم من أكثر دول العالم كثافة بالمسلمين، فربما كان السرّ وراء دخولها وقبولها للإسلام هو تلك الدراهم الخمسة لتاجر الأقمشة ذاك الذي جسّد الأخلاق الإسلامية في تجارته، والشيء الذي فعله التاجر المسلم هو

عبارة عن التجسيد الفعلي للجانب الروحي المشرق والوجه المتسامح للإسلام بشخصية إسلامية حقيقية صادقة

واليوم يجب علينا وضمن حدود قوتنا وإمكاناتنا أداء المهمات الملقاة على عاتقنا بأفضل وأجمل الأساليب، وخاصة العناية بالمسؤولية المتعلقة بتمثيل الإسلام وتبليغه، ولا ينبغي أن ننس مسؤولياتنا تجاه الناس المحرومين والبعيدين عن هداية الإسلام في مختلف بقاع الأرض، وتجاه إخواننا المسلمين الذين يتعرضون للظلم والاضطهاد في شتى بلدان العالم، وينبغي ألا يغيب عن تفكيرنا بأن الإهمال والغفلة في هذا المجال يعرضنا لوبالٍ شديد من الحق سبحانه وتعالى

نماذج معبرة نموذجية

خلال قمّة القيادات الدينية للمسلمين في أمريكا اللاتينية التي عقدت في إسطنبول في شهر تشرين الثاني من عام 2014، نُقلت حوادث ووقائع تذكر بمدى أهمية وعظمة المسؤولية الملقاة على عاتقنا جميعاً، وإحدى هذه اللوحات التي تدعو للاعتبار هي

يقول الإمام حنيف الذي يعيش في منطقة هاييتي في أمريكا اللاتينية الوسطى، يقول في رسالته الموجهة إلى رئاسة الشؤون الدينية التركية

(نحن أولاد آباء وأمهات استُعبد أجدادهم في أفريقيا ونُقلوا إلى هنا، فأجدادنا رُحِّلوا من أفريقيا إلى هذه البلاد كعبيد. ومنذ سنوات، أو حتى منذ أكثر من قرن من الزمن  (150 سنة) عندما يحاول آباؤنا وأمهاتنا تنويم أطفالهم، فإنهم يسلّونهم بالكلام الآتي

"يا بني، لا تخف! ذات يوم سيأتي المسلمون من إسطنبول، ويضعوا حداً لحياة العبودية هذه"

ولكننا انتظرنا طويلاً، إلا أنكم يا أحفاد العثمانيين لم تأتوا، وبقينا هنا غرباء وحيدين، وبعد فقدان وضياع أجيال كثيرة اكتشفنا دين أجدادنا من جديد، فأصبحنا مسلمين وبدأنا حياتنا الإسلامية مرة أخرى، ولكن للأسف الشديد، ليست لدينا جوامع ولا مساجد! وليست لدينا كتب، ولا من يعلّم أولادنا القرآن الكريم! أكتب إليكم للمرة الأخيرة؛ من فضلكم أرسلوا إلينا هيئة

ومثلما جاء في رسالة الإمام حنيف، فخلال الحملات الاستعمارية للغرب واستعباد المسلمين وتهجيرهم من بلادهم كان يتم تقييد أرجلهم وأيديهم وينتظرون في محطات الموانئ على سواحل البحر قبل أن يتم نقلهم إلى مناطق أخرى

وكم يدعو للاعتبار حال بعض العلماء المسلمين الذين تسلّلوا خفية بين صفوف العبيد وربطوا أيديهم وأرجلهم، وأظهروا أنفسهم بمظهر العبيد، حتى يتواجدوا مع أولئك العبيد في الأماكن التي سوف يُنقلوا إليها، ويعينوهم على الحياة والعيش بهويتهم الإسلامية، ولا يفقدوا الدين الإسلامي المبين

وهذا نموذج آخر للتضحية التي جرت في إحدى دول أمريكا اللاتينية في البرازيل، بشأن تبليغ الإسلام، حيث ذكر في هذا الاجتماع

في عام 1865 أبحرت سفينتان عثمانيتان باتجاه خليج البصرة تحملان اسم أزمير وبورصة، وقد خُطط لتلك الرحلة البحرية أن تمرّ  بمضيق جبل طارق وبعد رحلة طويلة تصل إلى خليج البصرة حيث وجهتها، إلا أنه بعد تعرض هاتين السّفينتين إلى عواصف بحرية لخمس مرات متتالية وجد المسافرون أنفسهم على سواحل ريو دي جانيرو في البرازيل

وكان على رأس أولئك المسافرين إمام البحرية البغدادي المدعوّ عبدالرحمن أفندي، وما إن رأى العبيد المسلمون الذين نُقلوا من أفريقيا إلى البرازيل خلال الاستعمار البرتغالي، ما إن رأوا الشيخ ينزل من السفينة مرتدياً جبته وعمامته، حتى هرعوا إليه يلقون عليه التحية والسلام بفرح وسرور

وقد لاحظ العالم البغدادي الذاهب من إسطنبول عبد الرحمن أفندي، لاحظ وجود عدد كبير من المسلمين في البرازيل، إلا أنهم كانوا على وشك فقدان هويتهم الإسلامية، إذ كانوا قد نسوا تقريباً الكثير حتى الصلاة والوضوء وبسبب ذلك استأذن العالم من القائد وقرّر البقاء هناك، واستمرّ يعلم الناس الدين الإسلامي المبين مدة ست سنوات

وهكذا فإن هذه الأمثلة وغيرها تشكل نماذج حية تذكّرنا وتعلمنا كيف نكون أصحاب الغيرة الدينية، وتبين ضخامة حجم المسؤولية ، والواجب الملقى على عاتقنا في أيامنا هذه

وإننا اليوم في حالةٍ ينبغي معها محاسبة أنفسنا محاسبة دقيقة، وعلينا التفكير ملياً، بحجم مشاعرنا وإحساسنا بضرورة تجسيد معاني التضحية في سبيل الله ﷻ والمقارنة بالتضحيات التي بذلها السابقون ابتداءً بالنبي ﷺ والصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وأصحاب الحق والغيرة الدينية، وانتهاءاً بجميع أهل الإيمان

فكم نُسر لفرح المسلمين، وكم نحزن لحزنهم؟ وما هو حجم التضحيات التي نقدمها بأيدينا، وألسنتنا، وقلوبنا تُجاه إخواننا المضطربين والمكتئبين؟ وهل نحن مستعدون لإيثار إخواننا في الدين على أنفسنا؟

وفي أي مستوىً نحن من الشفقة، والرحمة والتضحية التي أظهرها النبي ﷺ تجاه أمته؟ وما مدى الجهد الذي نبذله في تمثيل الإسلام، وتبليغه بلسان حالنا ومقالنا إلى الناس الذين ينتظرون الهداية؟

وباختصارٍ، ما مدى قربنا من رسول الله ﷺ، بالنظر إلى سلوكنا وحالنا؟ وهل لدينا الشوق والرغبة الصادقة لنكون قريبين منه؟


التفكر في الموت

لازمان ولا مكان يمكن الهرب إليه من الموت في الدنيا، ولا عودة إلى الوراء في البرزخ

ولا ملجأ يأوي إليه العبد من هول يوم القيامة

الموت قدر محتوم، والقبر مصير ابن آدم، ولا مفر لكل امرئ من أن يمر بحياة البرزخ، وأن يعيش أهوال القيامة، فلا ملجأ ولا مهرب من الله إلا إليه سبحانه

وحتى تأتي هذه اللحظات الحاسمة يعيش الإنسان متأرجحًا بين نقيضين: بين الحياة والموت، وبين الرجاء والخوف، وبين السعادة والحزن

وكلاهما ينغص على الإنسان مشاعره، فخوف الموت والمصير غصة في حلق سعادته، والانغماس في شهوات الدنيا هو غفلة عن الاستعداد للمصير المحتوم، وما لم يدرك الإنسان حقيقة الحياة والموت، فسيعيش فاقدًا سر الحياتين، مغيبًا عن حقائق الدارين، غير مدرك للحكمة من وراء الخَلق

والموت لغزٌ كبير وسرٌ عظيم يجب على كل آدمي أن يتفكر فيه بكل طاقته؛ لأنه المصير المحتوم، والخطوة التالية في الطريق السريع الذي يسعى الإنسان فيه، ويجب أن يَحُلَّ اللغزَ قبل أن يحِلَّ عليه الموت

يقول الله تعالى في سورة الـمُلك

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك، 2)

ويقول في سورة الأنبياء

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء، 35)

إن الدنيا مدرسة إيمان إلهية، أما الموت فهو قانون انتقال ضروري، ويقول مولانا جلال الدين الرومي: «موتوا كي تحيوا

إذ لا يمكن إحياء القلب إلا بترك الأمور النفسانية، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم

«فأكثروا من ذكر هادم اللذات: الموت» (الترمذي، القيامة، 26)

والتفكر في الموت هو صافرة الإنذار الدائمة التي تذكرك بالخطر القادم قبل أن يدهمك، وتنبهك إلى المصير المحتوم قبل أن يفاجئك، فتتخذ كل استعداد لما هو قادم، وتدير ظهرك لشواغل الدنيا وشهواتها، وتولي وجهك شطر طريق ربك الذي أنت مقبلٌ عليه لا محالة، وتفك عن معصميك قيود النفسانية، وتشحذ همتك بالنفحات الربانية، وتجهز بالإيمان عتادك وعدتك مستعدًا لليوم الآخر

وعن طارق بن عبد الله المحاربي، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«يا طارق، استعد للموت قبل نزول الموت» (الحاكم، المستدرك، جـ4، 347/ 7868)

ولو عاش الإنسان أعمارًا متطاولة فوق عمره، ولو أمطرته السماء بأمانيه -وإن بلغت عدد حبات المطر- لما شبعت نفسه من الدنيا، ولما روى غُلته منها، حتى لو صارت أمانيه عدد أوراق أشجار يُسقطها الخريف على قبره منذ موته، وحتى مبعثه يوم القيامة

كل هذا الأمل في الدنيا رغم امتلاء القلب بحكايات وذكريات من غيَّبهم الموت، ورغم علم كل السالكين في دروب الدنيا أن كل دهاليزها وفجاجها مهما استقامت أو اعوجت، أو ضلت أو اهتدت أو استسلمت أو هربت، لا تؤدي إلا نحو مصير محتوم هو القبر

يقول الله سبحانه في الآية الكريمة:

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجمعة، 8)

وليس ثمة أبلغ من صمت القبور ناصحًا، وليس ثمة صوتٌ أعلى من بُكم حجارتها واعظًا، يخاطب كلَّ منْ حولَه بلسان الحال، فيعظ مَن في القبور، ومَن هو خارجها، وكل مارٍ عليها، وكل ناظر إليها، مناديًا عبر الصمت، صارخًا بأعلى صوت: الموت... الموت... الحقيقة الباقية هي الموت، الموت بوحشته المهيبة ووحشيته الرهيبة، وثقله الراسخ في أعماق الأرض والحياة والمخلوقات

وقد رأى الحسن شيخًا في جنازة، فلما فرغ من الدفن، قال له الحسن: يا شيخ، أسألك بربك: أتظن أن هذا الميت يود أن يُردَّ إلى الدنيا فيزيد من عمله الصالح، ويستغفر الله من ذنوبه السالفة؟ فقال الشيخ: اللهم نعم! فقال الحسن: فما بالنا لا نكون كلنا كهذا الميت؟ ثم انصرف وهو يقول: أي موعظةٍ؟ ما أبلغها لو كان في القلوب حياةٌ؟ ولكن لا حياة لمنْ تنادي

ولكن الإنسان يظل أسيرَ الخداع، لاهثًا وراء السراب، يعمه في سكرته ويسدر في غيه حتى يفيقه الموت من غفلته، ويكتشف حينها أنه كان غارقًا في بحرٍ لجيٍّ لا يُرى له ساحل، ويدور في دوامة ذلك البحر دورانًا لا يدع له مجالاً للتفكير أو الإدراك والتقدير، وعندما ينتشله الموت من البحر، وتُسلمه الدوامة إلى القبر؛ هنالك فقط سيكتشف أنه كان مخدوعًا بصورة مرعبة حين يلقى مستقبله الأبدي. والحياة الغافلة هي الانهماك باللعب في الطفولة، والشهوة في الشباب، والغفلة في الرشد، والحسرة على ما فات في الشيخوخة، والندامة والتخبُّط في طيات الحياة

وليست الآماد متطاولة إلى ما لا نهاية في انتظار يوم القيامة؛ بل هو أقرب إليك من شراك نعلك، فمنْ مات فقد قامت قيامته، وملك الموت على أهبة الاستعداد في كل زمان ومكان لتنفيذ الأمر الإلهي المحتوم، لا يقصر ولا يغفل قيد أنملة عن تنفيذ مهمته، بينما المرء الموكل به الموت والمنوط بروحه التنفيذ يكون سادرا في غفلة ما بعدها غفلة، ولا يفيق إلا حين يبدأ ملك الموت في عمله؛ حيث لا ملجأ ولا منجى ولا مهرب من الله إلا إليه، ولو كان المرء حصيفًا مؤمنًا لوجد المفر والمهرب في نداء الحق سبحانه (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) فبادرَ بالفرار إلى رحمة ربه، والعيش في كنفه، حينها تستوي عنده الحياة والموت؛ لأنه قدَّم في حياته لما بعد الموت، واستعد للدارين، مستعينًا برب الدارين، الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أيُّنا أحسن عملاً

وكم من مشهد في الدنيا يعظك ويذكرك بالموت؛ منها الواعظ الصامت كمشهد الجنازات، ومنظر القبور، وزرقة شفاه الموتى، ولمعات دموع الثكالى على وجنات فقدت بريق الحياة، وأطفأ بهجتها ظلام انقطاع الروح عن المحبوب

وأما الواعظ الصارخ فنزعات الحناجر عند سكرات الموت، ونزاعات انتزاع الروح عن خلايا الجسد، وأنَّات الثكالى، وآهات الحزانى، وشهقات المتفاجئين من انتزاع الموت لشباب وأطفال وأصحاء وآخرين كانوا يظنون بالحياة ونعيمها الظنونا

أفلا يدعونا ذلك كلُّه إلى اليقين أن لحظات ميلادنا هي أولى خطواتنا نحو مصيرنا المحتوم، وهو الموت؟ ألا يذكرنا عري الميلاد والمجيء إلى الدنيا، بعري الخروج منها رغم ما كنزناه فيها؟ ألا تذكرنا صرخات القدوم والنَفَس الأول في الدنيا بصرخات الرحيل والنزع الأخير؟

وتوضح الآية الكريمة الآتية أن كل لحظة تمر في شريط الزمان تقرِّبنا من فجر الحقيقة:

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ) (يس، 68)

إنه قانونٌ سماوي وحقيقةٌ ربانية قاطعة لا مجال لتأويلها، فسطوعها يلقي الضوء على حقيقة الدنيا وما فيها من الغدر والانقلاب والانتقاص، فكلما ازداد الإنسان منها اُنتقص، وكلما أُعطي منها حُرم

وهي أشد تقلبًا من القِدر إذا استجمعت غليانًا، ترفع أقوامًا وتخفض آخرين، ويتبدل حالها ما بين عشية وضحاها، إذا جلت أوجلت، وإذا دنت أودنت، وإذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست

والدنيا كالظل؛ لن تتمكن أبدًا من اللحاق بها، أو الإمساك بأطرافها، وكلما حاولتَ إدراكها هربتْ منك وهي عند أطراف أصابعك، أما إذا أعطيتها ظهرك أقبلَت إليك، وإذا تركْتَها ومضيتَ لحقتْ بك، فإذا حاولتَ الفرار منها لم تزل تتعقبك، وتطرح نفسها بين قدميك، ثم إذا فتحت لها أبواب قلبك غلَّقت في وجهك الأبواب، ولم ترَ منها إلا السراب

وإذا سلَّمْتها زهرةَ نفسك أذبلت في حدائقك الزهور، ولم ترَ منها إلا وحشة التيه والغرور

وإذا فتحتَ لها خزائن روحك أفقرتك وإن ملكتك الدنيا، وصرتَ كالملك الضليل يُحكَم ولا يَحكُم، ويصير الكون على اتساعه أضيق وأوحش في عينيك من ظلمة القبور

وهكذا الدنيا تفعل بك الأفاعيل، وتوردك المهالك، وتصعد بك في متاهات السماء حتى يضيق صدرك، وتهوي بك في مجاهل الأرض حتى تضيق نفسك، وتغرق بك في تيه الدنيا حتى تضل روحك، ولا ينقذك منها سوى ملك الموت حين تأتي اللحظات الحاسمة الرهيبة... الموت

وسأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، أي المؤمنين أكيس؟ قال

«أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لما بعده استعدادًا، أولئك الأكياس»

 (ابن ماجة، الزهد، 31)

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا

«لِتذكرِ الموتَ والبلى، ومنْ أراد الآخرة ترك زينة الدنيا» (الترمذي، القيامة، 24)

وقد كان نقش خاتم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه

«كفى بالموت واعظًا»

وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: مات رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يثنون عليه، ويذكرون من عبادته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت، فلما سكتوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«هل كان يكثر ذكر الموت؟»

قالوا: لا

قال: «فهل كان يدَعُ كثيرًا مما يشتهي»

قالوا: لا

قال: «ما بلغ صاحبكم كثيرًا مما تذهبون إليه» (الهيثمي، مجمع الزوائد، جـ10، 308-309)

وعن مجاهد بن جبر t وهو من كبار التابعين، عن عبد الله بن عمر t، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال

«كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعُدَّ نفسك في أهل القبور»

فقال لي ابن عمر رضي الله عنهما:

«إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من صحتك قبل سقمك ومن حياتك قبل موتك فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدًا» (الترمذي، الزهد، 25)

وقال أنس بن مالك

إن الأرض تنادي كل يوم بعشر كلمات وتقول

يا ابن آدم! تسعى على ظهري ومصيرُك في بطني

وتعصي على ظهري وتعذب في بطني

وتضحك على ظهري وتبكي في بطني

وتفرح على ظهري وتحزن في بطني

وتجمع المال على ظهري وتندم في بطني

وتأكل الحرام على ظهري وتأكلك الديدان في بطني

وتحتال على ظهري وتذل في بطني

وتمشي مسرورًا على ظهري وتقع حزينًا في بطني

وتمشي في نور على ظهري وتقع في الظلمات في بطني

وتمشي في المجامع على ظهري وتقع وحيدًا في بطني

 (ابن حجر العسقلاني، منبهات، 37)

وقَدِمَ وفدُ قبيلة إياد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم عن قس بن ساعدة الإيادي فقالوا: هلك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لقد شهدتُه في الموسم بعكاظ وهو على جمل أحمر ينادي في الناس: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا، واتعظوا تنتفعوا، منْ عاش مات، ومنْ مات فات، وكل ما هو آتٍ آت أما بعد، فإن في السماء لخبرًا، وإن في الأرض لعبرًا، نجومٌ تغورُ ولا تفور، وبحارٌ تفورُ ولا تغور، وسقفٌ مرفوع، ومهادٌ موضوع، وأنهارٌ ونبوعٌ، أقسم قسٌّ قسمًا بالله لا كاذبًا ولا آثمًا، لتتبعنَّ الأمر سخطًا، ولئن كان في بعضه رضًا إن في بعضٍ لسخطًا، وما هو باللعب وإنَّ من وراء هذا للعجب، أقسم قسٌّ قسمًا بالله لا كاذبًا ولا آثمًا، إن لله دينًا هو أرضى له من دينٍ نحن عليه، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا؟ أم تُركوا فناموا؟

إنَّ لحظاتِ الموت وخاتمةَ الإنسان هي المرآة التي تنعكس عليها مصائر الإنسان يوم القيامة وتخبره بعاقبته في الحياة الآخرة، وهي النزول الأخيرة للستار على مسرح الحياة، والمشاهدون والجمهور هم شهود الله تعالى في أرضه، فإن أثنوا عليه خيرًا فهو إلى خير، وإن كان غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه

تلك النفس التي تتهيأ للموت، وتنتظر اللحظات الأخيرة، وتستعد للحياة الآخرة، ولا يكون الموت عندها سوى بوابة مرور إلى العيش جسدًا وروحًا في العالم العلوي

شتان بين نفس اتبعت هواها وأشبعتها شهواتُها وكان ذكر الموت لها خيالاً باهتًا، ونفسٍ سعت في التزكية، وجاهدت في التربية، وأشبعها عالم المعنويات وروتها الفيوضات والتجليات، وكان ذكر الموت لها شوقًا للقاء الأحبة، أو هو كما وصفها مولانا جلال الدين الرومي -قدس الله سره-: «ليلة العرس

نعم؛ باستطاعة المرء أن يجعل أشدَّ أمور الدنيا رعبًا -وهو الموت- أشدها رغبة في نفسه، وبوسعه أن يجعل «الموت جميلاً»؛ إذا هو تجاوز عقبة نفسه، وتقلَّب بها في المجاهدات والأحوال، وكانت محطاتُه في سفره إلى الموت هي: التوبة، الزهد، التوكل، القناعة، الذكر، التوجه، الصبر، المراقبة، الرضا

أما كيف نتفكر في الموت، ونجعله نُصب أعيننا، ونعمل عملنا استعدادًا لمصيرنا بعده، فلنأخذ العبرة والوسيلة من هؤلاء المجاهدين الأوائل

فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ذكرْتُ النار فبكيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«ما لك يا عائشة؟»

قالت: ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحدٌ أحدًا، حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الكتب حتى يقال: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أم في شماله أو من وراء ظهره، وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم حافتاه كلاليب كثيرة وحَسَكٌ كثير يحبس الله بها من شاء من خلقه حتى يعلم أينجو أم لا» (الحاكم، جـ4، 622/8722)

وكان أسيد بن حضير t من أفاضل الصحابة، فكان يقول

«لو أني أكون كما أكون محل حال من أحوال ثلاث، لكنت من أهل الجنة، وما شككت في ذلك: حين أقرأ القرآن وحين أسمعه، وإذا سمعت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا شهدتُ جنازة، فما شهدت جنازة قط، فحدثت نفسي سوى ما هو مفعول بها، وما هي صائرة إليه» (انظر: أحمد، جـ4، 351؛ الحاكم، جـ3، 326/5260)

ويروي محمدُ بن كعبٍ القُرظي الحادثةَ التالية، فيقول

«لقيتُ عمر بن عبد العزيز t بالمدينة في شبابه وجماله ونضارته، قال: فلما استخلفَ قدمتُ عليه فاستأذنت فأذن لي، فجعلت أُحِدُّ النظر إليه فقال لي

يا ابن كعب ما لي أراك تحد النظر؟

قلت: يا أمير المؤمنين لِما أرى من تغيُّر لونك ونحول جسمك ونفار شعرك

فقال: يا ابن كعب فكيف لو رأيتني بعد ثلاث في قبري وقد انتزع النمل مقلتي، وسالتا على خدي، وابتدر منخراي وفمي صديدًا، لكنتَ لي أشد إنكارًا، دع ذاك، وأعد علي حديث ابن عباس...» (الحاكم، جـ4، 300/7706)

ويوضِّح الإمام الغزالي ضرورة أن يتفكر المؤمن في الموت ويوصيه بما يلي

«يجب على المؤمن بعد أن يصلِّي صلاة الفجر وقبل أن يبدأ يومه أن يبقى وحيدًا مع نفسه لمدة محددة، وأن يتعاهد معها على بعض الأمور والشروط، فالتاجر حين يسلِّم رأس ماله لشريكه يقوم بمثل هذه المعاهدات معه، ولا يهمل حينها بعضًا من التحذيرات لشريكه، والإنسان أيضًا ينبغي أن يحذِّر نفسه ويلِّقنها التالي

إن رأس مالي هو عمري، ومع مرور كلِّ يومٍ من عمري يذهبُ رأسُ مالي، وينتهي الربح والمكسب، لكن هذا اليوم هو يوم جديد، وقد أكرمني الله تعالى في هذا اليوم أيضًا بأن أذن لي بالعيش، ولو توفَّاني لكنت تمنيت أن يعيدَني ولو ليومٍ واحدٍ فقط كي أعمل هنا صالحًا. أيها الولد، فلنفترض أنك تُوفِّيت الآن، ثم أُعدتَ إلى هذه الدنيا، لهذا لا تقترب أبدًا اليوم من الذنوب والمعاصي واحذر منها، ولا تبذِّر أية لحظة من لحظات يومك هذا؛ لأن كل نَفَسٍ تتنفسه نعمةٌ لا تُقدَّر بثمن

وعلى هذا النحو يحقِّق الإنسان سِرَّ عبارة «موتوا قبل أن تموتوا»، ويضع بالمعنى الكامل محبة الله تعالى وطاعته مكان سلطة النفس التي كأنها زالت


التقوى

معيار القيمة عند الله

أ. د. كريم بولادي

ينحدر جميع البشر من أصل واحد، وقد تكاثروا من أم واحدة وأب واحد. وفي هذا الإطار جاء الإسلام بنظام مساواة وبمفهوم عالمي للأخوَّة، وتتأكد هذه الحقيقة في القرآن في الآية الكريمة

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا

توضح الآية الكريمة أن جميع الأعراق البشرية تكاثرت من نفس الأم والأب. وجميع الشعوب والأعراق في العالم أتت من أصل واحد. وكل البشرية خلقها خالق واحد، وكل الأعراق والألوان واللغات والقبائل والشعوب المختلفة خلقها الله تعالى. ولا يختار الشخص أصله أو عرقه أو قومه أو لغته أو لونه؛ بل كل ذلك تقدير من رب العالمين. وما للإنسان خيار في البلد الذي ولد فيه أو الشعب أو الأسرة التي ينتمي إليها. لذا لا يحق لأحد أن يرى نفسه أسمى مرتبة من الآخرين للغته أو عرقه أو لونه أو أصله أو بلده. يؤكد القرآن بشدة على هذا الشأن، ويشير إلى المساواة بين جميع البشر

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

تشير الآية الكريمة إلى أن المكانة الرفيعة عند الله تُعطى لمن يتقي الله. وتعني كلمة "التقوى" الواردة في الآية الخوف والامتناع عن عمل كل ما من شأنه أن يكون مضراً في الآخرة، والابتعاد عن كل الأفعال والكلمات التي تدفع النفس لارتكاب المعاصي والذنوب، والابتعاد عن كل ما نهى عنه الله. وبناء على ما تقدم فإن الأكثر مراعاة لحدود الله ولما أحله وحرمه والذي ينظم حياته في إطارهما هو الأكرم عند الله وهو من ينال المكانة الرفيعة

وثمة في الآية السابقة رفضٌ مطلقٌ للتعصب سواء كان للعرق أو اللغة أو اللون أو الانتماء القومي أو لشعب بعينه، وتأكيد على أن الله خلق الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا ويتقاربوا ويتمازجوا. ويرفض القرآن الكريم كل مفاهيم استعلاء عرق أو شعب أو أمة على الآخرين، لأن الاستعلاء يولد الحروب والمظالم والاحتلال ويشرع الاعتداء على حقوق الآخرين. إن مبدأ المساواة الذي وضعه الإسلام أكبر ثورة عرفها تاريخ البشرية

تعيش الشعوب والأمم والقبائل في مناطق جغرافية وفي أقاليم مختلفة، ولكل منها بطبيعة الحال لغتها الخاصة ولونها ونمط الحياة الذي يناسبها. وليس في هذا ضير على الإطلاق، ولا تعني هذه الفروق أن بعض الناس يتمتع بأصل رفيع دون غيرهم. ولا يحق لأي عرق أو شعب أن يستحقر أي عرق أو شعب آخر لأنه يختلف عنه في اللون أو الأصل. فاختلاف اللغات والأعراق والأصول لا يبرر التعدي على حقوق الآخرين أو احتلالهم أو انتهاك حقوق الإنسان

وجاءت الأحاديث النبوية الشريفة لتعزز ما ورد في الآية أعلاه. إذ خاطب النبي ﷺ الناسَ عند فتح مكة بعد الطواف حول الكعبة، قائلاً: "الحمد الله الذي أذهب عنكم عيب الجاهلية وتكبرها، الناس رجلان رجل برّ تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله. يا أيها الناس كلكم من آدم وآدم من تراب

لقد انتقد الرسول الكريم ﷺ التعصب القبلي والحروب التي أشعل التعصب نارها، وأشار إلى أن كل من يساعد عشيرته وهي ظالمة، فإنه يساند الظلم ويشبه حاله حال الذي يحاول شد ذيل الجمل الواقع في الحفرة لإنقاذه. إن من يقوم بذلك سوف يغرق في حفرة الذنوب. وبيَّن الرسول ﷺ أن كل من يثير قضية القبلية ويخوض الحروب من أجلها ويموت في سبيلها ليس من أمته عليه السلام

والخلاصة أن المجتمع الذي هدفَ القرآن الكريم لإنشائه وأراد رسولنا ﷺ تأسيس دعائمه لا امتياز فيه لأحد على أحد للغة أو عرق أو لون أو وطن أو أمة أو شعب؛ فجميع البشر سواسية عند الله، ولا فضل لأحد على الآخر إلا بالتقوى. التقوى هي المعيار الحقيقي للارتقاء ولبلوغ المكانة الرفيعة. والصالح من الناس هو من يتمسك بأوامر الله تعالى ويتجنب نواهيه. لذا فإن القرآن الكريم يأمر بالتسابق في الخيرات والتقوى وينهى عن الظلم ومساندة الظلمة

الحواشي: 1) النساء، 4/1. 2) الحجرات، 49/13. 3) انظر أفضال الرحمن، موسوعة السيرة النبوية، مترجم، منشورات انقلاب، إسطنبول، 1996، III 153 - 154. 4) أبو داود، أدب، 120 الترمزي، مناقب، 75، أحمد بن حنبل II 361، 524، بيهقي، شعب الإيمان، الجزء السابع، 125. 5) أبو داود، أدب، 121. 6) المائدة، 5/2


الحق والباطل

سميح يول آتشان

غدا الإنسان منذ خلقه ممثلاً على مسرح العالم حيث يتصارع الخير والشر، في هذا المسرح يختار جميع الممثلين بإرادتهم أن يكونوا إما إلى جانب الحق أو إلى جانب الباطل، ويحاولون لعب أدوارهم على أتم وجه. ولا شك أن سعي الإنسان ليكون إلى جانب الحق أمر طبيعي، غير أنه من العسير فهم سبب توجه الإنسان للسير على درب الباطل؛ لماذا يصر الإنسان على أن يكون من أهل الباطل؟ وما الذي يدفعه إلى ذلك؟

إن الإنسان يضل الطريق عندما يشيح بوجهه عن الأوامر الإلهية، لذلك ينغمس في مستنقع الكفر، فيفنى فيه ويمسي هذا المستنقع غذاءه، وعقله الذي يفكر، وعينه التي ترى، وأذنه التي تسمع، ولسانه الذي ينطق؛ لهذا زاغ محور الحق والباطل، وغدت كل الحقائق هذا المستنقع. وتعرض الآية الكريمة التالية لنا هذه الحقيقة

وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (الزخرف 36-37)

وعندما يقع الذين حادوا عن جادة الصواب فريسة لهذه الأوهام، تراهم يقولون للأنبياء الذين يدعونهم إلى الله تعالى الواحد الأحد الذي لا ريب في وجوده: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ (ص 5) معتقدين أنهم بقولهم هذا يدافعون عن الحق

لا بل تراهم- فوق ذلك- يتبجَّحون بأنهم ما زالوا في المستنقع الذي يتخبطون فيه، ويفرحون بذلك قائلين: ﴿إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا﴾ (الفرقان 42)

إن من يسقط في مستنقع الباطل ينادي: ﴿وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ (الأنبياء 68) عندما يرى تحطم الأصنام التي نحتها بيديه، والتي لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تنطق، ويسمع ذلك النداء لكنه يعجز عن إدراك أنه يعبد آلهة مسكينة هي نفسها بحاجة إلى مساعدته

وقد يكون المستنقع مستنقع تكبر يدفع بإبليس إلى رفض السجود للإنسان والقول: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ (الأعراف 12)

وقد يكون مستنقع غيرة كالتي أحاطت بقابيل من كل جانب، ودفعته ليقول لأخيه من أمه وأبيه: ﴿لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ (المائدة 27). أو تماماً كما حصل مع إخوة يوسف الذين قالوا

اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (يوسف 9)

وقد يغرق بعضهم في مستنقع الجاه والمنصب، ويصابون بالجشع كالجشع الذي دفع بفرعون إلى نسيان مدى عجزه فادَّعى الألوهية وقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ﴾ (النازعات 24). لقد خلط فرعون الحق بالباطل حتى إنه قال لمن حوله

﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ (غافر 26). وقد أصابَ نمرود الداءُ نفسهودفعه إلى مقارنة نفسه بالله تعالى- إن صح التعبير- والقول: ﴿أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ (البقرة 258) متناسياً أنه مخلوق

مستنقع الشهوات مستنقع آخر يُمتحن فيه الإنسان، هذا المستنقع الذي غرق فيه قوم لوط فقالوا لنبيهم عندما دعاهم إلى الحق: ﴿أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ (الحجر 70). لقد أعمى الباطل أعينهم إلى درجة أنهم باتوا ﴿لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ (الحجر 72). وقالوا عن قوم لوط لمَّا كفَّت عقولهم عن العمل: ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ (النمل 56)

إن حب المال عندما يتجاوز الحد، يُعمِي الأبصار ويحجب الحق ويجعل الإنسان ينسى أن المال لمالك الملك، لذلك يجيب قارون أولئك الذين نصحوه بأن ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص 77)، بقوله: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي﴾ (القصص 78)

لقد كانوا جميعهم متمسِّكين بدعاويهم الباطلة، ولم يتنازلوا أو يحيدوا عن طريقهم قيد أنملة، إلا أن الله تعالى ينبهنا بقوله

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (الكهف 103-104)

ويضيف مخاطباً نبيه الكريم ﷺ

قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (الأنعام 91)

وهذا بلا شك تحذير لأولي الألباب والفطرة السليمة يتَّعظون به.. فاللهَ نسأل أن ألا تزل أقدامنا بعد ثبوتها، وأن يجعلنا في عداد عباده الذين يتبعون الحق ويجتنبون الباطل ويرون الحق حقاً والباطل باطلاً. آمين


الخشوع في العبادة - (تطهير القلب)

الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (البخاري، الإيمان، 37، تفسير القرآن، 31/2)

إن العبادة هي ذلك الميثاق الأزلي الذي أخذه الله تعالى على عباده وهم لا يزالون في أصلاب آبائهم، ميثاق العبودية له سبحانه، والإقرار بربوبيته تعالى، وأداء ذلك على أحسن حال وأكمله

هذا الأداء للعبادات هو بوابة المرء إلى عالم الروح والوصال مع الحق سبحانه، وهو الخلاص من هموم الدنيا وأدناسها وأرجاسها، والرقي إلى جوار الحضرة الربانية حيث راحة الروح وطهر القلب، وطمأنينة النفس، والشفاء من كل داء، والأمن من كل خوف، والحصول على السعادة الأبدية

فالعبادات هي الواحة الغنَّاء في الصحراء الدنيوية الجرداء، وهي زاد العبد وراحلته في رحلته عبر الدنيا إلى الآخرة

وعندما يرفع العبد يديه في الصلاة بتكبيرة الإحرام فكأنه يرفعها ليطرق أبواب السماء، وحين ينادي بالتكبير فكأنه يطلب الإذن للدخول في معية رب الأرض والسماء، فيبدأ بالبسملة التي بها يُبتدأ كل أمر ذي شأن، ثم يحمد الله  تعالى ويمجده ويثني عليه، وبعدها يبدأ الدعاء والطلب والرجاء، ويطلب الهداية إلى طريق السعادة

وإذا كان الحق -تبارك وتعالى- قد خلق الناس لغاية، وهى العبادة؛ فإن الوصول إلى هذه الغاية لا يتأتى إلا بإتقان هذه العبادة بالخشوع

والخشوع يعني المثول بين يدي الله تعالى في حالة شعورية خاصة، تجمع بين مشاعر الخوف والرجاء وعقائد الولاء والبراء، بين السكينة والطمأنينة، بين الانفصال عن عالم الأرض والاتصال بعالم السماء، واستشعار معية المعبود وحضرته، واستحضار مهابته وقدرته وخشيته

- وأعظم هذه العبادات أثرًا وأعمها نفعًا هي الصلاة، وهي من أجَلّ النعم التي حبا الله تعالى بها عباده، ومن أقوى الأسباب التي تربط العبد بربه، بقول النبي صلى الله عليه وسلم

ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين، مقبلاً عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة (مسلم، الطهارة، 17)

وعن أنس، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حضرته الوفاة، قال: فقال لنا

«اتقوا الله في الصلاة، اتقوا الله في الصلاة ثلاثًا، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، اتقوا الله في الضعيفين المرأة الأرملة والصبي اليتيم، اتقوا الله في الصلاة»

فجعل يرددها وهو يقول: «الصلاة» وهو يغرغر حتى فاضت نفسه

وإذا أدرك العبد ماهية الصلاة وحقيقتها، واستشعر معناها، وذاق لذتها، لم يستبدلها بغيرها أبدًا؛ حتى ولو كانت الجنة

يقول سليمان الداراني قدس الله سرَّه

«لو خُيِّرت بين ركعتي صلاة ودخول الفردوس لاخترت الركعتين، لأن دخول الفردوس في الجنة هو مطلبٌ للنفس يسعدها، لكن حين أصلِّي ركعتين، فإنني سأكون مع ربي عزَّ وجل»

والصلاة تختلف عن بقية العبادات، ففي الصلاة يكون العبد منفردًا مع ربه، لا يرائي الناس بزكاته، ولا يباهي بحجه، ولا يمارس حياته مع صيامه، إنما يقف بين يدي ربه بجسده وروحه وقلبه، لا تشغله من شواغل الدنيا سوى ما تشغله به نفسه

وحين يقف العبد للصلاة يجب أن يقطع كل اتصال له بالدنيا، ويرفع كل حواسه عنها، ويصرف مشاعره دونها، ولا يقع في مداركه شيءٌ سوى الاتصال بالملأ الأعلى، فإذا وصل إلى حقيقة الصلاة وكنهها، حينئذ تنزاح الأستار، وتنكشف الأسرار، وتتجلى الحقائق والأنوار

والصلاة تشترط للخضوع فيها -شأن كل العبادات- أن تستشعر معية الله تعالى ومراقبته لك، فإذا أيقنت بهذه المعية والمراقبة استحييت أن تنشغل بغيره سبحانه، أو أن يتعلق قلبك بشيء دونه

يقول النبي صلى الله عليه وسلم

الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (البخاري، الإيمان، 37، تفسير القرآن، 31/2)

أي أن تجمع قلبك وذهنك، وتتخلص من جميع الأفكار الفانية، وتركز على ذكر الله تعالى، وأن تعبد الله تعالى كأنك تراه مهما كان الحال الذي أنت عليه!

«اذكر الموت في صلاتك فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحريٌّ أن يحسن صلاته، وصلِّ صلاة رجل لا يظن أن يصلي صلاة غيرها، وإياك وكل أمر يعتذر منه». (الديلمي، الفردوس، جـ1، 431. قارن: ابن ماجة، الزهد، 15؛ أحمد، جـ5، 412)

ويصف الله تعالى الصلاة الحقيقية في قوله

(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت، 45)

ودوام حالة الانتهاء عن الفحشاء والمنكر بعد الصلاة هو المؤشر الأوضح على استمرار حالة الخشوع والطمأنينة بعدها، وإلا فإن الصلاة لم تكن كما يريدها الله تعالى، حينها يستحق صاحبها هذا الوعيد الإلهي في الآيات التالية

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ. وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون،4-7)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، ثم انصرف، فقال

«يا فلان، ألا تحسن صلاتك؟ ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي؟ فإنما يصلي لنفسه، إني والله لأُبصر من ورائي كما أُبصر من بين يدي» (مسلم، الصلاة، 108)

وهؤلاء الذين لا يراعون في الصلاة إلا الحركات والسكنات، ولا يبالون بالرحمات والفيوضات، كمثل الذي يؤدي دَينًا وهو كاره، أو يفعل خيرًا وهو مُجبر، أو يقوم بواجب اعتيادي خالٍ من الروح والشعور

ويصف المولى سبحانه الصلاة الحقيقية المثالية حين يقول

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون، 1-2)

ويصف الصحابي عبد الله بن الشِّخير رضي الله عنه حال الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاته، فيقول

«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء»

ويوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرورة الخشوع في الصلاة فيقول

«...إذا توضأ الرجل ثم قام فصلى، فحمد الله وأثنى عليه ومجّده بالذي هو له أهل، وفرَّغ قلبه لله، إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه» (مسلم، المسافرين، 294)

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا بعد أن فرغ من وضوئه

«منْ توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه، غُفر له ما تقدم من ذنبه» (البخاري، الوضوء، 24، 28؛ مسلم، الطهارة، 3-4)

ويقول أبو الدَّرداء رضي الله عنه: «مِن فِقْه المرء إقبالُه على حاجته حتى يُقبِل على صلاته وقلبُه فارغ». (البخاري، الأذان، 42)

وكان وجه سيدنا علي رضي الله عنه يصفرُّ حين يقف للصلاة لما يكون عليه من خشوع، ويتجرد حتى من إحساسه ببدنه، وقد وقف ذات مرة للصلاة كي يُخرجوا من قدمه المباركة سهمًا أصابه في المعركة، إذ كان يعلم من نفسه أنه لن يشعر في الصلاة بأي ألم، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كم من عبد يصلي صلاته على هذا النحو بأن يقطع علاقاته كلها عن الدنيا وما فيها؟

لكن العبد الذي لم يصل إلى هذه المرتبة في الخشوع والكمال في العبادة، لا ينبغي عليه أبدًا القنوط من عبادته وتركها؛ بل عليه أن يضع هذا الكمال موضع الهدف والغاية، ويجعل من أخطاء عباداته درجات أولية في سلم الرقي إلى الدرجات العلى، ويجعل شغلَه الشاغل في كيفية تجنب أخطائه، ويجعل مطاعن عبادته هي الجراحات التي يسعى لمداواتها، فمنْ تمسك بالخيط الرفيع، أوشك أن يرتبط بحبل الله المتين

 وثمة فائدة كبرى في انتظام الصلاة على وقتها، وهي انتظام حياة العبد على وتيرة مادية ومعنوية متناسقة، فيصير وقته منظمًا، وعمله منظمًا، ومدده السماوي منتظمًا، وحياته كلها تسير بوحي من ذلك التناسق والانسجام

كما تحافظ الصلاة المنتظمة على نشاطك العقلي وتيقظك الفكري، وبها يرتفع مؤشرك الإيماني وسموك المعنوي، وبها تطهر من وصمات الدنيا وطينها الأرضي

- والصوم كذلك من العبادات التي يجاهد بها المرء دنياه، ويسعى بها إلى أخراه، ويواصل بها السلوكَ في طريق مجاهدة نفسه وهواه، ليصل بها إلى أسمى درجات الإحسان والتقوى

فغاية الصوم مجاهدة النفس، وتخطي عقباتها الكؤود، والانفلات من نيرها، والتحرر من قيادها، وإلجامها وقهرها بالامتناع عن تحقيق مرادها، وليس الصوم عن طعام وشراب وشهوة؛ إنما الصيام عن الرغبات الدنيوية للنفس، والصيام عن الذنوب صغيرها وكبيرها، وهو المعنى الذي قصده الشيخ عبد الله دهلوي عندما قال

«إن حياتنا في هذه الدنيا هي يوم واحد فقط، فيجب علينا أن نصوم ذلك اليوم»

ورياضة الصوم تبدأ بتدريبنا على التقليل من المباحات، والاقتصاد في الحلال، ثم الابتعاد عن الشبهات؛ فضلاً عن الامتناع التام عن المحرمات، فيكتسب العبد من الأخلاق والفضائل والقوة ما يجعله صامدًا أمام المشقات، قويًا أمام الصعوبات، متسلحًا ضد الشهوات والرغبات

فيدرك الناس -غنيهم وفقيرهم- معنى الجوع، ويحسون بمدى عظمة نِعَم الله تعالى عليهم، ومدى معاناة المحرومين من هذه النِعَم، ومن ثم يزرع في الجميع الإحساس بالتعاون والتراحم

والصوم يُحيي في الناس مشاعر التقوى ويزيد من صفاء القلوب، فالله تعالى يقول

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة، 183)

ويوضِّح رسول الله صلى الله عليه وسلم فضيلة الصوم في الحديث التالي

عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنة، وإذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤٌ صائم» (البخاري، الصوم، 9؛ مسلم، الصيام، 163)

إنَّ امتلاك العبد لإرادته هو الضمانة الأقوى أمام رغبات النفس وطبيعتها الشهوانية، والذي يقوِّي هذه الإرادة وينميها هو المنهج التربوي الذي يُعد الصوم أصلا من أصوله

يقول مولانا جلال الدين الرومي -قدس الله سره- في ضرورة تناول الطعام القليل في الدنيا لنيل نِعَم العالم الأبدي

«الغذاء الأساسي للإنسان هو الحكمة والعشق الإلهي، لهذا ليس من الصواب إعطاء البدن غذاءً أكثر من اللازم»

«إن الإنسان يفقد الطمأنينة حين يكون قلقًا على غذاء بدنه وينسى غذاءه الروحاني الأساسي؛ لأنه لن يعرف الشبع في هذه الحالة. لذلك تراه مصفرَّ الوجه مرتجف القدمين مضطرب القلب نتيجة حرصه، ولكن شتَّان بين الغذاء الأرضي والغذاء الأبدي!»

«ويقول الله تعالى عن الشهداء أنهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ، ولا يوجد فمٌ أو جسد لهذا الغذاء المعنوي»

وللصوم حقيقة -لابد من الوصول إليها وتحقيقها حتى يحقق العبد معنى الصوم، ويصل إلى الغاية من عبادة الصوم- هي صيام الحواس مع صيام الجوارح، فصيام الفم والفرج لابد أن يتبعه صيام العين والأذن واللسان وكافة الأعضاء،كي يكون وقت إفطارنا وقت العفو عن ذنوبنا

وجاء في الحديث الشريف

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابَّك أحد، وجهل عليك فقل: إني صائم» (الحاكم، المستدرك، جـ1، 595/1570)

وعن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأتين صامتا وأن رجلاً قال

«يا رسول الله إن ها هنا امرأتين قد صامتا وإنهما قد كادتا أن تموتا من العطش»، قال: فأعرض عنه أو سكت، ثم عاد فقال: «يا نبي الله إنهما والله قد ماتتا أو كادتا أن تموتا»، قال: «ادعهما»، قال: فجاءتا، قال: فجيء بقدح أو عس، فقال لإحداهما: «قيئي» فقاءت قيحًا أو دمًا وصديدًا ولحمًا حتى قاءت نصف القدح، ثم قال للأخرى:«قيئي»، فقاءت من قيح ودم وصديد ولحم عبيط وغيره حتى ملأت القدح، ثم قال

«إن هاتين صامتا عمَّا أحل الله وأفطرتا على ما حرم الله عزَّ وجل عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان من لحوم الناس» (أحمد، جـ5، 431؛ الهيثمي، جـ3، 171)

- وعبادة «الزكاة» أيضًا تملك من أساليب التربية والعلاج المجتمعي ما يصب في رافد خشوع العبادات، وتهذيب النفس، فـ«الإنفاق» عبادة فُرضت لعلاج النفس الفردية للإنسان، والنفس الجماعية للمجتمع، ولعلاج الروابط النفسية والاجتماعية بين أفراد المجتمع المسلم

فالمال أحد أقوى الشهوات التي تتحكم في النفس البشرية، فمنْ امتلك المال يرفض بشدة إنفاقه إلا على ملذاته، ويتعامى عمنْ هو في احتياج إلى فُتات منه، ومن لم يمتلكه كَنَز في قلبه حقدًا وحسدًا على منْ يضن عليه بالمال

 أما إذا أخرج الغني زكاته وصدقاته وهداياه ليطفئ نار حسد هذه القلوب، وليقطع حبال قيود هذه النفس الشحيحة، حينها تتحول هذه النار التي تأكل القلوب إلى حرارة تدفئ العلاقات الإنسانية بين الأغنياء والفقراء، وتتحول هذه القيود التي تلجم النفس عن الإنفاق إلى أسباب تربط القلوب بعضها ببعض، وتربطها بالله سبحانه في معادلة إسلامية من التكافل والتعاون والتراحم، ونفي التباغض والتحاسد، وحجة للجميع أمام الله تعالى حين يسأل صاحب المال من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وطُهرة لهذا المال من آفة الحرام والشبهات

وقد حفل القرآن الكريم بذكر آيات الزكاة؛ بل ربطها المشرِّع في سبع وعشرين آية بالصلاة عماد الدين، تنبيهًا لأهميتها و خطرها

والزكاة دَينٌ بمقدارٍ معيَّنٍ مفروضٍ من الله تعالى على من كانت لديه الإمكانية كي يؤدِّيها للمحتاجين، يقول المولى عزَّ وجل في القرآن الكريم: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات، 19)

هذا الحق المقرر من لدن صاحب خزائن السماوات والأرض لصالح السائل والمحروم يصير -وفق تفصيلات التشريع- وكأنه ضريبة إلهية في مال الغني، يُطَهِّر بها ماله، ويؤكد بها حله، فتزيل هذه الضريبة الثقل المالي الجاثم على قلب الغني، وتساعده على الانفكاك من ربقته، وتزيل التكدس المتزايد على كفة واحدة في المجتمع فتميلها ميلاً عظيمًا، وتعيد توزيع المال بشكل تسير معه عجلة الحياة في المجتمع الإسلامي بعدالة واتزان

ويتحقق التوازن والعدالة والانسجام الاجتماعي، ويكفي لفهم هذه الحقيقة النظرُ إلى آية (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (الأعلى، 14)

وثمة نكتة لغوية مهمة في تلك المسميات، فكلمة «الزكاة» تعني «التزكية» والتطهير، فمنْ فعلها كان هو صاحب العقلية الاقتصادية التربوية في الحفاظ على أصل ماله وحله، وطهارة نفسه ونقائها

 ولنعلم أن الزكاة هي الحد الأدنى المفروض من درجات الإنفاق، فمنْ أراد زيادة في التطهير والتزكية فعليه الزيادة من الإنفاق والصدقة، وهو المعيار الرباني الذي أشارت إليه الآية الكريمة

(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (آل عمران، 92)

وفي لمحة تربوية شديدة الوضوح والترغيب، يربط هذا الإنفاق بنوال رباني، ويضعه تحت رقابة ربانية مباشرة

ولعلنا نلحظ أن الإنفاق والصدقة -بخلاف الزكاة- ليس لها حدٌّ أو سقف تشريعي؛ بل تُرك الباب مفتوحًا أمام المسلم لينفق بلا حدود، وتُرك الأجر كذلك بلا سقف وبلا حدود، وظل الثواب مخفيًا كما في الصيام، فقد منح الله الأمة الخاتمة للنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ما لم يمنحه لغيرها، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف، حتى الهمُّ بالسيئة ثم الامتناع والهم بالحسنة والتوقف؛ كل ذلك له -من كرم الله وفضله- أجر

ويقول الله تعالى في الآية الكريمة

(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة، 103)

ولا بد من ملاحظة أن الآية الكريمة تشير إلى أن الزكاة والإنفاق تطهِّران العبد من ناحيتين: المالية والقلبية

ويوجِّه الله تعالى تهديدًا في الآيتين الكريمتين الآتيتين

(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة: 43- 35)

ويحذِّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول في الحديث

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«منْ آتاه الله مالًا، فلم يؤد زكاته مُثِّل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه -يعني بشدقيه- ثم يقول أنا مالك أنا كنزك»، ثم تلا: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (آل عمران، 180)

ومنْ بخل بمال الله على الفقراء من عيال الله لم يسلب هؤلاء المحتاجين حقهم فقط؛ بل حرم نفسه أيضًا من فرصة التحرر من حب المال، وحرم قلبه من وسيلة تطهير وتهذيب

وقد عاودت الآيات بيان خطر هذه المحبة للمال على قلب صاحبه، وكانت التسمية القرآنية لتلك الحالة أنها «فتنة»؛ إذ يقول الحق تعالى

(إِنَّمَا أَمْوَالُكُم وأوْلادُكُم فِتْنَة) (التغابن، 15)

هذه الفتن في المال والأبناء يمكن للإنسان تفاديها والتحصن ضدها، ليس فقط من خلال الإنفاق والصدقة؛ إنما وسائل التحصن أوسع من ذلك بكثير، ربما تبدأ من دائرة الخلاص من حب الدنيا واجتثاث جذور هذا الحب من أعماق القلب، والدائرة الخاصة بالمال هي إدراك حقيقة أن هذا المال -ومال الدنيا كلها- مجرد أمانة في عنق صاحبها مُلزم بردها، وردُّها هو ثقل يزيحه عن كاهله، وليس جزءًا يقتطع من أملاكه

أي أن زيادة الإنفاق هي زيادة في التخلص من الأعباء

والقرآن الكريم يفتح لنا مصراعًا واسعًا لمعاني الإنفاق، فيجعل كل الأخلاق الكريمة مجالاً للتبادل والتباذل والتعاطي والتعامل والعطاء والإنفاق، ويقول الله تعالى في الآية الكريمة

 (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (البقرة،219)

إن الغني الكريم الشكور، والفقير النبيل الصبور هما في مقام الشرف الإنساني والرضا الإلهي، وقد ذمَّ الإسلام الغنيَّ المتكبر الشحيح، والفقير الذي لا صبر عنده ويعصي الله عزَّ وجل

والزكاة ما هي إلا شكر عملي من صاحب المال والثروة، وزيادة النعم بالشكر هو وعد إلهي، فالله تعالى يقول

(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم، 7)

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُحبُّ الإنفاق كثيرًا ويحث عليه، ويقول في الحديث القدسي

«قال الله: أَنفق يا ابن آدم، أُنفق عليك» (البخاري، النفقات، 1)

وفي حديث آخر يقول

«ثلاثة أُقسِم عليهن وأحدثكم حديثًا فاحفظوه»، قال: «ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظُلِم عبدٌ مظلمةً فصبر عليها إلا زاده الله عزًا، ولا فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر أو كلمة نحوها»

وكان النبي صلى الله عليه وسلم دائمًا يحب أن يكون الكرم طبيعة المسلم الأصلية

«لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسُلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» (البخاري، العلم، 15)

ويوضِّح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الفوائد المعنوية للكرم بمثال من العالم المادي

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده، حتى تخفي بنانه وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسِّعها ولا تتسع

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا ليحث على السخاء

«تجاوزوا للسخي عن ذنبه، فإن الله تعالى يأخذ بيده عند عثرته» (الهيثمي، جـ6، 282؛ قارن: أبو داوود، الحدود، 5/4375)

وخلاصة القول إن فطرة الإنسان الـمُحبة للدنيا وزينتها، الميالة إلى الدنيا وزخرفها، تطمح إلى جمع المال وكَنزه، وكلما ازداد جمع المال ازداد الجشع والحرص والامتناع عن الإنفاق، وتطاولت المماطلة والتأجيل والتسويف، وتباعدت المسافة بينه وبين الناس فقرائهم ومحتاجيهم، ومرضاهم وعانيهم، فتقطعت الأوصال وتبلدت المشاعر، وخبت جذوة الأخلاق

وأما الإنفاق، فمنْ يفقد الإحساس بالناس، يفقد القدرة على الإنفاق؛ بل يفقد الرغبة في ذلك، ولا يملك من وعود ماله إلا التسويف، وتخاطبه النفس بلغةٍ خدَّاعةٍ قائلة

«يجب أن تكون غنيًا أكثر، فأنت تستطيع أن تنفق وتعمل الخير في المستقبل!»

وهؤلاء هم الذين ضل سعيهم، ويظل الشحيح طوال عمره جامعا لما يُحاسَب على جمعه، ومُمسِكا لما يُحاسب على إمساكه، ومقتِّرا حتى على نفسه التي أجهدها التقتير والإمساك، والسعي والشح، أولئك هم الذين انطبق عليهم القول المأثور: «هلك المسوِّفون

ويصف الله عزَّ وجل في الآية الكريمة حال الإنسان الذي أفاق من غيبوبته ساعة الموت وما يخالجه من شعور أبدي بالندامة

(رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (المنافقون، 10)

وللإنفاق آداب ومشاعر، فالمنفق عليه أن يشعر بالامتنان تجاه من أخذ ماله وأراحه من ثقله، وتجاه من أخذ صك الدَّين الذي ينوء به كاهله، وتجاه من بسببه يملأ الله صحيفته أجرًا وثوابًا، وتجاه من أخذ المضغة التي هي حظ الشيطان في ماله ونفسه

يقول الله تعالى مبيِّنًا أهمية تقديم الصدقة للمحتاج بقلبٍ حساس

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ) (التوبة، 104)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (البقرة، 264)

ويبيِّن الحديث التالي لزوم إعطاء الصدقة بحالة روحانية

«إن الصدقة لتقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل، وإن الله ليدفع بها سبعين بابًا من مخازي الدنيا» (أبو نعيم، الحلية، جـ4، 85)

إنه المنفق لا يعطي ماله للمحتاج، ولكنه يعطيه ليعتق نفسه من أسر الدنيا، ويعتق قلبه من حَزَن الدنيا، ويشتري بهذا المال السعادة الأبدية، فليكثر منه أو ليقلل

إن مالك الـمُلك سبحانه وصاحب الخزائن التي لا تنفد قادر على أن يحيل الجبال ذهبًا والرمال تبرًا، وسُحُب السماء منًّا وسلوى، وحصى الأرض حليبًا وعسلاً، وهو سبحانه يفعل ذلك وأكثر، ألا ترى مُزن السماء يسوقها إلى الأرض القاحلة فتحيا ويحيا الناس في خيرها؟! ألا ترى حبات صغيرة ينبِت الله بها من الطين ألوانًا شتى من الطعام والفاكهة رطبًا ويابسًا؟ أليس يملك سبحانه أن يجعل رزق الإنسان وفق إنفاقه وصدقته؟

بلى والله، وهو واقع بالفعل ولكنه يوم القيامة حين يكون كل امرئ في ظل صدقته

والإنفاق على مخلوقات الله احتسابًا لله، وابتغاءً لمرضاته، وحبًا في ذاته، هو أيضًا لذة يجدها المنفق حين يسهم في إسعاد مخلوقات منْ يحب، والإنعام على موجودات منْ يعشق

- وأما عبادة «الحج» فذات طبيعة خاصة، إذ هي عبادة بدنية ومالية في آن معًا، وطبيعتها الخاصة تعود إلى مناسكها وشعائرها التي تربط الإنسان بالماضي السحيق وعصور الأنبياء المتعاقبة من لدن آدم وإبراهيم وإسماعيل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فمنْ يحج الآن كان ممنْ لبى نداء خليل الله إبراهيم عليه السلام حين أذّن بالحج فسمعته الذريات في أصلاب آبائها وأجابت نداءه

وكذلك يرتبط الحاج بالغيب المستقبلي يوم القيامة حين يلبس ملابس الإحرام، ويقف على صعيد عرفات، لا يحمل من متاع الدنيا شيئًا، ولا يميزه عن بقية الخلائق شيء إلا ما يفقهه من معاني مناسك الحج؛ تلك المناسك التي ترتقي بالإيمان في القلب إلى أسمى الدرجات، وتربط القلب بالملأ الأعلى، فيدرك تسبيحات السماء التي تتناغم من ترنيمات قلبه المشتاق إلى لقاء ربه، والذي هيجته الذكرى في مشاعر الحج وذكرياته ومناسكه وتلبياته؛ لذا فالحج وسيلة للوصول إلى سر مقولة أهل التصوف

«موتوا قبل أن تموتوا»

وحقيقة عبادة الحج أنها بوتقة واحدة كبرى ينصهر فيها المسلمون جميعًا بنار العشق وحرارة الوجد، ثم ينهلون جميعًا من تجليات الله تعالى، ويلتحمون جميعًا في حال معنوي واحد فتنفذ إلى روحهم فيوضات ربهم عزَّ وجل

والحج عبادة يجد فيها الإنسان طمأنينة روحية، ويتصل بجذوره الضاربة في أعماق التاريخ، وهي مظهر روحاني يتطهر فيه القلب حين يرتشف من معين الفيوضات الإلهية

إن الكعبة المعظمة هي قبلة المؤمنين التي أمر الله تعالى بالتوجه إليها في الصلاة وهدفها الاستقامة حين قال

(كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق، 19)

ومنزلة الكعبة ومكانها في الأرض بمثابة منزلة القلب ومكانه من الإنسان، وكما أن القلب هو مظهر تجليات الحق وفيوضاته، فكذلك الكعبة هي مظهر تجليات الله تعالى على الأرض وفيوضاته على عباده، فالكعبة هي قلب الكون، والحج بذلك هو أشد العبادات حساسية، وأكثرها إلحاحًا في استحضار القلب ومشاعره عند الأداء

ويقول سلطان العارفين أبو يزيد البسطامي رحمه الله

«في المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى الحج رأيت الكعبة فقط، وفي الثانية رأيت الكعبة وربَّها، أما في الثالثة فقد رأيت رب الكعبة فقط»

هذا الترقي في درجات الإحساس والصفاء المعنوي، وهذا الاختراق المتواصل لأستار الغيب سترًا وراء ستر، وهذه الرقة والرحمة والمحبة والعشق، كل ذلك يطهر طبيعتك الإنسانية لتصل إلى درجة الملائكة

ففي الحج يكون المظهر والمخبر متشبهًا بالملائكة في اللباس الأبيض الناصع، وفي اللسان العفيف المنزه عن الرفث والفسوق والجدال، وفي السلوك الرفيق الممتنع عن الصيد الحلال، وفي المعاملة الرقيقة مع كل كائنات الكون حبًا وعشقًا لرب الكون

وكذلك في الحج يكون المظهر والمخبر متشبهًا بمراحل الموت في الكفن الأبيض، وفي أرض المحشر، وفي المحاسبة الدقيقة لكل جزء من المال المشارك في رحلة الحج، كالمحاسبة الدقيقة لكل عمل يعمله المرء أمام ربه

 وثمة أمر آخر تحذيري هو أنه لا بد للمرء القادر على الذهاب إلى الحج أن يتفكر في هذه الأمور جيدًا، وأن يحذَر بشدة من التراخي أو التقاعس عن الذهاب إلى «الحج» إن توفرت أسبابه، وإلا فإنه سيواجه التحذير الشديد من النبي صلى الله عليه وسلم حين قال

«منْ ملك زادًا وراحلة تبلِّغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًا، أو نصرانيًا، وذلك أن الله يقول في كتابه

(وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)(آل عمران: 97)،» (الترمذي، الحج، 3/821)

ولم يصف الله تعالى في نهاية الآية أولئكَ الذين يمتنعون عن الذهاب إلى الحج على الرغم من استطاعتهم بقوله «منْ لم يحج» بل قال

 (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران، 97)

إن هذه التحذيرات الإلهية موجَّهة لمنْ يهمل هذه العبادة -رغم توفر جميع شروطها لديه- بسبب غفلته، تحذيرات بأنه سيلقى خسرانًا أليمًا وسيذوق العذاب الإلهي

وما أفدح خسارة المسلم حين يعرض عن الذهاب إلى الحج الذي يطهر قلبه وينقي من ذنوبه

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الشريفة

«منْ أتى هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه»

(مسلم، الحج، 438)

«تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد، والذهب، والفضة، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة» (الترمذي، الحج، 2/810؛ النسائي، المناسك، 6/2629؛ ابن ماجة، المناسك، 3)

«النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف» (أحمد، جـ5، 354-355)